النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: شجاعة

  1. #1 شجاعة 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    17
    معدل تقييم المستوى
    0
    -1-
    جلست سلمى أمام التلفاز على الكرسي المريح في غرفة الجلوس بعد أن قطعت خط الهاتف وأغلقت الهاتف المحمول وأطفأت النور. حضنت وعاءاً كبيراً من البوشار وجلست تنتظر مسلسلها المفضل الذي كانت تتابعه على إحدى القنوات الفضائية. فاليوم ستعرض الحلقة الأخيرة منه، وكانت مصرة على مشاهدتها كاملة دون أي إزعاج على عكس ما كان يحدث معها دائماً في كل حلقات المسلسل السابقة. حيث أن هواتفها لا تهدأ طيلة الحلقة في اتصالات مستمرة من أبويها وإخوتها وأخواتها وأولادهم وبعض أصدقائها.

    كانت سلمى امرأة عزباء تجاوزت الأربعين بقليل، تعيش وحيدة في شقة استأجرتها في حي فقير في المدينة. وعلى الرغم من معارضة أبويها وإخوتها واستنكار الأقارب والجيران خرجت سلمى من بيت والديها لتعيش في بيت وحدها وذلك في عيد ميلادها التاسع والثلاثين. كان سلمى امرأة ذات مزاج خاص جداً أشبه بمزاج الفلاسفة والشعراء، كل من عرفها قال أنها غريبة الأطوار، قوية لحد الشراسة أحياناً، وكان الأقارب يتهامسون أن بها لوثة عقلية وبعضهم يؤكد أنها فقدت عذريتها بطريقة ما، وهذا ما يفسر حسب رأيهم رفضها الزواج رغم تقدم العديد من الشبان في الماضي لطلب يدها.

    في ذلك المساء، وبينما كانت جالسة تشاهد المشاهد الأولى من المسلسل، لمحت خيالاً صغيراً يمر أمامها بسرعة خارقة على الأرض. دققت سلمى النظر على الأرض فلم تجد شيئاً، لكنها كانت متأكدة أنها رأت شيئاً ما، لذلك أضاءت النور في الغرفة وتلت المعوذات ثم عادت لمتابعة مسلسلها الشيق.

    بعد برهة مر الخيال الصغير ثانية من أمامها، فانتفضت في مكانها ووثبت واقفة على الكرسي الذي كانت تجلس عليه، لقد باتت متأكدة الآن، إنه فأر. "ولكن من أين أتى؟" شعرت للحظة أنها محاصرة، فلم تكن تجرؤ على النزول إلى الأرض ولا حتى على الإتيان بأية حركة.

    "لماذا أخاف منه؟ أنا أكبر منه بأضعاف مضاعفة، وأكثر ذكاءاً منه، إذن فالمنطق يقول بأني يجب ألا أخاف منه!" نزلت سلمى عن الكرسي ببطء ومدت يدها إلى الخف، وقبل أن تتناوله مر الفأر ثانية فقفزت وعادت إلى الأعلى في رعب شديد. "حسناً أعترف الآن بأن للرجل في المنزل فائدة". وبعد وقت من التفكير والحيرة، نزلت سلمى بسرعة وركضت حافية القدمين خارج الغرفة وأغلقت الباب خلفها. تنفست الصعداء وهي تفكر أن الفئران لا يمكنها فتح الأبواب المغلقة!

    تذكرت سلمى كيف كانت تلاحق الفئران عندما كنت طفلة وتقتلهم ثم تحملهم من ذيلهم لتخيف بهم باقي الفتيات..."لماذا أخاف من الفأر الآن؟ هل السبب في تكوين المرأة الفيزيولوجي؟ أم أنه خوف اجتماعي انتقل إلي بالعدوى؟ ولماذا لا تنتقل هذه العدوى إلى الرجال؟ هل السبب فيزيولوجي أيضاً يا ترى؟ ربما علي أن أحقن نفسي ببعض التستوسترون!"

    نسيت سلمى مسلسلها وحلقته الأخيرة وهي تفكر بحل لهذه المعضلة، فلم تكن تنوي الاستعانة بأحد الجيران لأنها لم تكن تحب الاختلاط بهم، وحادثة كهذه ستجعلها محور أحاديث جلسات القهوة الصباحية النسائية في الحي، خاصة لأنها عزباء وتعيش وحيدة، كان هذا لوحده سبباً كافياً لأن تكون الأقاويل قد بثت وما زالت تبث عنها بين هؤلاء البسطاء المزعجين. كما أنها لم تكن تريد الاستعانة بأحد إخوتها أو أولادهم، لأن المشكلة القديمة ستفتح من جديد حول عيشها في شقة لوحدها، وسيعتبرون أن هذا دليلاً يثبت خطأ ما تفعله.

    "ما الحل؟" أطرقت سلمى وهي تنفخ وتلعن ذلك الفأر اللعين. ثم لمعت في ذهنها بارقة أمل، حيث تذكرت حاوية القمامة عند ناصية الشارع، وبسرعة ارتدت حجابها وحملت قطعة من الجبن وهبطت إلى الحاوية وهي تتمنى أن يحقق الله ما كانت تفكر به.

    -2-
    وصلت سلمى إلى ناصية الشارع واقتربت ببطء من الحاوية حتى لا تخيف القطط المجتمعة عليها وهي تصدر صوت السين لتلفت نظر القطط.
    "بسبسبسبسبس"
    "مياو"

    عندما أصبحت على مسافة قريبة جداً هربت معظم القطط، إلا قط صغير شديد السواد ذو عيون خضر، كان يبدو غبياً جداً وهو ينظر إليها بعينيه المدورتين دون أن يهرب كما فعل الآخرون. "يبدو غبياً فهل سيستطيع اصطياد الفأر؟ لكنه أملي الوحيد ويستحق المحاولة!" رمت له سلمى بقطعة صغيرة من الجبن فاقترب وراح يشمها ثم تناولها بلقمة واحدة ونظر إلى سلمى ثانية.
    "مياو"
    "حسناً خذ هذه أيضاً"

    رمت سلمى بقطعة أخرى، ثم اقتربت وراحت تحك رأس القط الصغير بقرف نظراً لأنه كان يسبح في القمامة منذ لحظات. عندما انتهى من الأكل، أغمض عينيه ورفع رأسه وراح يستمتع بيد سلمى الناعمة وهي تحك رقبته، فانتهرت سلمى الفرصة وحملته بلطف وعادت به إلى البيت.

    فتحت سلمى باب غرفة الجلوس بحذر، رمت القط على الأرض وصعدت إلى الكرسي.
    "هيا أرنا عضلاتك أيها الصغير!"

    راح القط الصغير يشم الأرض وينظر إلى كل ما في الغرفة وكأنه يتعرف إلى محتوياتها، ولدقائق خمسة كانت سلمى تنتظر في أعلى الكرسي وقد بدأ صبرها ينفذ. وفجأة خرج الفأر من مكانه بسرعة فتنبه القط وبحركة سريعة لحق به، ركض خلفه من مكان لآخر وهو يمد يده محاولاً إصابته، وأخيراً نجح. راقبت سلمى بفرح واشمئزاز في نفس الوقت الفأر الصغير يحاول الهرب لكن القط راح يلعب به وينقله من يد لأخرى ويحمله تارة في فمه ثم يعيده إلى الأرض ليلهو به. وبعد عدة دقائق تركه ساكناً وراح يتمشى في الغرفة. راقبت سلمى الفأر الساكن لبرهة من الأعلى، "الذكي هو من يفترض أن الآخرين أيضاً أذكياء" فكرت "ربما كان الفأر ذكياً مثلي ويمثل أنه ميت". شعرت سلمى بالإثارة وهي تراقب الفأر وتتوقع أن ينهض ويهرب في أية لحظة. ولدقائق لم يحصل شيء، فنزلت من مكانها ببطء وتوجهت نحو المطبخ، أحضرت مكنسة وكيساً، ودفعت بالفأر إلى الكيس ثم أغلقته جيداً وتركته جانب باب البيت ليأخذه عامل النظافة صباح الغد.

    عادت إلى الغرفة بسرعة ورفعت القط إلى الأعلى كطفل وكادت أن تقبله لشدة فرحها، لقد كان هذا القط بطلها الآن، لكنها تذكرت أنه حمل الفأر بفمه وتذكرت أنه كان في القمامة، فوضعته باشمئزاز وذهبت لتحضر له حماماً دافئاً. قامت بغسله بلطف بالماء وشامبو الأطفال حتى لا تؤذي عيونه، ثم قامت بتجفيفه بمجفف الشعر الكهربائي. كانت تشعر بسعادة غامرة وكأنها أم تقوم بغسل وليدها للمرة الأولى. بعد الحمام قبلته من رأسه وأطعمته بعض اللحم، وقد أكله بشهية كبيرة وكاد أن يأكل إصبع سلمى معه، ثم وضعته على كرسي مريح وذهبت لتنام.

    عندما وضعت رأسها على وسادتها تنبهت إلى أمر لم تنتبه له من قبل: هذا القط أسود اللون تماماً، وهي امرأة تجاوزت الأربعين. تخيلت سلمى أي إشاعات شيطانية سيطلقها الجيران عندما يرونها مع قطها الجديد، وخاصة أم تحسين اللعينة التي تفرض نفسها على سلمى كل عدة أيام لتحتسي عندها فنجان قهوة. "عانس عجوز مع قط أسود! يبدو أني سأواجه بعض المتاعب" فكرت سلمى، وطافت في خيالها أفكار عن المشعوذات العجائز والخرافات الساذجة عن الجن الذي يتلبس القطط السود والقرون الوسطى وكيف كان يتم حرق النساء على الأوتاد!

    "هل علي أن أتخلص من القط؟" تساءلت سلمى، ثم قالت بإصرار بعد تفكير "لا، لن أقدم أي تنازل مهما كان الثمن، لن أدع أي شخص يفرض علي ما أفعل! لقد حاربت طوال عمري لأعيش هكذا وسأموت هكذا. ولن يستطيع أحد ركوب ظهري إن لم أنحني!". أغمضت سلمى عينيها ونامت بسلام.
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: شجاعة 
    قاص مربدي الصورة الرمزية خليد خريبش
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,114
    مقالات المدونة
    2
    معدل تقييم المستوى
    20
    تحية أخوية :
    عندما أكملت قراءة النص ازدادت معرفتي بطريقة سرد الأخت قارورة أسلوبها، بعض أفكار الكاتبة التي استنتجت من خلال تتبعي لنصوصها.
    النص دفاع عن المرأة العربية ورصد ذهني لنموذج يناضل من أجل الاستقلالية في مجتمع ذكوري ما زال لم يدخل الحداثة بعد،ما يزال يحن ويقدس الماضي صالحه وطالحه.
    شجاعة :تصف البطلة التي تغلبت على العراقيل والضغوطات النفسية التي يسلطها العنصر النسوي نفسه الذي لم يخرج بعد من شرنقة الأفكار الماضوية، اكترت سكنا مستقلا تمتعا بحقوقها.واستغناء عن حماية الذكر.
    في نظري الضعيف أن ذلك مرده إلى أن المجتمعات العربية ما زالت لم تدخل حداثة حقيقية وما يبدو ما هو إلا تحديث ما زال العربي لم يصفي حساباته مع الماضي قراءة التراث ثم الفصل في الصالح من الطالح والذهاب إلى الأمام.
    ملاحظة أخيرة أن قارورة تمشي إلى الفكرة أكثر مما تمشي إلى تنميق الأساليب .
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: شجاعة 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    17
    معدل تقييم المستوى
    0
    الأستاذ خليد
    أعتذر عن التأخير في الرد..
    نقدك مشكور، وأود أن أسألك..ألم تشعر بالأسى على البطلة؟
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: شجاعة 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية أسامة جودة
    تاريخ التسجيل
    Mar 2007
    المشاركات
    85
    مقالات المدونة
    1
    معدل تقييم المستوى
    18
    قصة تمتلىء بالواقعية مختلطة بمشاعر مرهفة
    بالتوفيق
    أسامة جودة
    *ومن الكلمات ما قتل*
    عضو رابطة كتاب منتدى عمرو خالد الأدبى
    مجموعتى القصصية( كراكيب الفضفضة )
    وعضو منتدى منابر الثقافية ومنتدى الأولمب الأدبي
    وعضو منتدى انانا الأدبى
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مقال: في صياغة الموقف من النظامين السوري والليبي والتمرد عليهما
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى مجلة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02/05/2011, 06:37 PM
  2. صياغة اسم الفاعل
    بواسطة عبد المنعم جبر عيسي في المنتدى لسان الضاد
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 02/10/2009, 11:15 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •