( 12) لماذا غضب عبد الناصر علي يحيي حقي؟
بقلم: رجاء النقاش
.....................
تحدثت في الاسبوع الماضي عن غضب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر علي اديبنا الكبير يحيي حقي1905 1992 الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده, وقد اعتمدت في حديثي السابق علي روايه استاذنا الجليل الدكتور ثروت عكاشه, نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافه الاسبق, اطال الله عمره وبارك في حياته وصحته, بقدر ما قدم لشعبه وبلاده من خدمات جليله تنحني امامها الرووس ولا تزال تفيض علينا بالخير والنور.
وقد غضب عبد الناصر علي يحيي حقي بسبب حضوره لجلسه تعرض فيها عبد الناصر لهجوم شديد, واستطاع ثروت عكاشه بجهد استثنائي كبير ان ينقذ يحيي حقي من الاستغناء عنه, والاكتفاء بنقله من منصبه الكبير كمدير لما كان يسمي باسم مصلحه الفنون الي العمل كمستشار لدار الكتب, ثم اصبح بعد ذلك رئيسا لتحرير مجله المجله وظل يراس تحريرها من سنه1962 الي ان اصدر الدكتور عبد القادر حاتم قرارا باغلاق هذه المجله فور توليه لمسئوليه الاعلام والثقافه في منتصف سنه1971.
وقصه غضب عبد الناصر علي يحيي حقي التي يرويها الدكتور ثروت عكاشه في مذكراته لها روايه اخري يقدمها فضيله الشيخ الجليل احمد حسن الباقوري وذلك في كتابه بقايا ذكريات الصادر عن مركز الاهرام للترجمه والنشر في طبعته الاولي والوحيده فيما اظن سنه1988, وفي هذه المذكرات يقول الشيخ الباقوري صفحه240: كان من بين الندوات التي احرص علي حضورها والمشاركه فيها ندوه تجمع بين الحريصين علي المعارف والعلوم, وخاصه ما يتعلق منها بتفسير القران العظيم, وما يتعلق به من مباحث اللغه العربيه الشريفه, وكان يصحبنا في هذه الندوه افاضل من ارباب الاقلام واهل البصر بشئون السياسه وشئون الدين, ومنهم الدكتور ناصر الدين الاسد والسيد الفاضل عبد الله التل قائد معركه القدس الشريف في حرب فلسطين الاولي سنه1948 والاستاذ يحيي حقي وكانت الندوه تنعقد في بيت الاستاذ محمود شاكر, وكنا في هذه الندوه كثيرا ما نجمع بين متعتين: المتعه بالطعام الطيب والمتعه بالكلام الشريف.
ثم يقول فضيله الشيخ الباقوري:
لم يكن لمثلي في شده حرصه علي مجامله الناس ان يمتنع عن السعي لاغاثه ملهوف او العمل علي طمانه حيران, بدليل ان الندوه مجتمعه رغبوا الي ذات يوم ان اعمل علي انقاذ الاستاذ يحيي حقي من اخراجه في حركه التطهير التي كانت تهدف الي تطهير السلك الدبلوماسي من كل من له زوجه غير مصريه, وكان يحيي حقي سفيرا لمصر في ليبيا يومئذ وكانت زوجته فرنسيه. واذكر انني ذهبت لمقابله اخي الفاضل الدكتور محمود فوزي ووزير الخارجيه في ذلك الوقت ورجوته ان يستثني يحيي حقي من هذا القانون, فاجابني الرجل رحمه الله بانه لا يعدني بالاستثناء, ولكنه يعدني بان ينقل يحيي حقي من السلك الدبلوماسي الي عمل يليق به في الوزارات التي تحتاج الي عمله, وقد نفذ الدكتور محمود فوزي وعده وتم نقل يحيي حقي الي عمل في وزاره الثقافه لا يناسب كفايته في سعه علمه وقدرته علي صياغه القصص!.
ويواصل الشيخ الباقوري روايته فيقول: ذات يوم اجتمعنا في الندوه بدار محمود شاكر, ورن جرس التليفون فاذا المتحدث هو يحيي حقي, وكان يشكو اليه اي الي شاكر من انه قد نقل الي عمل لا يناسبه, فقال شاكر في حماسه عمياء: وما حيلتي يا اخ يحيي في هولاء العساكر الذين يحكمون البلد وعلي راسهم جمال عبد الناصر ابن. وكانت كلمه مع الاسف تستوجب اقامه حد القذف لو كان القانون ياخذ بالتشريع الاسلامي.
بعد هذه الندوه التي حدث فيها الهجوم علي عبد الناصر بالطريقه التي وصفها الشيخ الباقوري, فان من الواضح ان تسجيلا كاملا لهذه الندوه وما جري فيها قد تم اعداده عن طريق اجهزه الامن وتقديمه الي عبد الناصر.. واستدعي الرئيس عبد الناصر الشيخ الباقوري الي لقائه, وفي هذه الجلسه حسب روايه الباقوري, قال عبد الناصر انه امتنع عن حضور حفل زفاف ليلي بنت الباقوري بسبب ما بلغه من ان الباقوري يحضر مجالس تنتقد الثوره, كما علمت اي عبد الناصر من بعض التقارير ان بعض الاخوان المسلمين في سوريا, وفي سائر الاقطار العربيه كانوا يبعثون اليك اموالا لتعين اسر الاخوان المسلمين, فاجبته بان ذلك كان ايام محنه الاخوان قبل الثوره بثلاث سنوات علي الاقل, وهذا صحيح.. ولكن ذلك شئ والتامر علي الثوره مع الاخوان شئ اخر, ولم يجب عبد الناصر علي هذه الكلمات فرجوته ان ياذن لي بورقه اكتب فيها استقالتي من الوزاره, ولكنه اجابني: انت تعرف حد استقال عندي قبل كده؟! وفي صباح يوم الاربعاء الحادي عشر من فبراير سنه1959 نشرت الصحف نبا قبول استقالتي.
تلك هي روايه الشيخ الباقوري للقصه التي غضب فيها عبد الناصر علي يحيي حقي والتي نتج عنها اقاله الباقوري من الوزاره ودخول محمود شاكر الي السجن, وركن يحيي حقي في هامش وظيفي محدود. وفي التعليق علي هذه القصه يمكن تسجيل مجموعه من الملاحظات.
اولا: ان الشيخ الباقوري يعترف بان كلمات الهجوم علي الرئيس عبد الناصر علي لسان الاستاذ شاكر كانت بذيئه وكانت تستحق العقاب القانوني.
ثانيا: يقول الشيخ الباقوري انه لم يشترك في الهجوم, او هذا ما يمكن فهمه بوضوح تام من روايه الباقوري للقصه, وهذا ما يخالف روايه الدكتور ثروت عكاشه للقصه في مذكراته حيث يقول ان الباقوري قد اشترك بلسانه في الهجوم علي عبد الناصر, وانه اي ثروت عكاشه سمع هذا التسجيل بنفسه في مكتب عبد الناصر, مع ملاحظه ان ثروت عكاشه لم يذكر الشيخ الباقوري بالاسم, ولكنه اشار اليه بانه احد الوزراء, ولم يكن هناك وزير له علاقه بالقصه سوي الباقوري. وحسب شهاده الدكتور ثروت عكاشه فان الباقوري قد شارك في الهجوم العنيف علي عبد الناصر.
ثالثا: من روايه الباقوري وروايه ثروت عكاشه نعلم ان يحيي حقي لم يشارك في الهجوم علي عبد الناصر ولكن علاقته القويه بصاحب الندوه محمود شاكر كانت تهمه له اوشكت ان تطيح به من عمله في وزاره الثقافه اواخر سنه1958 لولا تدخل الوزير ثروت عكاشه بحكمه وشجاعه لانقاذه.
رابعا: حسب روايه الشيخ الباقوري فان الندوه كانت منتظمه, وكانت تضم شخصيات مهمه منها الباقوري نفسه وكان وزيرا للاوقاف, ومنها قائد عسكري سابق في الاردن هو عبد الله التل, ومنها شخصيه علميه وثقافيه معروفه هي الدكتور ناصر الدين الاسد الذي اصبح وزيرا للتعليم العالي في الاردن بعد ذلك. ومثل هذا التجمع, وخاصه في حاله تكراره لا يمكن, كما اتصور, ان يفلت من متابعه اجهزه الامن, وخاصه في اجواء سنه1958, وهي السنه الاولي لدوله الوحده المصريه السوريه, وقد كانت هذه الدوله محاطه بكثير من الاعداء والمتربصين بها. والتجسس بكل صوره ملعون, ولكنه في حساب اجهزه الامن مشروع وخاصه في اوقات الازمات.
ولاشك ان هناك عبره نهائيه في مثل هذه الاحداث التي تقوم علي الاصطدام بين الادباء والمفكرين واصحاب الراي من جهه وبين السلطه من جهه اخري, والعبره هي ان المناخ الديمقراطي وحده يمكن ان يوفر الحمايه للجميع فيقول كل صاحب راي رايه علنا ولا تحتاج السلطه الي جواسيس او اجهزه تسجيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*عن: صحيفة "الأهرام".