الطريق إلى أوكرانياكان الأستاذ يقول لنا كلمات عن الحياة لم أكن لأقتنع بها بينما كنت أعبث بالقلم بين أصابعي وأرمقه نظرات لا تخلو من ريبة ، لكن بعضاً من كلماته أثر في مشاعري .كان الأستاذ يقول إننا وإن كنا نتعلم المزيد من العلوم والمعلوماتية والبرمجة وطرق التنظيم واللغات فهي تسهل علمنا ، لكن الحياة ستعلمنا أننا بحاجة للمزيد من العلوم التي قد تتيحها الحياة في مواقف لم نكن لنتوقعها، لكن المشكلة تكمن في أن العلوم التي نتعلمها تكون عائقاً لفهم هذه الأسرار.أنهينا الجلسة وركبت الباص وضعت السماعات في أذني ، لكن رغم الأغنية المنسكبة لم أقدر على تجاوز ما أحسست به مما قاله الأستاذ.في فترة الحرب تقدمت لهذه الوظيفة لدى منظمة إنسانية وخضعت لكثير من الدورات، كان الراتب مغرياً واستطعت أن أعين أهلي وأتحرر مالياً، بدأت أعمل كمتطوعة وساعدتني المهارات التي كنت أمتلكها في التقدم لوظائف أعلى.صرفت كل وقتي على عملي وتطوير قدراتي ، وكان الجهد الذي أبذله على مهنتي يعود بالترقيات والمكافآت.بدأت أشعر بأني كنت أقيد نفسي بلباس معين وتصرفات معينة ، نعم أبقيت على غطاء الرأس لكني بدأت ألبس ثياباً معاصرة ، واندمجت مع فريق العمل كتبادل الخبرات والبساطة في التعامل والمراسلة وشرب القهوة.رغم ذلك كلما ركبت حافلة العمل وأنا أتأمل الطرقات والحواري كنت أتذكر كلام ذلك الأستاذ، حتى وصلتني رسالة من المنظمة بالقيام بالتثقيف الصحي في الريف ، كانت الفكرة الت تلمع في ذهني أن أقدم للمدير قدرتي على تحمل مصاعب العمل حتى ولو كان في الريف ولو كانت ساعات العمل طويل والقدرة على التعامل مع فئات مختلفة من الناس بما فيهم أهل الريف والمرونة في التعامل معهم رغم اختلاف الثقافة.شعرت أن علي الاطلاع على المنطقة المقصودة وتعلم أسماء القرى ، استعنت بخرائط غوغل وحفظت أسماء القرى جيداًلكي أظهر للمدير قدرتي على النجاح وتحمل الثقة الملقاة علي .قمت بدراسة ملف مرض اللشمانيا من عدة مصادر ولخصت خطوات التثقيف وقمت بتسجيل مقاطع مصورة لكي لا أرتبك أمام الجموع.في اليوم التالي انطلقنا للأرياف وبدأنا مهمة التثقيف الصحي، كان زميلي يقوم بعمل إحصاء دقيق لكل عائلات القرية ويستقصي معلومات لم نضعها في خطة التثقيف ، لكني لم أتدخل بعمله.كنت أقوم بعملي في أي مستوصف أو عيادة متنقلة، لكن كان علي أن أدخل بعض البيوت أحياناً وأجتمع بأكثر من أسرة.بينما كنت في أحد البيوت كانت فتاة ريفية جميلة تستمع إلي بينما كانت تسترق النظر لشاب يقف على مقربة منا، وأسمعه يقول لصديقه بأنه لا يثق بهذه المنظمات ، وأنها تريد تخريب عقول الفتيات ، وبينما حاول زميلي أخذ إحصائيات عن سكان المنزل وإذ بذاك الشاب يصرخ به ويقول : هل أنتم مخابرات أم أطباء ، حاول زميلي ملاطفته واقناعه بالمساعدات، لكن هذا الشاب بدأ يطردنا من المنزل، حتى تدخل رجل مسن وتجاوزنا هذه المشكلة بخروج زميل من المنزل.عدت لشرح الطرق للوقايا من مرض اللشمانيا، بينما تلك الفتاة الجميلة البسيطة قد بدأت بالبكاء.أنهيت المحاضرة وطلبت منها كأس ماء فأحضرته، قلت لها : ما بكهل تتعرضين للمضايقة ؟قالت : لا .قلت لها هل هو ذاك الشاب؟نظرت إلي وصمتت.قلت هل تحبينه ؟قالت : أخاف عليه ، وبدأت بالبكاء.سألتها : هل تكلمينه ؟قالت : لا ، لم أكلمه ، لكني أحبه.قلت : ولماذا تخافين عليه ؟قالت : أخشى أن تلتهمه هذه الحرب. ضحكت وقلت لها : أنت تخافين عليه ولم ترتبطين به بعد ؟ قالت : قلبي يشعر بذلك .لم نكن نكمل كلامنا حتى سمعنا صراخاً وهناك من يصيح : هشام ... هشام .... اتركوهلكنهم أخذوا هشام للتجنيد سقطت الفتاة بين يدي وقد أغمي عليها .لم أكن أعرف ماذا أفعل، لم تسعفني كل دروس التثقيف الصحي على التعامل مع هذا الموقفنقلنا الفتاة لغرفة مجاورة وغسلنا وجهها بقليل من الماء وحين أفاقت بدأت بالبكاء بصوت منخفض.نعم لقد صدق حدسها. في طريق عودتنا لم أشعر إلا وأنا أبكي بحرقة ، وبقيت أبكي طيلة رحلة العودة، سألت نفسي لماذا لم أحصل على معلومات من التثقيف الصحي عن حادثة كهذه ؟لقد بادلت غير زميل مشاعر إعجاب وتراسلنا لشهور ، لكني لم أكن لأشعر بمشاعر كالتي رأيتها في عيني الفتاة الريفية والدموع الحارة التي ذرفتها ، ما هذا القلب الذي تشابك مع قلب آخر بدون أي حوار أو لقاء ؟كيف أحست الفتاة بالخوف وصدق إحساسها ؟أحسست لوهلة بسخف كل ما تعلمته ، وأنني كقشرة بيض ملونة.بعد أسبوع وصلني برنامج تثقيف جديد كان مختلفاً عما عرفته ، كان عن الجندرية .وكان مطلوب منا طرحه في الأرياف مقابل إعطاء سلة غذائية للمشارك في الجلسة الحوارية.تقصدت وضع تلك القرية في خطتي ، وحين وصلنا طلبنا بعض المشاركين، فسألت عن تلك الفتاة فقالوا لي بأنها ماتت بعد أن سمعت أن هشام قد أصيب في الحرب ومات متأثراً بجراحه ، فشعرت بالصدمة والحزن الشديد.ألقيت أسئلتي على المشاركين الذين أنكروها ، فقلت لهم بأني غير مقتنعة بها لكني بالنهاية موظفة فقال لي أحد الشبان : بأني ألعوبة بيد الشيطان وأن راتبي حرام وترك الجلسة وانصرف.حين عدت للمنزل تفكرت بكلام ذلك الأستاذ وأنا معارفنا قد تمنعنا من تعلم بعض دروس الحياة.فتحت بريدي فكان به عرض عمل في أوكرانيا، لم أكن أتصور أني سأقبله ، لكني قبلته في النهاية.