مشاهدة تغذيات RSS

داود سلمان الشويلي

تجليات الاسطورة - قصة يوسف بين النص الاسطوري والنص الديني -القراءة السيميولوجية (*)

تقييم هذا المقال
تجليات الاسطورة
قصة يوسف بين النص الاسطوري والنص الديني

القراءة السيميولوجية (*)
داود سلمان الشويلي

اذا كانت التأويلية التي راح كتابنا القدماء يقدمون فيها بعض دراساتهم عن القرآن الكريم والتي بنيت اساسا على تأويل للمعنى اللغوي، هي فرع من فروع علم السميائية ، فإنها – تلك الدراسات التي تهدف لشرح او تفسير او تأويل النص – تعتبر تجليات للقراءة وبإختلاف آلياتها، أي انها نوع من انواع القراءة للنص القرآني– دون ان نغض الطرف عن التأثير الايدلوجي - .
وقد تطورت في النصف الثاني من القرن العشرين قراءات نقدية جديدة للنص ، وكان من اهمها: القراءة السيميولوجية التي اعتمدت مجموعة من الآليات : كالتشاكل والتباين والمماثلة ،وكان من اهم انجازات هذه القراءة من خلال آلياتها تلك و بعد فحص النصوص، انها وجدت– أي تلك النصوص - قد ارتكزت على عناصر من اهمها العلامة (Index) التي تدرس العلاقة بين الدال والمدلول .
والنص المدروس لكي يوصل دلالاته الى قارئه حاول ان يستفيد من هذا العنصر السيميولوجي.
فالقميص الذي تجلا بثلاث صور في النص ، كان علامة للتماثل السيميائي في النص ، فالدم الذي وضعه الابناء على قميص يوسف - وكان الاب و من خلال قوى خارجة عن ذاته يعرف ان هذا الدم ليس بدم ابنه يوسف – كان مماثلا لفعل القتل (الاكل - الافتراس) اذ ان الابناء كانوا يعرفون من خلال الاعراف الثقافية للبشرية ان الدم يدل على القتل .
(( ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب.ثم عادوا الى ابيهم عشاء وهم يبكون، وبيدهم قميصه ملطخا بدم كذب .
قالوا :يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين.
قال الاب غير مصدق : بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)).
حاول بعض المفسرين ان يجدوا تفسيرا لعدم تصديق الاب بأن الذئب هو الذي اكل ابنه ( حسب النص القرآني ، وافترس ، حسب النص التوراتي) ، فقال بعضهم انها معرفة نبوية ، قوى من خارج ذاته ، فيما قال البعض - وكان اكثر واقعية من اصحاب التفسير الميتافيزيقي- ان الاب عندما رآى قميص يوسف غير ممزق عرف ذلك ، لان الذئب لو كان مفترسا لولده لكان القميص قد تمزق من الافتراس ، ولهذا نرى النص القرآني اكثر واقعية من النص التوراتي في اختيارلفظة ( اكل ) ولم يستخدم لفظة ( افترس ). (1)
والنص القرآني، وهو يصحح ما كان متداولا للنص وقتذاك تحت تأثير التوراة ، جعل الاخوة هم الذين يخبرون والدهم بأكل الذئب ليوسف ، فيما النص التوراتي ، اوما كان متداولا بين العامة ، قد جعل الاب هو الذي يستنتج ذلك من خلال رؤيته للدم على قميص يوسف : (( فَأَخَذُوا قَمِيصَ يُوسُفَ الْمُلَوَّنَ، وَذَبَحُوا تَيْساً مِنَ الْمِعْزَى وَغَمَسُوا الْقَمِيصَ فِي الدَّمِ، وَأَرْسَلُوهُ إِلَى أَبِيهِمْ قَائِلِينَ: لَقَدْ وَجَدْنَا هَذَا الْقَمِيصَ، فَتَحَقَّقْ مِنْهُ، أَهُوَ قَمِيصُ ابْنِكَ أَمْ لاَ؟» فَتَعَرَّفَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «هَذَا قَمِيصُ ابْنِي. وَحْشٌ ضَارٍ افْتَرَسَهُ وَمَزَّقَهُ أَشْلاَءَ».)).
وكذلك عندما قد من دبر ، فإن فعل القد من الدبر معناه ان الذي قام بالتمزيق كان خلف لابس القميص ، وهذا يعني ان فعل المراودة كان متوجهاً من التابع الى المتبوع، مما يدل على براءة من قد قميصه من دبر .
والشيء نفسه يقال عن التجلي الثالث للقميص ، فرائحة الشخص كانت بديلا للشخص ذاته ، أي لحضوره، على الرغم من غيابه .
ومن بين العلامات التي استخدمها النص ، هي :اغلاق ابواب البيت وتهيئة المضجع.
(( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون )).
فأغلاق الابواب يرمز الى الخلوة في حالة وجود انثى – متيمة حباً - ورجل غريب- ذو جاذبية لجنس النساء - في مكان واحد. والخلوة عرفا وشرعا ، معناها تهيئة الاجواء لعمل جنسي .
وقد استخدم النص القرآني لفظة ( غلـّقت / بتشديد اللام ) الابواب، وذلك للمبالغة في تهيئة الاجواء للممارسة الجنسية بكل حذر، وهذه المبالغة في غلق الابواب تستدعي خلو المكان من أي شخص مهما كان عمره ، ولهذا نستنتج من كل ذلك ان الشاهد لم يكن طفلا من اهل البيت وانما هو شخص من خارجه.
وقول المتيمة – زوجة العزيز - (هيت لك) هو بيان الاستعداد الكامل للممارسة الجنسية .
و ( هيت ) (يقال : إنها بالحورانية ) (2)
وعن ( هيت لك ) يقول الميناجي: (( تهيأت لك ، أما سمعت قول اصيحة الانصاري :
به أحمي المضاف إذا دعاني إذا ما قيل للابطال هيتا )) .(3)
وهناك مجموعة من التشاكلات والتباينات في النص المدروس ، منها على سبيل المثال:سنوات الرفاه وسنوات العجاف. والتي ايضا كانت صورة للتشاكل في النص ، من خلال العدد سبعة ، سبع سنوات رفاه وسبع سنوات عجاف .
وينبني النص على رمزية العدد ثلاثة دون الاشارة على ذلك، تحت مفهوم اسطورى عام يعشعش في الذاكرة الجمعية، مؤداه ان الفعل لا يثبت ما لم يتكرر ثلاث مرات (4) .
فالحب العائلي مبني على شخوص ثلاث ، الاب يعقوب ، ويوسف واخيه (الذي تسميه االمرويات المحايثة للنص بنيامين).
فيما زيارة ابناء يعقوب مصر تكررت ثلاث مرات، في الاولى تعرّف يوسف عليهم (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون )، وفي الثانية عرّف نفسه الى اخيه وابقاه معه(ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون ) ، وفي الثالثة عرفه الاخوة (قالوا أئنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)، اذن اكتمل فعل التعارف بتكراره ثلاث مرات.
وقد تكررت الرؤى ثلاث مرات، فهناك رؤيا السجينين ، والثالثة رؤيا الملك ، مما يجعل من يوسف معبر صادق للرؤيا، (وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).
وكذلك استخدام النص للقميص ثلاث مرات كما ذكرنا ذلك من قبل، وكل مرة ينتج القميص فعل ما، ففي الاولى علامة على كذب ادعاء الاخوة، ومن ثم حزن يعقوب ، وفي الثانية تبرئة يوسف من فعل المراودة ، وفي الثالثة عودة البصر الى يعقوب.
اما عدد السجناء فهو ثلاث ، يوسف ، وساقي الملك ، وخبازه.
واذا اردنا ان نتمحل في القول كثيرا ونسرف في الشرح عن الرقم ثلاثة ، نقول : ان مجموع سنوات الرخاء والقحط هو خمسة عشر سنة ، تقبل القسمة على ثلاث:( * قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون* ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ).
واخيرا، فإن ما تريد ان توصله هذه السورة من دروس وعبر للمسلمين هو ثلاث دروس رئيسية :
الدرس الاول: الحسد.
الدرس الثاني: الفعل الجنسي غير الشرعي.
الدرس الثالث: الدرس الاقتصادي.
وان كل الدروس والعبر الاخرى متولدة منها.
فصبر يعقوب على ابنه متولد من فعل الحسد وما نتج عنه. والدرس الثاني تولدت منه دروس ثانوية اخرى ، خاصة درس ثأر المرأة من الرجل الذي لم يمكنها من نفسها ، فضلا عن درس الاعتماد على الله .
اما الدرس الثالث ، فيؤكد على التدبير الجيد للامور الاقتصادية ، التي تؤدي الى وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
وفي الوقت نفسه ، فإن الحالة الاقتصادية لمصر تمر بثلاث حقب : الاولى هي حقبة الرفاه الاقتصادي، والثانية حقبة الجدب ، والثالثة هو العام الذي يغاث الناس فيه.
ولو عدنا الى حلم يوسف (* إذ قال يوسف لابيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) لرأينا ان عناصره ثلاثة، هي: الكواكب ، والشمس ، والقمر.
وهكذا يفعل العدد ثلاثة فعله في هذا النص.
***
الهوامش :
* هذا فصل من كتابي (تجليات الاسطورة - قصة يوسف بين النص الاسطوري والنص الديني) ، يمكن قراءة الكتاب على شبكة الانترنيت.
1- ناقش الخطابي في بيان إعجاز القرآني مسألة الخلاف بين لفظة اكل ولفظة افترس وخرج بنتيجة مفادها : (فأما قوله تعالى: فأكلهُ الذئب ( يوسف:17) فإن الافتراس معناه في فعل السبع القتل حسب، وأصل الفرس دق العنق، والقوم إنما ادعوا على الذئب أنه أكله أكلاً وأتى على جميع أجزائه وأعضائه، فلم يترك مفصلاً ولا عظماً، وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم إياهم بأثر باق من يشهد بصحة ما ذكروه، فدعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس لا يعطى تمام هذا المعنى، فلم يصلح على هذا أن يعبر عنه إلا بالأكل؛ على أن لفظ الأكل شائع الاستعمال في الذئب وغيره من السباع") انظر : النقــد والإعجــاز – د. محمد تحريشي – ص127 .
2- مجلة تراثنا ج 8 - مؤسسة آل البيت - ص 277 .وفي كتاب (لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم - الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام ) باللغة النبطية.
3- مواقف الشيعة ج 3 - الأحمدي الميانجي - ص 352 .
4 – يقول المثل الشعبي: الثالثة ثابته ، ومثل آخر يقول: بالثالثة المنية. وهناك وصية احترازية عراقية لمن يبنى له دارا ،تقول: الدار الاولى بعها ، والدار الثانية اجرها للغير ، والثالثة اسكن فيها.
الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد إضافة/ تعديل الكلمات الدلالية
التصانيف
غير مصنف

التعليقات

كتابة تعليق كتابة تعليق