المقاومة .. والشعوبيون الجدد
شبكة البصرة
د . محمد عياش الكبيسي
تعرف الشعوبية بأنها تيارات مختلفة يجمعها العداء للعرب, جاء في الانسكلوبيدية البريطانية (الشعوبية كل اتجاه مناوئ للعروبة anti-arabisim) وهذا ما جاء في تعريفات قدامى علمائنا المسلمين فقد قال الأمام القرطبي :(الشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم) تفسير القرطبي / 11/189 ونحو هذا لشيخ الإسلام ابن تيمية انظر اقتضاء الصراط المستقيم /149 إلا أنه نسب الشعوبية إلى النفاق والكفر فقال : (ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب, والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر ألا عن نوع نفاق أما في الاعتقاد وأما في العمل المنبعث عن هوى النفس) وقال أيضا : (ان بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب للكفر) 156 , وتجدر الإشارة إلى أن تعريف الشعوبية هذا والتنبيه إلى خطرها لا يبعد كثيرا عما يراه علي شريعتي المفكر والفيلسوف الإيراني المعروف حيث قال (تحولت الحركة الشعوبية تدريجيا من حركة تسوية إلى حركة تفضيل العجم على العرب وعملت عبر ترويج المشاعر القومية وإشاعة اليأس من الإسلام إلى ضرب سلطة الخلافة) التشيع العلوي والتشيع الصفوي /121.
وقد أعلنت الشعوبية عن نفسها في بدايات الخلافة العباسية الا ان جذورها الحقيقية تعود إلى عصر الفتوحات الإسلامية الأول, وقد شكلت الشعوبية خطرا كبيرا على الأمة الإسلامية عبر تأريخها الطويل ربما نستطيع أن نوجزه بالنقاط الآتية:
1- تصفية قادة الفتح الإسلامي , حيث تم الانتقام من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ثم الخليفة الثالث عثمان بن عفان ثم الخليفة الرابع علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين- في مؤامرة كبيرة استهدفت وحدة الأمة وهويتها ورموزها , ومع أن هؤلاء الخلفاء الثلاثة كانوا في صف واحد وراحوا ضحية لقضية واحدة الا أن الشعوبية راحت تصورهم ضحايا للمنافسات الداخلية على الغنائم والمناصب!! يقول علي شريعتي : ( لقد تضمن هذا البرنامج والمخطط المدروس إ ظهار عمر بمنزلة العدو رقم واحد لعلي !! وذلك انتقأما من دور عمر البارز في القضاء على الدولة الساسانية ) التشيع العلوي والتشيع الصفوي /134
2- تشويه العرب والحط من شأنهم وتأليب الشعوب الإسلامية الأخرى على العرب ودعوتهم للثأر والانتقام وقد ألفت في هذا كتب كثيرة منها( لصوص العرب) و(مثالب العرب) و(أدعياء العرب) , يقول الفردوسي في (الشاهنامة) : ( من شرب لبن الابل وأكل الضب بلغ العرب مبلغا أن يطمحوا في تاج الملك فتبا لك أيها الزمان وسحقا) ويقول مهيار الديلمي وهو من أهل بغداد !! :
لا تخالي نسبا يخفضني أنا من يرضيك عند النسب
فأبي كسرى على إيوانه أين في الناس أب مثل أبي
3- وإمعانا في الكيد حاولت الشعوبية أن تربط نفسها بآل بيت النبوة حتى لا يبدو عداؤها للإسلام واضحا , ولكي تزيد من الهوة بين الطوائف والمذاهب الإسلامية , يقول علي شريعتي ( وبغية ترسيخ أفكارها وأهدافها في ضمائر الناس وعجنها مع عقائدهم وإيمانهم عمدت الصفوية إلى إضفاء طابع ديني على عناصر حركتها وجرّها إلى داخل بيت النبي إمعانا في التضليل ليتمخض عن ذلك المسعى حركة شعوبية شيعية .. مستغلة التشيع لكي تضفي على الشعوبية طابعا روحيا ساخنا ومسحة قداسة دينية , ولم يكن ذلك الهدف الذكي متيسرا ألا عبر تحويل الدين الإسلامي وشخصية محمد وعلي إلى مذهب عنصري وشخصيات فاشية !! تؤمن بأفضلية التراب والدم الإيراني والفارسي منه على وجه الخصوص) التشيع العلوي والتشيع الصفوي /122. وقد دعم علي شريعتي تحليله هذا بعشرات المواقف والقصص والشواهد , وتجدر الإشارة هنا إلى أن شريعتي ليس سنيا بل هو شيعي إيراني ويعد من رواد الثورة الكبار يقول عنه الخامنئي نفسه :( إن النجاح الذي حققه شريعتي لم يحققه سواه) مجلة الوحدة العدد162 / 1994م .
4- التحالف مع القوى الأجنبية المعادية للإسلام والمسلمين , فإضافة إلى ما ذكرناه في الحلقة السابقة من تحالف الطوسي وابن العلقمي مع هولاكو والمغول يذكرنا علي شريعتي بتحالف آخر لا يقل خطورة عن الأول فيقول : ( من القضايا الواضحة وجود نحو ارتباط بين الصفوية والمسيحية حيث تضامن الاثنان لمواجهة الإمبراطورية الإسلامية العظمى التي كان لها حضور فاعل على الصعيد الدولي إبان الحكم العثماني وشكلت خطرا جديا على أوربا .. فعمدوا إلى تقريب التشيع من المسيحية .. حتى يتيقن بأن كلب هذا المسيحي الإفرنجي أطهر من السنة الذين قتلوا الحسين !!) التشيع العلوي والتشيع الصفوي 206.
واليوم حين بشّر بوش بـحملته (الصليبية الجديدة) لم ينس ذلك التاريخ الطويل للشعوبية فراح يتحالف معها أو يستخدمها لتحقيق أهدافه بأقل ما يمكن من الخسائر, ولولا هذا ( الحلف الشرير) لما سقطت بغداد بأيدي الغزاة , حيث راح ( الشعوبيون الجدد) يروجون في البسطاء من الناس أن ( بوش و بلير) يعملان لوجه الله من أجل ( تحرير) العباد والبلاد وإنقاذ المظلومين والمحرومين !! وأن العراق سيكون أنموذجا يقتدى به في الحرية والتقدم والرفاه!!
أما بعد انكشاف الأهداف الحقيقية لهذه الحملة والجرائم البشعة التي رافقتها مما أدى إلى تصاعد المقاومة الشرعية واتساع دائرتها لم يبق أمام هؤلاء الشعوبيين الا أن يصطفوا جهارا نهارا مع العدو الغازي في مشروع خطير لم يعد خافيا على أحد ويكفينا هنا أن نشير إلى بعض معالمه :
1- الغاء الهوية العربية للعراق حيث خلا قانون ادارة الدولة المؤقت من أي إشارة إلى عروبة العراق بينما اكتفى بالقول : ( العراق بلد متعدد القوميات والشعب العربي فيه جزء لا يتجزأ من الأمة العربية) المادة 7 / الفقرة/ ب .
نعم ان العراق متعدد القوميات شأنه شأن أغلب دول العالم لكن هل هذا مسوّغ لالغاء هويته العربية ؟! وما هي ميّزة العرب في العراق وفق هذا القانون عن أي جالية عربية في الدول الأوربية أو غيرها ؟! وكيف وافقت الأحزاب العربية المشاركة في العملية السياسية على هذا القانون؟! وأخيرا فأين موقف جامعة الدول العربية ؟ والعراق دولة مؤسسة فيها ولماذا سارعت إلى الاعتراف العملي بحكومة موافقة على هذا القانون ومنبثقة منه ؟!
2- تهميش العراقيين العرب سنة وشيعة من خلال برنامج مدروس بدقة , فالسنة تم تهميشهم تحت شعار ( اجتثاث البعث) حيث أبعدت وربما اضطهدت أو صفيت كثير من القيادات السنية العربية بدعوى أنهم بعثيون مع أن البعث لم يكن حزبا سنيا , وبعد انكشاف هذه اللعبة صار التركيز على محاربة( السلفية والوهابية والارهاب السني) !! مع أن هناك اعترافات من وزير الداخلية ووزير الدفاع في الحكومة المؤقتة أن الكثير من ( العمليات الارهابية) يقوم بها متسللون من الشرق بل هناك اتهأمات صريحة للمخابرات الايرانية !! وأما الشيعة العرب فقد همشوا من خلال إقصاء مرجعياتهم ورموزهم في مقابل ابراز المراجع والرموز غير العربية بل لقد اشتركت بعض المليشيات الشعوبية مع الأمريكان الغزاة في مقاتلة التيارات الشيعية العربية كما حصل في النجف ومدينة الصدر وغيرهما!! بغية إضعاف هذه التيارات ومحاصرتها مع أنها تمثل الأغلبية الحقيقية لشيعة العراق !
3- اضطهاد العرب المقيمين في العراق بشتى أنواع الاضطهاد , فمع بداية الاحتلال هجّر عدد كبير من العوائل الفلسطينية من الأحياء التي أقاموا فيها منذ عشرات السنوات , ويوم 11/5/2005 أكدت جمعية حقوق الانسان في سوريا أن ما يقارب من[2500] سوري ممن هاجر إلى العراق بداية الثمانينات يتعرضون اليوم للاضطهاد والاعتقال من قبل الأمريكان والشرطة العراقية والحرس الوطني, واليوم وأنا أكتب هذه الأسطر أعلنت هيئة علماء المسلمين عن انتهاكات خطيرة قامت بها قوات (الذيب) في منطقة ( البلديات) في بغداد بحق العوائل الفلسطينية حيث تم ترويع النساء والأطفال وتهشيم النوافذ ثم اقتادوا عددا من الناس البسطاء , ومع هذا فلم نسمع من الاعلام العربي والقادة العرب بل حتى العلماء والدعاة من يطالب باطلاق سراح هؤلاء المسلمين العرب المقيمين أصلا في العراق بينما تتعإلى المناشدات كلما تعرض أحد الأجانب للاختطاف أو الاحتجاز مع أنه دخل في ظروف غير طبيعية ومنهم من ثبت تعاونه مع الاحتلال وارتكابه جرائم حقيقية بحق المدنيين والأبرياء العراقيين.
4- واذا كانت تلك الاضطهادات التي تنال العرب في العراق تتم بشيء من الخفاء فان التيارات الشعوبية المتعاونة مع الاحتلال خرجت في تظاهرات كبيرة أمام وسائل الاعلام وهم يهتفون( أطردوا العرب) ( لا نريد العرب) لماذا ؟ لأن الاعلام الشعوبي جعل كل عربي هو ( إرهابي) أو ( داعم للارهاب) !! ولكن بالمقابل هناك ترحيب وتشجيع لكل أجنبي بدءا من قوات الاحتلال والمتعاونين معهم إلى المليونين ايراني الذين دخلوا لأهداف كثيرة ومتعددة مع أن وزير الدفاع ووزير الداخلية في الحكومة العراقية المؤقتة اتهما هؤلاء ( الزاحفين من الشرق) بأنهم هم من يقف وراء أغلب العمليات التي تهدف إلى إثارة الفتنة وزعزعة الأمن وتصفية العلماء كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل!!
5- التمهيد لإشعال حرب أهلية بأسماء وعناوين مختلفة لتخفيف وطأة المقاومة وإنقاذ المحتل من ورطته التي أوقع نفسه فيها , فقد عملت التيارات والأحزاب الشعوبية المهيمنة على بعض المؤسسات الأمنية على توريط الكثير من المنتسبين إلى هذه المؤسسات وبوسائل مختلفة في معارك ( لا ناقة لهم فيها ولا جمل) , فإذا قرر الأمريكان تدمير أي مدينة من المدن العراقية وحشدوا من الدبابات والمدافع والطائرات ما يكفي لإكتساح دول كبيرة تقوم هذه التيارات الشعوبية بالزج ببعض البسطاء من الشرطة أو الحرس في هذه المعارك الكبيرة والتي لا يمكن أن يكون لهم فيها أي أثر!! لكن الغاية واضحة وعلى جميع العراقيين أن يتنبهوا لهذه المؤامرة التي تستهدف أول ما تستهدف وحدتهم ولحمة نسيجهم الاجتماعي , وعليهم أن يسألوا هؤلاء ( الشعوبيين ) هل من واجب الحرس الوطني الاشتراك مع الأمريكان والبريطانيين لتدمير الفلوجة والنجف والموصل والقائم ؟ هل من واجب الشرطي العراقي أن يكون دليلا للأمريكان والبريطانيين لمداهمة البيوت واعتقال الشيوخ والنساء ؟! ما الدين أو القانون أو العرف الذي يحتكم له هؤلاء ؟!
إن المقاومة العراقية الباسلة وهي تواجه هذا (الحلف الشرير) ولكي تحافظ على وحدتها ونبل أهدافها ولكي لا تنساق إلى معارك هامشية وأفخاخ جانبية لا بد أن تنتبه إلى :
أولا : طمأنة الشعب العراقي بكل أعراقه وأطيافه ومذاهبه أن المقاومة لا يمكن أن تستهدف أيا منهم حتى لو كانت تختلف معهم فكريا أو عقائديا أو سياسيا , وأن تتبرأ المقاومة ببيانات مكتوبة وصريحة من أي عملية تستهدف (مسجدا) أو( حسينية) أو ( كنيسة) أو تصفية لصاحب رأي أو موقف مخالف , إن المقاومة تكون بهذا قد حرمت (الحلف الأمريكي الشعوبي) من الماء العكر الذي يتصيدون فيه , وحرمتهم أيضا من الدعم الذي يتلقونه من بعض الفئات التي خوّفها الاعلام المضلل من أهداف المقاومة ونواياها مع أن تلك الفئات متضررة أيضا من هذا الحلف وما معارك النجف ببعيدة من هذا .
ثانيا: إقناع الغزاة ميدانيا بأن تحالفهم هذا لن يحميهم والمقاومة لن تنشغل بـ ( الفزّاعات) الجانبية عن العدو الحقيقي ومشروعه الخطير في المنطقة , لأن إضعاف إرادة الاحتلال سيؤدي بالنتيجة إلى إضعاف الأذناب والعملاء , ولا بأس بفضحهم وكشف مواقفهم وارتباطاتهم التي لا يمكن أن يرضى بها أي إنسان سوي لا سيما بعد ما انكشف للقاصي والداني طبيعة الأخلاق التي يتصف بها هؤلاء الغزاة من هتك للأعراض إلى تهديم المساجد وليس آخرها تدنيس المصحف الكريم , إن هذه الجرائم الأمريكية سلاح فعال بيد المقاومة لعزل هذا المحتل وفضح عملائه شريطة أن تنأى المقاومة عن أي صراعات طائفية أو مذهبية , وتكون بذلك قد أقامت الحجة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة .
ثالثا : طمأنة الدول العربية والدول المجاورة للعراق والتي لم ينفك (الحلف الأمريكي الشعوبي) من تخويفها من المقاومة لمحاصرتها وعزلها , فهذه الدول ترى أن من مصلحتها أن يكون العراق حرا موحدا مستقرا , ومن مصلحتها أيضا أن يبقى العراق في حضنه العربي ومحيطه الإسلامي , ومن مصلحتها أيضا أن لاترى في المنطقة جنديا أمريكيا واحدا لا سيما بعد ما حصل للعراق دولة وشعبا ومؤسسات , أعلنوا ذلك أو كتموه , وهم يعرفون أيضا أنه لا توجد قوة في العالم قادرة على تحقيق كل هذا غير المقاومة العراقية الحقيقية , الا أن بعض الخطابات( الآيديولوجية) التي تنسب لبعض فصائل المقاومة والتي تستغل وتكبر من قبل وسائل الاعلام العميلة تجعل كل هذا المحيط في حالة تخوف وترقب واذا نظرنا إلى هذا مع حجم الضغوط الأمريكية على المنطقة نستطيع أن نفهم حالة الارباك السياسي والبرود الشعبي الذي لا يتناسب مع قضية بحجم ( سقوط بغداد) ولا مع مستوى الأداء الميداني الذي تقوم به المقاومة والذي أربك المشروع الصهيوني الأمريكي برمته وجعل قادتهم بوضع محرج أمام العالم.
شبكة البصرة
الثلاثاء 8 ربيع الثاني 1426 / 17 آيار 2005