أقصوصة / سفرٌ بـلا تـأشيرهْ...!





عاد أبي بعباءته وعمامته البيضاويتين فجأة..! تملكني الجزعُ رغمَ القناطر المقنطرة من الشوق المكدّس..والحنين إلى استنشاق رائحةِ عرقهِ الناعمةِ... لِلَمْسَةٍِ تُبدّد جزعاتي .

وجهُه مكفهرٌ كأنه يخبئ بين ثناياه أكفَّ شحّاذي دربه إلى المدرسة
... محفظته المهترئة أظهرت أوراقـًا..عابسة ً..عبوسَ عيونِ المعوزّين واليتامى من طلبته.
..

لحظتها كنتُ
- أنا – إلى قنواتٍ تطايرَ منها شُذّانُ حروفٍ عربيّة، مشدودًا بحبل سرِّيٍّ.. يمتصه خزّانُ ذاكرتي في ازدراء..
يلوكُ "أكسوجينه "الملوّثَ.. ويبتلع جيفتَه مُعدِمًا حسَّ الشمّ والذوق لديه..

رغم ذوباني في معانقته ظَلّ وجهُه متجهّمًا.. لحيته الكثـّة توخِزُني كإبر صينيّة تُؤلِمْ لِتَشفى..

- "...جاء ليؤنبني لاشك..!..همستُ وجِلا.."
- " أهلا أبتي... !"
وغصتُ عميقا أُفتش عن كلّ جُرم صغير أكونُ اقترفته..

..لعلها مقاطعتي لمعظم جيراني منذ سنين،لأسباب قاهرة لم يعد لها أثرٌ في ذاكرتي ...
ربّما لأنني تقاعستُ عن زيارة شقيقي- كلالة ً- المنشور منذ زمن بممرات المشفى، على بعد خطوات من بيتي...
ربما لأني تغاضيت في غمرة الحداثة عن تعليم أولادي لسبع ٍ، وضربهم لعشرْ.!


..القناة تفضح آلام بغداد الجريح... موتى..جرحى.. وأشلاءْ.. !
- " أهي بغدادنا بنيّ..؟! "


- " لا ..لا....لا..!"
..هي بغداد " هوليوود " إستعاروها منّا لعشرين عاما.. قابلة للتمديد.. فتصويرُ مقاطع ممّا اقترفهُ " التتـار" لِمَحق أمجاد " وامعتصماه " تُدِرّ أرباحًـا.. تفوق مداخيلَ بترولنا ..

نبراتُ صوتي خُنِقَت بِحبالها..تستجدي نجدة البوح خارج طرق الصدق المقفرة..

بكبسةٍ وكبسةٍ أخرى أُحوّل إتجاه البوصلة لأِحُط ّ على بساط أيِّ قناه..! صورُ الدّماء و الأشلاء على طرقات" غزة " تكاد تخرج من القناة الأخرى..
تتلقاها عيونُ أبي الحائرة في تساؤل..


- "آه ! القدسُ تحرّرتْ ولاشك يا بنيّ.. ؟! ربّما هي معركتكم الأخيرة..!"

- " أجلْ...أجلْ.. ضربنا على بني صهيون بجدار من زُبَرِ الحديد .. وجنحنا للسلم كافة ..!"..

- " لا تعبأ أبتي بمَنْ لم يجنحُوا للسلم منّا..أشلاؤهم تملأ طرقاتِ غزة..وسجونَ عسقلان وجزيرة غوانتنامو...
- "...مثلـُنا للسلم سيهتدون أخيرًا... ليرتاحوا.. !
"

لأواريَ سوءة إِفْكي المَفْضُوح.. أتصنّع الابتهاج صارخـًا....
- " البشرى .. البشرى أبتي ..لم يعد يطالبني الشرطي بشئ ..كذلك الزمان.. لأعْبُرَ وطني من بغداد إلى فاس.ْ.
أحرارًا صرنا.. نرتحلُ عبرَ نوافذ " غوغل " والوندوز"... لمْ يعدْ الخوفُ يُعشـّشُ في ثنايا عروقنا...!"

تدحرجتْ كلماتي المبحوحة في حرج ..حاصرتني بجنودٍ من ألم ٍ.. دخانُ بهتاني خنق أنفاسي و لمّا ينفذ خارج قفصي الصدري .. لَفَضَتْهُ مساماتُ والدي الشّفـّافة ..
الغصّة تكتمُ أنفاسي .. أستفيقُ صارخا:
-"عدْ أبي.. كاذِبٌ أنا ... كاذِِب..عُدْ أبي ... عد أبي ..!"

16/03/2008 أبو يونس الطيب