الدوحة
كم طال انتظارهم، وهم يمسون صابرين غير قانطين، ويصبحون على رجائهم في الله القاهر فوق العباد، وعلى أمل اللقاء بدوحتهم التي يشدو على أغصانها الحمام ولا ينوح، وكم اشتد بهم الشوق إلى رؤيتها ...
كم ضحوا بالغالي والنفيس، وكم جاهدوا أنفسهم قبل أن يجاهدوا عدوهم في سبيل إدراكها والوصول إليها، ثم كم وكم أنفقوا من الزمن الثمين من أجل أن يظفروا بخضرة أوراقها اللامعة، وينعموا بظلالها الوارفة في ما تبقى لهم من أيام دنيوية على وجه الأرض، وكم بذلوا من الجهد الجهيد، ونزفوا مكلومين، سواء بجرح أو بغير جرح ...
ثم كم من زفرة محرقة أرسلوها مكرهين من صدورهم حزنا وأسى، وكم عصفت بهم الهموم الثقال، لكن إباءهم وعزة نفوسهم ظلت راسخة شامخة كالجبال، وكم كان هبوب الريح عليهم شديدا قاسيا، لكنه كان يذكرهم بخالقهم وخالق الريح في كل وقت وحين وما زال، وكان لهم في ما ابتلوا به من حال موعظة في الغدو والآصال ...
ذابت قلوبهم من كمد طوال سنوات ذوات العدد، ثم إنهم كم سمعوا عن دوحتهم المنشودة، وكم قرأوا وكتبوا عن فرحتهم الموعودة، بل كم سحروا مسامع أبنائهم وأحفادهم بما سردوه عليهم حولها من نثر، وما نظموه فيها من شعر، وكم أسروا أعينهم بوضاءة وجوههم وصفاء نظرتهم ...
كم كان هؤلاء الناس البسطاء كرماء، حتى لو أن الجود تمثل أمامهم رجلا كريما لانحنى لهم مجلا متواضعا، واليوم، وقد رحل من رحل في سكينة ووقار، وبقي من بقي منهم في شموخ وإكبار، وقد بلغوا من الكبر عتيا، هم غرباء قدماء في أعين غيرهم، لكنهم في دخيلة أنفسهم ليسوا غرباء، بل هم مستأنسين بأنفسهم، ومعاصرين لها ولغيرهم، وأوفياء لدوحتهم ...
د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com
