( 58 ) بين قراقوش وسميح القاسم
بقلم: رجاء النقاش
...........................
شاعرنا العربي الفلسطيني الكبير سميح القاسم, الذي فاز هذا العام بجائزة نجيب محفوظ من اتحاد الكتاب, له مسرحية قصيرة عنوانها قرقاش, وهو اسم قام الشاعر الكبير باشتقاقه من اسم قراقوش المعروف, وقراقوش هو الاسم الذي أصبح رمزا للظلم ومخالفة العدالة بصورة كاملة. وكلمة قراقوش في الأصل كلمة تركية معناها النسر الأسود, و قراقوش في التاريخ هو بهاء الدين قراقوش الذي توفي بالقاهرة سنة1201 ودفن بها, وكان وزيرا خطيرا لصلاح الدين, وقراقوش هو الذي بني القلعة, وأنجز بناءها علي خير وجه وفي أسرع وقت, وشخصية قراقوش التاريخية تختلف عن شخصيته الشعبية, ذلك لأن الشخصية الشعبية هي نموذج حي للطغيان واضطهاد الناس وتسخيرهم بقسوة شديدة في الأعمال المختلفة, والصورة الشعبية لـ قراقوش هي الصورة التي اعتمد عليها سميح القاسم, وهي صورة الطاغية الظالم, وقد كان سميح موفقا غاية التوفيق عندما جعل اسم بطل المسرحية هو قرقاش وليس قراقوش, وذلك حتي لا يصطدم في قليل أو كثير مع شخصية قراقوش التاريخية, وسميح يريد أن يقدم إلينا بطل مسرحيته في صورة طاغية غير مشكوك في طغيانه ونذالته وعشقه الدموي للحرب والقتل وسفك الدماء, فاختار له اسم قرقاش بدلا من قراقوش, لأن قراقوش له تاريخ معروف وبعض كبار المؤرخين يدافعون عنه ويرون أنه من المظلومين وليس من الظالمين.
صورة قرقاش في مسرحية سميح القاسم الجميلة هي الصورة الشعبية الغارقة في الظلم إلي حد إثارة الضحك والسخرية, وسوف نتوقف أمام مشهدين من المحاكمات التي أقامها قرقاش لبعض مواطنيه, حيث نجد أمامنا صورة للقسوة والجنون, تشبه ما كان عليه نيرون, الذي أحرق روما وهو في منتهي الابتهاج, لأنه كان يريد أن يعيد بناءها من جديد, أو ما كان عليه إمبراطور روماني آخر هو كاليجولا, الذي حين غاب عن عاصمته روما أناب عنه حصانه في حكم البلاد والعباد.
والحقيقة أنه يوجد في كل طغيان جانب هزلي مثير للسخرية, ولعل هذا هو الأساس الذي أقام عليه شارلي شابلن فيلمه الشهير عن الزعيم النازي هتلر, فبقدر ماكان هتلر مرعبا, كان مضحكا أيضا, وقد استطاع شارلي شابلن بعبقريته الفنية أن يكشف للعالم عن الجوانب المثيرة للسخرية في شخصية هتلر, فأضحك الدنيا علي هتلر الذي كان يخيف الناس ويسيل منهم الدموع والدماء معا.
في مسرحية قرقاش يتساءل الطاغية عن سبب بكاء امرأة من مواطنيه, فيقال له إنها فقدت ابنها في إحدي الحروب التي شنها الطاغية, فضحك الضاغية قرقاش وأشار إلي المرأة ثم توجه إليها بالحديث ساخرا منها, حيث قال:
من أين تعلمت الحزن
يا بنت الخائن والبلهاء؟
ومتي أصبح في هذي الدولة
يفعل ما طاب له.. من شاء؟
ثم يتجه الطاغية قرقاش إلي أحد مساعديه ويقول:
من هذي اللحظة في هذا اليوم
عينتك أنت وزيرا للحزن
فاحزن باسم الشعب!
ثم يصدر الطاغية حكمه العجيب علي المرأة المتهمة بالحزن, ويكون الحكم علي هذه الصورة المثيرة:
وعليها نحكم بالآتي:
تقفين علي ساق واحدة
ستة أيام
وقبيل اليوم السادس, تلدين
سبعة أولاد
سابعهم يؤخذ للخدمة في الجندية
والستة.. أيضا للخدمة في الجندية!
ولاشك أنها صورة فنية رائعة, تلك الصورة التي رسمها سميح القاسم للطاغية الذي لن نجد صعوبة في أن ندرك أنه رمز للصهيونية وإسرائيل, ففي ظل الطغيان ممنوع علي الشعب أن يحزن, وعلي جميع المواطنين أن يكونوا فرحانين, تعبيرا عن سعادتهم بشقائهم في ظل الطاغية المجنون.
المشهد الثاني الذي يكشف لنا عن ضحك كالبكا في مسرحية سميح القاسم الصغيرة الجميلة هو مشهد الطاغية بعد أن حكم علي أحد مواطنيه بالإعدام شنقا, وعند تنفيذ الحكم يظهر أن المواطن المحكوم عليه قصير بحيث لا تصل رقبته إلي حبل المشنقة, وهنا يلتفت الطاغية قرقاش إلي الذين يقفون حوله من مساعديه الأقربين ويقول لهم:
حسنا.. من منكم يفضله طولا؟
ثم يتأمل المحيطين به ويختار أحد أقرب مساعديه وأعوانه لأنه أطولهم قامة, ويأمره أن يتقدم إلي المشنقة ليتم شنقه بدلا من الرجل القصير, فالمهم عند الطاغية هو أن يتم الإعدام, وليس المهم من يكون الضحية, بل لا بأس أن يكون الضحية من أقرب مساعديه, فلذة الإعدام والشنق عند الطاغية لا تفرق بين القريب والبعيد, وهنا نسمع الطاغية يقول لمساعده الذي تقرر إعدامه لسوء حظه بسبب طول قامته وإمكانية وصول رقبته إلي حبل المشنقة:
أو لم تسمعني يا هذا؟
حاول أنت
أقدم.. أقدم
لابد لنا من تنفيذ الحكم
في شخص ما
ويتم إعدام مساعد الطاغية شنقا, أما الطاغية فيقول في فرح جنوني وهو يشاهد رأس مساعده يتدلي من حبل المشنقة:
هذا شيء رائع
حقا.. شيء رائع
أو ليس كذلك؟
علي أن مسرحية سميح القاسم البسيطة البديعة تنتهي بهزيمة ساحقة لم يتوقعها الطاغية أبدا, فالطغيان أعمي, ولا يستطيع أن يري أي شيء آخر غير نفسه, وقد عرف الأمير ابن الطاغية بنتا جميلة من بنات الشعب, وذاب فيها عشقا ومحبة, ولكن الحب ممنوع في إمبراطورية الطغيان, كما أن حب ابن الأمير لبنت من بنات الشعب هو جريمة ليس لها غفران, ولذلك فقد قام رجال الطاغية بقتل الفتاة المحبوبة, وعندها قام الأمير بقتل نفسه حزنا علي ضياع سعادته وموت فتاته أو عذراء الشعب المذبوحة, كما تقول مسرحية سميح القاسم.
ومن أجل هذين الشهيدين في الغرام الطاهر ثار الشعب, ووجدها فرصة للانتقام من قرقاش الطاغية, وكان الانهيار قد أصاب قرقاش عندما علم بصدمة انتحار ابنه, الأمير العاشق, وأقبل الفلاحون علي الثورة وقتلوا قرقاش, وهتف فلاح بين إخوانه الفلاحين بقوله:
عاش الملك العادل
فرد عليه الفلاحون:
نحن الملك العادل
نحن.. الملك.. العادل
أي أن الطغيان قد انهار وعاد السلطان للشعب, وكان لابد من كارثة تبرر الثورة وتدفع إليها وتملأ القلوب بالشجاعة, وكانت الكارثة هنا هي مقتل عذراء الشعب وانتحار حبيبها الأمير, والكوارث دائما هي أم الثورات والانقلابات التاريخية.
بقي أن نقول إن شعر سميح مليء بهذه الإمكانيات المسرحية الكبيرة, وهناك بعد ذلك ملاحظة أخيرة, وهي أن مسرحية قرقاش كانت قد تم إعدادها للعرض علي المسرح المصري منذ أكثر من عشرين سنة, علي يد المخرج الكبير سعد أردش, ولكن المسرحية صودرت وتم منعها في آخر لحظة. ولا أدري كيف ولماذا تصادر مثل هذه المسرحية الجميلة النبيلة؟..
إنني أتمني إعادة التفكير في تقديم المسرحية من جديد, وأتوجه بهذه الأمنية إلي الأخت العزيزة المثقفة الأديبة الفنانة الدكتورة هدي وصفي, آملا أن تقدمها ـ هذا الموسم ـ علي مسرح الهناجر الذي تديره بكفاءة وهمة وإرادة ثقافية وفنية عالية.
............................................
*الأهرام ـ في 10/12/2006م.