صفحة 5 من 6 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 الأخيرةالأخيرة
النتائج 49 إلى 60 من 68

الموضوع: مع رجاء النقاش

  1. #49 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 46) قدم جيلنا

    بقلم: إبراهيم أصلان
    ...........................

    إنه ليوم حزين هذا الذي فقدنا فيه رجاء النقاش‏,‏ فهو فضلا عن دوره النقدي‏,‏ يتمتع بموهبة استثنائية في اكتشاف المواهب‏,‏ فهو الذي قدم لنا محمود درويش‏,‏ وسميح القاسم‏,‏ وتوفيق زياد‏,‏ والطيب صالح‏,‏ هذا إلي جانب اسهامه في إبراز أهم رموز جيل الستينيات عبر فتحه مجلة الهلال لأعمالهم‏,‏ وإعداده لأكثر من عدد خاص لتقديمهم‏,‏ وهو كمحرر ثقافي لعدة مطبوعات يعد بلا نظير علي الإطلاق‏,‏ سواء عندما كان رئيسا لتحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون‏,‏ والتي حولها من مجرد نشرة لبرامج الإذاعة والتليفزيون إلي مجلة ثقافية من طراز رفيع‏,‏ أو رئاسته تحرير مجلة الهلال‏,‏ التي فعل فيها نفس الشيء‏.‏

    ومازالت الترجمات التي قدمت في روايات الهلال ـ تحت إشرافه ـ من الأعمال البارزة جدا‏.‏ ولا ننسي رئاسته تحرير مجلة الراية القطرية‏,‏ ثم مجلة الدوحة‏,‏ التي رغم توقفها مازالت في الضمير الثقافي المصري والعربي‏,‏ علينا إذن أن ندرك أنه قام بدور بالغ الأهمية في إثراء الثقافة المصرية والعربية‏,‏ وأننا إذ نفقده اليوم نفقد قامة ثقافية كبيرة‏,‏ وصديقا رائعا‏,‏ وصاحب أفضال علي معظم أبناء الجيل الذي انتمي إليه‏.‏
    --------------------------------------------
    *الأهرام ـ في 12/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  2. #50 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 47 ) وداعاً رجاء النقاش

    بقلم: د. جابر عصفور
    ..............................

    ها هو رجاء النقاش يرحل عنا بعد أن أوجع قلوبنا بمرضه الطويل الذي ظل يسرقه، شيئاً فشيئاً، من محبيه، إلى أن قرر الموت أن يسرقه منا، تاركاً في نفوسنا ألم الفقد، ومرارة الحزن، والشعور القاهر بالخسارة، خصوصاً في زمن لا يزال في حاجة إلى أمثال رجاء النقاش، يملأون الحياة الثقافية من حولهم، بالحيوية الدافقة والاستنارة التي تتسع بعقول القراء وتمتد إلى ما لا نهاية برحابة أفق الثقافة التي تظل في حاجة إلى العقول التي تقود وتضيء وتشع بقيم الحق والخير والجمال في كل مكان حلّت أو تحل فيه، فرجاء النقاش آخر الوارثين لجيل الموسوعيين العظام من أبناء ثورة 1919، جيل طه حسين والعقاد والمازني وبعدهما يحيي حقي وبقية النجوم الوضاءة التي لا تزال الثقافة العربية مدينة لها بغرس وتعميق معنى الجامعة، والنظرة الشاملة التي تتعدد أدوارها الثقافية في المجتمع الذي تسعى للانتقال به من وهاد الضرورة إلى أعلى آفاق الحرية ولذلك كان رجاء النقاش دارساً وصحافياً ومحرراً أدبياً ورئيس تحرير لمجلات عدة، أحدث في كل منها ما دفعها إلى المزيد من الإنجاز والتقدم والاستشراف الطموح للمستقبل الخلاق الذي تدين له به مجلات رأس تحريرها، مثل مجلة «الكواكب» التي رأس تحريرها ما بين عام 1965و1996، ومجلة «الهلال» (1969-1971) و «الإذاعة والتليفزيون» (1971-1972) وأضف إلى ذلك كله دور المحرر الأدبي الذي يؤديه رجاء بعد تخرجه في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عام 1956، مزاملاً الأعلام الذين تخرجوا معه أو قبله أو بعده، بسنوات قليلة، من أبناء الجيل الذي يضم صلاح عبدالصبور، وعز الدين إسماعيل، وعبدالغفار مكاوي، وعبدالرحمن فهمي، وفاروق خورشيد، وأحمد كمال زكي وهو جيل نضج وعيه في ظل الأفكار القومية التي أشاعها أمثال ساطع الحصري وتبناها البعث ثم الناصرية بعدها وهي أفكار لم تكن تحول بين التوجه القومي واليسار في دائرة اللقاء التي كان أساسها الإيمان بالعدل الاجتماعي والعداء للاستعمار الذي كان حارساً للرأسمالية القائمة على الاستغلال وقد ظل رجاء محافظاً على فكره القومي، منتسباً إليه، مؤمناً به في كل الأحوال، لا يتحول عنه مهما كانت التغيرات العاصفة التي ناوشت وهددت مسار الفكر القومي ولا أزال أذكر مقالاته في ذلك، خصوصاً تلك التي جمعها في كتابه «الانعزاليون في مصر» الذي كتبه رداً على دعاة انفصال مصر عن محيطها العربي ولذلك كان رجاء النقاش متأثراً على نحو خاص بأستاذنا عبدالعزيز الأهواني الذي كان أبرز القوميين بين أساتذة قسم اللغة العربية الذي تخرج فيه رجاء النقاش ولكن كانت سهير القلماوي الأستاذة الأكثر تأثيراً في وعي رجاء النقاش، أولاً لاقترابه من الأدب الحديث، ووقوفه في صف التجديد في هذا الأدب، وضرورة انفتاحه على آداب العالم، ودراسته من هذا المنظور وكانت سهير القلماوي، التلميذة الأقرب إلى طه حسين، نصير الجديد دائماً، هي النموذج الذي يجسد هذا المنزع أكثر من غيره في قسم اللغة العربية، وكان ذلك في زمن أمين الخولي الذي تحلّق حوله شكري عياد وفاروق خورشيد وغيرهما من أعضاء «الجمعية الأدبية المصرية» ومؤسسيها في ما بعد وكان رجاء النقاش أقرب إلى صلاح عبدالصبور الذي تخرج قبله في المنزع الحداثي نفسه ولذلك لم يكن من المصادفة أن يقوم كلاهما بتسجيل عنوان أطروحة ماجستير، تحت إشرافها في قضايا التجديد الأدبي عموماً، والشعر خصوصاً، ولكن للأسف حال انشغالهما بالصحافة، والغرق في دواماتها من دون الانتهاء من أطروحتي الماجستير اللتين حلما معاً بإعدادهما.

    ولقد تخرجت في القسم نفسه الذي تخرج فيه كلاهما، وبعد تسع سنوات من تخرج رجاء على وجه التحديد وابتدأت معرفتي له بقراءة ما يكتب في «أخبار اليوم» ما بين 1961 و1964 وكانت البداية أن أستاذتنا جميعاً، سهير القلماوي، قرأت معنا في إحدى محاضرات «النقد التطبيقي» إحدى قصائد أحمد عبدالمعطي حجازي من ديوانه الأول «مدينة بلا قلب» وكان الديوان قد صدر منذ سنوات معدودة وكان تدريس سهير القلماوي، وقد كانت ملء سمع النقد الأدبي وبصره في تلك الأيام، حدثاً ترك أعمق الأثر في نفوسنا، وفي تذوقنا للشعر الجديد الذي بدأنا ننحاز إليه بفضلها وكانت النتيجة أننا اشترينا الديوان الذي صدر عام 1959 مع دراسة بالغة الأهمية كتبها رجاء النقاش الذي كانت دراسته خير مقدمة لشعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وخير مدخل إلى الشعر الحر عموماً وسرعان ما اكتشفنا أن كاتب هذه المقدمة هو رجاء النقاش الشاب الذي تخرج قبلنا بتسع سنوات، عام 1956 على وجه التحديد.

    ولا أزال أعتقد، إلى اليوم، أن هذه الدراسة الاستهلالية لديوان حجازي كانت، ولا تزال، إحدى وثيقتين رائدتين في مجال تبرير الشعر الحر وتحليله. أما المقدمة الثانية، فقد كتبها بدر الديب لديوان صلاح عبدالصبور الأول «الناس في بلادي» الذي صدر عن «دار الآداب» البيروتية في مطلع 1957، قبل صدور ديوان حجازي بعامين ويعني ذلك أنني قرأت ديوان صلاح عبدالصبور الأول بعد أن قرأت حجازي الذي أكملت ديوانه الأول بعد أن قرأت دراسة رجاء قراءة الطالب الذي يريد أن يفهم ويتعلم وينحاز إلى قضية الشعر الحر التي أصبحت أهم قضايا التجديد الأدبي لأبناء جيلي.

    وقد كانت الدراسة التمهيدية التي كتبها رجاء لديوان حجازي هي البداية التي دفعتني إلى السعي وراء قراءة ما يكتبه في النقد الأدبي وكانت البداية في جريدة «أخبار اليوم»، التي كان يكتب لها مقالاً أسبوعياً في النقد الأدبي وكان، أيامها، منغمساً، قبل السنة السابقة على تخرجي بكتابه «مقالات عن العالم الروائي عند نجيب محفوظ» الذي كان قد استقر على عرش الرواية العربية من دون منازع، وانهالت عليه مقالات يحيى حقي ورمسيس عوض وعبدالقادر القط وسهير القلماوي وأحمد عباس صالح ومحمد مندور وغيرهم من كبار النقاد في الستينات من القرن الماضي، ولكن رجاء النقاش آثر أن يرى روايات نجيب محفوظ بعدسة نقدية مغايرة، فاكتشف جوانب لم يكتشفها أساتذته، وكان لما اكتشفه أبلغ الأثر في إعجابي به بوصفه ناقداً أدبياً واعداً، مرهف الإحساس، فقد كان نقده لا يقل أهمية ولا قيمة عن نقد أساتذته، بل كان يضيف إليهم ما تهديه إليه بصيرته النقدية النافذة وأذكر، على سبيل المثال ما أجمع عليه النقاد في تناولهم رواية «الطريق» الشهيرة، حيث رأى أكثر النقاد في بطلتها إلهام نموذجاً للصفاء الروحي المقرون بالطريق الهادي للابن الضال، كي يصل إلى أبيه الرمزي الحقيقة المطلقة وهناك يجد، لديه وبواسطته، الأمن والسلام والكرامة، على عكس كريمة التي رأوها تجســيداً لعالم الحواس والغرائز الغارق فيها الابن صابر وللاسم مغزاه، فيعجز عن الوصول إلى فيء أبيه وصدره الحنون، فإذا برجاء النقاش يقلب التفسير، ويجعل من كريمة موئل الروح التي لا نصل إليها إلا بعد أن نصل إلى قرارة القرار من الحــسية التي ليس بعدها سوى الروح، وذلك بمنطق له بعد صوفي بمعنى أو بآخر.

    هكذا انتقلت مع كتابات رجاء، قارئاً، من الشعر إلى الرواية، ومن الرواية إلى المسرح ومضيت متابعاً له، مستمتعاً بما يكتب إلى أن انتهت الحقبة الناصرية، واضطر إلى العمل في قطر، رئيساً لتحرير مجلة الدوحة واستطعت خلال هذه الفترة أن أصوغ صورة لنقده الأدبي في ذهني، خصوصاً بعد أن استهواني الجانب التنظيري، أو النقد الشارح، للنقد وانتهيت إلى أن نقده يتميز بسمات أساسية عدة.

    أولاها أنه نقد متطور، يفيد من التطورات الأخيرة لنظرية التعبير في ذلك الوقت، وأن العملية النقدية تبدأ عنده منذ اللحظة التي يتأثر فيها وجدانه بالعمل المقروء، فيسعى إلى فهمه وتفسيره، ومن ثم تقييمه وما بين الفهم والتفسير، يظل مشغولاً بجمع القرائن الدالة التي يجدها في العمل، ويصل بينها لتصور معناه، قبل تقديم هذا المعنى إلى القارئ في هيئة تفسير للنص وهي عملية تفضي إلى تحديد القيمة الموجبة للعمل أو نفيها عنه وهو في ذلك كله لم يكن يتطلع إلى إجراءات معقدة مثل البنيوية التي نفر منها، وما جاء بعدها، مثل التفكيك وغيره من البدع التي كان يمزح معي، مبرراً موقفه منها.

    وثانيتها أنه ظل يرى في الناقد قارئاً خبيراً، اكتسب تجارب عميقة من طول معاشرة النصوص الأدبية والغوص فيها، ولذلك جعل دور الناقد أشبه بدور الوسيط الذي يجمع بين طرفين يحبهما، النص الأدبي والقارئ، مؤكداً هذا البعد بنقده التطبيقي الذي يسعى إلى إيصال معنى النص إلى القارئ في بساطة آسرة، بعيداً من التقعر أو التقعيد، أو التنظير المتعالي، أو التقليد الساذج لنقد آخر، أجنبي على وجه الخصوص وكانت نصوصه النقدية، في معظمها، رسائل محبة إلى القارئ عن نص محبوب، فقد ظل رجاء أميل إلى الكتابة عن النصوص التي يحبها، والتي يهتز بها، ولم يكتب عن النصوص التي نفر منها أو رآها عديمة القيمة.

    وثالثتها أنه كان يتمتع ببصيرة نقدية، تجعله قادراً على اكتشاف الجوهر الصافي في النصوص، قبل أن يكتشفها الآخرون، ولذلك كان هو السباق في الكشف عن جوهر شعر أحمد عبدالمعطي حجازي، ممهداً الطريق أمام من جاء بعده من نقاد حجازي وقد جاء بعد حجازي بسنوات اكتشافه الطيب صالح الذي لم يكن هناك أحد يعرف عنه على امتداد العالم العربي، فإذا برجاء يمسح التراب وغبار عدم المعرفة عن رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال» مؤكداً ظهور عبقرية فريدة في الرواية العربية وكان نقده لرواية الطيب صالح بداية لاهتمام متزايد بهذا الروائي الذي ما كان العالم النقدي ليحتفل به إلا بعد أن أزاح رجاء الستار عن تفرد إبداعه الروائي وقل الأمر نفسه عن شعر محمود درويش وشعر شعراء المقاومة ثانياً، وكانت النتيجة كتابه عن محمود درويش الصادر عن «دار الهلال» القاهرة وكان ثمرة اكتشافه محمود درويش الذي كان لا يزال مجهولاً بالنسبة إلى النشاط النقدي الأدبي والذائقة الشعرية عموماً ولذلك فليس من المبالغة القول إن نقد رجاء النقاش التعريفي والتفسيري والتقييمي لمحمود درويش، وبعده شعراء المقاومة، بمثابة الضوء الذي وضع درويش وأقرانه في الدائرة التي سرعان ما جذبت إليها الجميع، فتسابق في اكتشافها وتناولها، إلى درجة أنها أصبحت «موضة».

    ورابعتها أنه كان يؤمن أن أي نوع أدبي لا يمكن فهمه إلا في علاقته بغيره من الأنواع، فالأدب كيان متكامل، تتبادل أنواعه التأثر والتأثير، وتقوم بالعملية نفسها مع الفنون التي تتجاوب إبداعاتها وتتراسل على نحو لا يمايز بينها إلا بنوعية الأداة التي تقترن بطبيعة الفعل التعبيري للإبداع من ناحية، وطبيعة الموضوع في علاقته بالمتلقي الذي يتلقاه من ناحية مقابلة ولذلك كان رجاء يكتشف عمليات التراسل بين النصوص الأدبية، وبينها والأعمال الإبداعية في الدوائر المتسعة من عمليات الاستقبال والتلقي.

    وخامستها أنه ظل على إيمانه في عملية التقييم المرتبطة بالتفسير أن للأدب وظيفة إنسانية، تجاوز لغتها إلى غيرها من لغات العالم، وأن الغوص إلى قرارة القرار الإنساني من المحلية هو الطريق إلى العالمية، وأن الأديب المؤثر حقاً هو الأديب الذي يتميز إلى جانب عمق مشاعره وصدق إحساسه بحرصه على التواصل مع قرائه، والوصول إلى أوسع دائرة من المتلقين، غير ناس أنه ينتسب إلى مجتمعات تغلب عليها، بل تتزايد، الأمية ولذلك ظل نافراً من ما رأى فيه تعقيداً مسرفاً في الرمزية لا السريالية، مؤثراً الوضوح الأبولوني على الغموض أو الجنون الديونيسي، فكان أميل إلى حجازي وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش في مواجهة أدونيس وغيره من شعراء الحداثة ذات الجذور الفرنسية التي كانت، ولا تزال، مختلفة كل الاختلاف عن الحداثة التي ترجع إلى جذور أنكلوسكسونية.

    وكان البعد الفني في هذا الجانب الأخير الوجه الآخر من البعد القومي، فقد ظل نفوره من أدونيس نابعاً من تصوره أن شعره تجسيد لرؤية الحزب القومي السوري للعالم، واصفاً إياها بأنها رؤية فينيقية غير عربية، وأن إبداعه غريب الوجه واليد واللسان للقارئ العربي ولذلك، أيضاً، ظل أقرب إلى شعر أحمد حجازي القومي، نافراً من تحولاته الأخيرة التي انقلب فيها على القومية والناصرية وبالقدر نفسه، ظل أقرب وجدانياً إلى شعر صلاح عبدالصبور الذي كان حريصاً على استكتابه في الدوحة القطرية، حين كان رئيس تحريرها، كما ظل أقرب إلى تحولات صلاح الشعرية، في القصائد الغنائية والمسرح الشعري، أعني التحولات التي ظلت أقرب إلى الوضوح الأبولوني منها إلى الغموض والجمود الديونيسي، فشعر صلاح شعر من «كان يريد أن يرى الجمال في النظام/ وأن يرى النظام في الفوضى».

    وهما سطران يصوغان في إيجاز بالغ، مذهب رجاء النقاش في الحياة والفن.

    وليس من المصادفة، والأمر كذلك، أن تتوثق العلاقة الإنسانية بين صلاح عبدالصبور ورجاء النقاش، فقد كان كلاهما بالغ التقدير للآخر، كما ظل كلاهما، ويا للمفارقة، منطوياً على جرح لم يندمل، وندم لم يكن له علاج ناجع، فما أكثر ما كان يحدثني كلاهما، بعيداً من الآخر، وفي لحظات استرجاع التاريخ الماضي، عن الأسف البالغ لأن كليهما غرق في الرمال المتحركة للصحافة، فأخذ من كل شيء بطرف، وخاض معارك خاسرة، وفرض عليه ما لم يكن يميل إليه، فانشغل عن التفرغ اللازم للبحث العلمي الهادئ طويل النفس، ونسي حلمه القديم بالاستمرار في الطريق الأكاديمي، لكن وآه من قسوتها «لكننا»: «لأنها تقول في حروفها الملفوفة المشتبكة/ بأننا ننكر ما خلفت الأيام في نفوسنا/ نود لو نخلعه/ نود لو ننساه».

    ولكن، وليس آه من قسوتها هذه المرة، على الأقل في نظري، فقد حقق كلاهما إنجازاً يدعو إلى الفخار، وأضاف كيفياً، وعميقاً، في مجاله النوعي، وكلاهما أثر، ولا يزال، يؤثر في أجيال متتابعة، وكلاهما انطوى، في إنجازه وإضافته، على إيمان عميق بالإنسانية وجعل من ممارسته الإبداعية والنقدية منارة تستضيء بها الأجيال المتعاقبة، ويستهدي بها وطنه في الطريق الشاق للانتقال من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية، ولذلك سيبقى منهما الكثير للتاريخ، وسيظل فقدهما جرحاً عميقاً، غائراً، لا يندمل في نفسي، وحزناً لا يفنى ولا يتبدد، فقد كان كلاهما صديقاً حميماً، وأخاً كبيراً راعياً، وزميلاً سابقاً في القسم الذي أنتسب فيه، مثلهما، إلى تقاليد طه حسين الجذرية، العقلانية التي استمرت في تلامذته المباشرين، وانتقلت منهم إلى صلاح ورجاء، ومنهما معاً إلى، من ينزل منهما منزلة الأخ الصغير الذي أدركته، مثلهما، حرفة الأدب فوداعاً يا رجاء، يا شبيهي، يا أخي.
    ...............................
    *الحياة ـ في 13/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  3. #51 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 48 ) رحيل رجاء النقاش:
    * «الأب الروحي» للنقد الأدبي.. الذي حوله من «نخبوي» الى « جماهيري»
    * المثقف الذي فتح نوافذ الثقافة العربية على مصاريعها بدون حواجز


    القاهرة: جمال القصاص
    ...................................

    فقدت الحياة الثقافية المصرية والعربية أمس الكاتب الصحافي والناقد الأدبي البارز رجاء النقاش عن عمر يناهز 74 عاما بمستشفى المركز الطبي العالمي للقوات المسلحة، بعد صراع مرير مع المرض. عاش رجاء النقاش حياة حافلة بالكفاح والإبداع، امتزج فيها عطاؤه الأدبي المتنوع الغزير بقيمة إنسانية ونقدية خلاقة، فكان صاحب نظرة نقدية مفتوحة على فضاء الجمال والحرية والاستنارة، ومسكونة في الوقت نفسه بالغوص في أعماق الثقافة العربية لبناء الجسور بين الماضي والحاضر والمستقبل. ولد النقاش في الثالث من سبتمبر (أيلول) عام 1934 بمدينة سمنود بمحافظة الدقهلية في وسط دلتا مصر. وفي عام 1956 تخرج في قسم اللغة العربية جامعة القاهرة، وعمل محررا بمجلة روز اليوسف في الفترة من العام 1959 إلى العام 1961، ومحررا أدبيا بأخبار اليوم والأخبار خلال الفترة من 1961-1964، كما عمل محررا أدبيا بجريدة الجمهورية عامي 1964-1965. تولى النقاش رئاسة تحرير عدد من المجلات المصرية والعربية، منها مجلة الكواكب 1965-1969، ومجلة الهلال 1969-1971، كما تولى منصب رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة مجلة الإذاعة والتلفزيون 1971-1972، كما عمل رجاء النقاش محررا أدبيا بمجلة «المصور» خلال الفترة من العام 1972 إلى العام 1979، ومديرا لتحرير جريدة «الراية» القطرية اليومية خلال الفترة من العام 1979 إلى العام 1981، وتولى رئاسة تحرير مجلة «الدوحة» القطرية في عصرها الذهبي خلال الفترة من العام 1981 إلى العام 1986، ثم عمل مديراً لتحرير مجلة «المصور» العام 1988، وظل لقبل فترة قصيرة من مرضه يواظب على كتابة مقالة بصورة منتظمة أسبوعيا بجريدة «الأهرام». ترك رجاء النقاش بصمة قوية في كل هذه المواقع، لعل من أبرزها حماسه للتيارات الأدبية والشعرية الجديدة.
    ففي مجلة الهلال قدم ملفا ضافيا لتيار السبعينيات في الشعر المصري محتضنا نصوصهم ورؤاهم النقدية المغايرة، كما جعل من مجلة الإذاعة والتلفزيون منارة ثقافية، فنشر على صفحاتها رواية «المرايا» لنجيب محفوظ. كما كتب وهو في مطالع العشرينيات من عمره مقدمته الشهيرة للديوان الأول للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي «مدينة بلا قلب». تمتع رجاء النقاش بحس نقدي مرهف ومخيلة بصرية ثاقبة الرؤية فإليه يرجع الفضل في تقديم الشاعر محمود درويش إلى الحياة الثقافية العربية، وكان كتابه الباكر الذي أصدره في أواخر الستينيات «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة» بمثابة كسر لطوق العزلة والحصار عن درويش، وأيضا شكل الكتاب بطاقة تعريف قوية بشعراء المقاومة الفلسطينية.هذا المعني أشار إليه محمود درويش في رسالة بعث بها إلى الاحتفالية التي نظمتها نقابة الصحافيين المصريين في 21 الشهر الماضي احتفاء برجاء النقاش بمناسبة بلوغه الثالثة والسبعين. قال درويش في رسالته «عزيزي رجاء النقاش كنت ومازلت أخي الذي لم تلده أمي، منذ جئت إلى مصر، أخذت بيدي، وأدخلتني إلى قلب القاهرة الإنساني الثقافي. وكنت قبل عامين قد ساعدت جناحي على الطيران فعرفت قراءك علىّ وعلى زملائي القابعين خلف الأسوار، عمقت إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربي». واختتم درويش رسالته بقوله «نحن مدينون لك لأنك لم تكف عن التبشير النبيل بالمواهب الشابة وعن تحديث الحساسية الشعرية والدفاع عن الجديد الإبداعي في مناخ كان ممانعاً للحداثة الشعرية، ومدينون لك لأنك ابن مصر البار وابن الثقافة العربية الذي لم تدفعه موجات النزعات الإقليمية الرائجة إلى الاعتذار عن عروبته الثقافية».
    تميز رجاء النقاش بغزارة الإنتاج في شتى مناحي الثقافة والإبداع، وقد أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات منها «في أزمة الثقافة المصرية» عام 1958، «تأملات في الإنسان» 1962، «أدباء ومواقف» 1966، «كلمات في الفن» 1966، «مقعد صغير أمام الستار» 1971، «عباس العقاد بين اليمين واليسار» 1973، «صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر» 1975 و«الانعزاليون في مصر» 1981. و«قصة روايتين» عام 1996، وهي دراسة مقارنة بين روايتي «ذاكرة الجسد» للكاتبة الجزائرية أحلام مستغاني، و«وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر. حصل النقاش على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2000. كما حصل في حفل تكريمه بنقابة الصحافيين على درع النقابة ودرع المجلس الأعلى للثقافة، ودرع دار الهلال.
    ....................................
    *عن صحيفة: الشرق الأوسط.
    رد مع اقتباس  
     

  4. #52 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (49) الشيخ طه حسين يزور صديقه

    بقلم: رجاء النقاش
    ......................

    من الامور التي تلفت النظر الان في حياتنا الثقافيه والاعلاميه والصحفيه ما نلاحظه من كثره الاخطاء في اللغه العربيه‏,‏ ولا اعني بذلك تلك الاخطاء التي يحرص بعض المتحذلقين علي الوقوف امامها كلما قراوها او سمعوها‏,‏ ولكنني اقصد الاخطاء التي يسهل التغلب عليها والتخلص منها ولا يصح اصلا ان نقع فيها‏,‏ وهي اخطاء تدل دلاله قاطعه علي ان هناك شيئا ينقصنا لكي تصبح لغتنا اصفي واسهل واكثر دقه في التعبير عما نشعر به او نفكر فيه‏.‏والحقيقه انني لا اتعاطف مع الحذلقه واعتقد انه لا فائده منها في تحسين اللغه او تحسين الذوق‏,‏ فالبعض يقول لنا ان كلمه تقييم غلط‏,‏ والصواب هو تقويم‏,‏ وان كلمه القهوه غلط اما الصواب فهي مقهي‏,‏ وان كلمه متحف بفتح الميم ليست صحيحه وان الصواب هو متحف بضم الميم‏.‏ وامثال هذه الملاحظات هي عندي تضييق لغوي علي الناس‏,‏ فكلمه تقييم مستخدمه منذ عشرات السنين بمعني تحديد القيمه‏,‏ وكلمه قهوه مستخدمه منذ زمان بعيد حيث يقول الناس‏:‏ جلسنا في القهوه ولا يقولون جلسنا في المقهي‏.‏ والناس ينطقون كلمه المتحف بفتح الميم وليس بضمها‏.‏ فما الذي يمنعنا‏,‏ من وجهه النظر اللغويه الخالصه‏,‏ ان نقبل هذه التسهيلات البسيطه ونعترف بالشرعيه اللغويه لما تعود الناس عليه واستراحوا اليه‏,‏ ما دام ذلك لا يمس جوهر اللغه في شيء؟
    لقد اسعدني كثيرا ان يقوم المجمع اللغوي في السنوات الاخيره باعتبار كل الكلمات السابقه صحيحه كما هي مستخدمه علي الالسنه والاقلام‏,‏ وبذلك اصبحت كلمه تقييم صحيحه كما نستخدمها بمعني تحديد القيمه‏,‏ واصبحت كلمه القهوه صحيحه اذا استخدمناها بمعناها كمكان للجلوس فيه‏,‏ واصبحت كلمه المتحف بفتح الميم صحيحه‏,‏ كما انها صحيحه ايضا بضم الميم‏,‏ وطبعا فان المتحف بفتح الميم اسهل واكثر شيوعا علي الالسنه‏.‏
    هذا نوع مما كان خطا شائعا بين الناس واتسع صدر المجمع اللغوي له فجعل منه صوابا لا خطا فيه ولا يستحق احد اي لوم عليه‏.‏
    ولكن هناك اخطاء اخري منتشره الان في الكتب والصحف وعلي لسان بعض المذيعين والمذيعات‏,‏ وهي اخطاء جارحه للذوق قبل ان تكون جارحه للغه‏,‏ وهذه نماذج من هذه الاخطاء التي شاعت واصبحت بحاجه الي شيء من العلاج‏.‏
    ‏1‏ في موضوع نشرته احدي الصحف جاء عنوان الموضوع علي هذه الصوره‏:‏ كشف اسري جديد‏,‏ والمقصود طبعا هو اثري وليس اسري‏.‏
    ‏2‏ في صحيفه اخري وردت هذه العباره‏:..‏ وقد طلب الوزير اعداد تقرير يوضح اللبث في الموضوع‏,‏ والمقصود هو اللبس اي الالتباس وليس اللبث‏.‏
    ‏3‏ وفي نفس الموضوع يقول الصحفي‏:‏ ان هذا الموظف لم يرتكب جرما ولم تشوبه اي شائبه‏,‏ وكلمه تشوبه ليست صحيحه والصحيح تشبه بفتح التاء وتسكين الباء‏.‏
    واحيانا تصل الاخطاء الي حد يثير السخريه والضحك‏.‏ ولكنني امسك قلمي عن تقديم نماذج من هذا النوع‏,‏ فانا لا اريد التشهير وانما اسعي الي العلاج ان امكن ذلك‏.‏
    مثل هذه الاخطاء اصبحت شائعه جدا‏,‏ وهي تدخل في باب الاهمال والتساهل والفقر الشديد في الثقافه اللغويه‏,‏ واذا عدنا الي ما كان مطبوعا في بلادنا قبل خمسين سنه او اكثر فسوف نجد امامنا صوره مختلفه‏,‏ حيث كان هناك حرص علي عدم الوقوع في مثل هذه الاخطاء‏,‏ لان الجميع في الاجيال السابقه كانوا يدركون ان الثقافه اللغويه ضروريه‏,‏ ليس فقط بين الادباء والكتاب والمذيعين وغيرهم‏,‏ بل كانت هذه الثقافه اللغويه ضروريه للمحامي والقاضي والطبيب والمهندس واستاذ العلوم وغيرهم‏,‏ وكان من كبار كتابنا اصحاب اللغه الجميله الصحيحه الدكتور احمد زكي استاذ الكيمياء‏,‏ والدكتور محمد عوض محمد استاذ الجغرافيا‏,‏ والدكتور علي مصطفي مشرفه‏,‏ عميد العلوم‏,‏ والدكتور عبدالرزاق السنهوري‏,‏ استاذ القانون‏,‏ والدكتور سليمان عزمي الطبيب‏,‏ وعلي محمود طه‏,‏ المهندس‏,‏ وعبدالحميد العبادي ومحمود الخفيف من اساتذه التاريخ‏,‏ ومحمد كامل حسين‏,‏ طبيب العظام‏.‏
    وعندما نفكر جيدا في اتساع حجم الاخطاء الظاهره الان والتي تملا كتبنا وصحفنا ومطبوعاتنا المختلفه سوف نجد الي جانب ما سبق ان هناك وظيفه بالغه الاهميه والقيمه هي وظيفه المصحح‏,‏ وقد تعرضت هذه الوظيفه للاهمال والتراجع‏,‏ بينما كانت في الجيل الماضي موضع الاحترام والاجلال‏,‏ وكان يشغلها ادباء وعلماء كبار من امثال محمود حسن زناتي الذي حقق ونشر لاول مره كتاب الفصول والغايات لابي العلاء المعري‏,‏ وزناتي هو زميل طه حسين واحمد حسن الزيات ايام ان كان الثلاثه طلابا بالازهر في اوائل القرن الماضي‏,‏ وهناك ايضا احمد الزين الذي شغل وظيفه المصحح في دار الكتب المصريه‏,‏ وكان الزين من اكبر شعراء الجيل الماضي‏,‏ وكانت المجلات الادبيه تنشر قصائده في صفحاتها الاولي وتصفها باجمل الاوصاف‏,‏ ومما اذكره ان احدي المجلات نشرت له قصيده عنوانها وصف القلب فكتبت المجله تحت العنوان‏..‏ قطعه من عبقريات الوصف الرائع للشاعرالعالم احمد الزين‏.‏ هذا الاديب الكبير كان عمله هو تصحيح ماتنشره دار الكتب المصريه من مولفات مهمه‏,‏ قديمه وحديثه‏.‏ وهذا ما كانت تفعله الصحف الكبري ايضا‏,‏ حيث كانت تستعين بادباء من اصحاب الثقافه اللغويه العاليه للقيام بوظيفه المصحح‏,‏ ولذلك لم تتعرض اللغه العربيه لما تتعرض له الان من استهانه بها وعدم حرص عليها‏.‏ ولا تزال وظيفه المصحح موجوده في الصحف ودور النشر‏,‏ ولكنها فيما اظن لا تحظي بما تستحقه من احترام واهتمام واعطاء اصحابها حقهم الكامل من العنايه والتقدير‏,‏ ومن هنا تسربت الاخطاء في المطبوعات بالصوره الحاده المحرجه التي اشرنا اليها في بدايه الحديث‏,‏ لان المصححين اي حراس اللغه العربيه‏,‏ اصبحوا في وضع غير مناسب‏.‏
    وهذه قصه موثره جدا من حياه طه حسين تتصل بعلاقته مع مصحح كتبه العالم اللغوي الاستاذ عبدالرحيم محمود‏,‏ فقد كان طه حسين يضع هذا المصحح في موضع كريم جدا‏,‏ وكان يعامله باحترام واحساس عميق بالتقدير والمحبه‏,‏ وكان هذا المصحح يعشق مهنته‏,‏ لانه في الاصل كان يعشق اللغه العربيه‏,‏ وكان يجاهد من اجل ان تكون هذه اللغه صحيحه‏,‏ ومن اجل ان تكون كتب طه حسين خاليه من اي تلوث لغوي‏,‏ واعني بالتلوث تلك الاخطاء الكثيره الصغيره التي تشوه وجه اللغه وتفسد متعه المطالعه والمعرفه‏.‏ ولعل هذه القصه الانسانيه تنبهنا الي اهميه وضع المصحح في الصحف ودور النشر واجهزه الاعلام‏.‏ وقد سجل قصه العلاقه الانسانيه الجميله بين طه حسين ومصححه عبدالرحيم محمود الاستاذ ابراهيم احمد الوقفي في مقال نشرته مجله الرساله سنه‏1951,‏ وكان طه حسين في ذلك الوقت هو طه حسين باشا وزير المعارف العموميه‏.‏ وفي هذا المقال يقول كاتبه الفاضل‏:‏ في شهر مارس الماضي‏1951‏ اشتدت العله بالاستاذ عبدالرحيم محمود ولازم الفراش رغم انفه‏,‏ وهو الذي كان لا يطيق الجلوس ساعه كامله في مكان‏,‏ وقد اضطرته قسوه المرض الي الاكتفاء من قراءه الصحف بعناوينها‏,‏ اللهم الا اذا جاءته اوراق من دارالمعارف تحمل اليه كتابا من كتب طه حسين باشا وزير المعارف‏,‏ فان جسمه ينشط وينسي المرض وينهض لمراجعه الكتاب بمنتهي الدقه والعنايه‏.‏ وقد كان عبدالرحيم محمود حريصا علي اخفاء مرضه عن صديقه الدكتور طه لئلا يكون سببا في اقلاقه وازعاجه‏,‏ ولكن حين راينا نحن اصدقاء عبدالرحيم محمود اشتداد العله عليه اتصلنا بمنزل الدكتور طه واخبرناه بحالته‏,‏ فكان اول عمل له في هذا اليوم الاتصال بالمستشفيات والاطباء‏,‏ وفي الساعه الثالثه مساء من ذلك اليوم‏8‏ ابريل‏1951‏ فوجئنا بهيئه مكتب معالي الوزير تقتحم منزل الاستاذ عبدالرحيم محمود وفي مقدمته الاستاذ فريد شحاته سكرتير طه حسين ومدير مكتبه واركبوه قهرا سياره خاصه ذهبت به الي المستشفي ومكثوا معه الي ساعه متاخره من الليل‏.‏ وفي الليله التاليه حضر معالي الدكتور طه لزياره عبدالرحيم محمود بالمستشفي فعانقه وقبله‏,‏ وقد اغرورقت عيناهما بالدموع‏,‏ وابي الدكتور طه الا الجلوس علي كرسي خشبي بجوار فراش صديقه عبدالرحيم محمود‏.‏ واراد طه حسين ان يسري عن نفس صديقه المريض فساله عن صحته فقال الاستاذ عبدالرحيم‏:‏ كيف احس بالمرض ومعالي الدكتور وزير المعارف بجانبي؟ فقال معاليه‏:‏ لا تقل هذا‏,‏ ولكن قل ان الشيخ طه حسين يزور صديقه وزميله الشيخ عبدالرحيم محمود‏,‏ ثم اخذ يتبادلان بعض الفكاهات الادبيه وكان ختامها وصيه الدكتور طه له بعدم مغادره المستشفي حتي تتحسن صحته بصوره كامله‏,‏ فقال الاستاذ عبدالرحيم‏:‏ اني لا اخرج من هنا حتي تكون صحتي مثل الحصان‏,‏ فضحك طه حسين وقال‏:‏ بل اريد ان تكون صحه الحصان مثلك‏!.‏

    ولم تنقطع استفسارات معالي طه حسين باشا عن صديقه يوما واحدا حتي سافر الي اوروبا‏,‏ وكان طه حسين لا يطيق غياب سكرتيره فريد شحاته ولا يغفره له الا اذا كان في زياره للاستاذ عبدالرحيم‏,‏ وكان الوزير يحاسب هيئه مكتبه اذا قصر احدهم في زيارته‏,‏ وكان يسال كل زائر له بالمكتب يكون له بالاستاذ صله عن صحته‏.‏ وقد كان الاستاذ عبدالرحيم عليه رحمه الله احب شخصيه الي قلب طه حسين‏,‏ لا يمل مجلسه‏,‏ ويستزيده منه‏,‏ ويخصه بالاقبال عليه مهما عظمت شخصيه زائريه
    وقد ذكر لي الاستاذ عبدالرحيم محمود يوما انه بعد نجاح الدكتور طه حسين في الدكتوراه حضر اليه في منزله ليقدم له الشكر علي معاونته ومجهوده‏,‏ فقال له عبدالرحيم محمود‏,‏ انني لا اريد شكرا بيننا‏.‏ وبعد اكثر من ثلث قرن ذهب عبدالرحيم الي منزل معاليه ليشكره علي مجهوداته في مصلحه خاصه له فقال معاليه‏:‏ لقد اتفقنا علي الا شكر بيننا‏.‏
    تلك هي صفحه من صفحات العلاقه الانسانيه الحميمه بين طه حسين ومصحح كتبه عبدالرحيم محمود الذي توفي سنه‏1951,‏ وظل طه حسين يذكره حتي النهايه بكل الحب والتقدير والمعرفه بفضله‏.‏ وفي هذه القصه ما يكشف لنا اهميه دور المصحح الي الحد الذي يجعل شخصيه ثقافيه رائده مثل طه حسين ينظر اليه مثل هذه النظره‏,‏ ويحرص عليه كل هذا الحرص‏,‏ ويختاره بعنايه كبيره‏,‏ حتي يضمن لما يكتبه ان يخرج الي الناس في وجه صبوح مشرق خال من اي اثر للاهمال والاستهتار‏,‏ وهو ما نرجوه للغه العربيه التي اصيبت بكثير من الضربات الموثره واصبحت بحاجه شديده الي من يرعاها ويعيد اليها الصحه والعافيه‏.‏
    ..........................
    * الأهرام في 15/8/2004م.
    رد مع اقتباس  
     

  5. #53 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 50 ) رجاء النقاش: نوارة الثقافة العربية المعاصرة

    بقلم: طلال السلمان
    .......................

    تعودنا، زملائي من أبناء جيلي وأنا، أن نسمي أحياء القاهرة، عاصمتنا الكبرى في الستينيات، بأسماء أصدقائنا الذين كانوا يفتحون لنا قلوبهم وبيوتهم فنتلاقى لنغزل أحلامنا معاً، فإذا وطننا العربي قد توحد، واذا نحن شهود ميلاده الجديد: هذه ضاحية أحمد بهاء الدين، وهذه محلة بهجت عثمان، هنا حي صلاح عبد الصبور، هنا حاضنة نجيب محفوظ، هنا منتجع لويس عوض، وهنا رباط آل النقاش، هنا عزبة هيكل، وهنا ضاحية أحمد عبد المعطي حجازي وهنا قلعة محمد عوده الخ..
    على أننا سرعان ما حوصرنا بحزب رجاء النقاش الذي صارت له فروع في القاهرة الكبرى!
    ورجاء النقاش الذي أطل على الثقافة كصاحب منهج نقدي رصين كان في حقيقة أمره داعية لنهضة عربية عنوانها عقائدي ومضمونها العروبة... فهو قد استشف من نتاج المبدعين في المشرق والمغرب، كتّاب قصة وروائيين وشعراء، وحدة الوجدان، والتوحد في حلم النهوض الذي يكون بالأمة جميعا ولا يكون بأي قطر منفردا.
    كانت صورة الغد واحدة في شعر «المشارقة» وفي روايات «المغاربة»، وكانت «الشخصيات» الروائية موحدة السمات في نتاج كتّاب مصر وبلاد الشام. ولم يكن الدين هو عنصر التوحيد، بل قبله وبعده كان الهم السياسي يطل عبر السطور ليفرض التصور الموحد للغد المرتجى.
    ربما لاكتشافه وحدة الوجدان هذه «اتهم» رجاء النقاش بأنه «بعثي»، ثم تأكدت «التهمة» عندما كتب بعض المقالات لصحيفة «الجماهير» في دمشق، أيام دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا) في أواخر الخمسينيات.. وكذلك في مجلة «الآداب» وصحف اخرى في بيروت.
    وهكذا تحول رجاء النقاش من محرر ثقافي، ثم ناقد أدبي، الى ظاهرة سياسية، خصوصاً وقد تعزز بفيلق من شقيقاته وأصهاره (فريدة وأمل النقاش، حسين عبد الرازق وصلاح عيسى)، فصار «حزبا» يتأكد موقفه السياسي، كداعية، عبر منهجه النقدي الذي تعاطى مع النتاج الثقافي العربي، باعتباره التجسيد المباشر لوحدة الوجدان على المستوى «القومي».
    وعندما انفصمت عرى دولة الوحدة تعالت أصوات الانفصاليين، في مصر كما في سوريا، كما من كتّاب السلطة في مختلف «الدول» العربية، محاولة تسفيه كل ما يجمع بين العرب، وتشويه «العربي» كإنسان، وتحقير كل النتاج «القومي» التوجه.
    على هذا لم تكن مصادفة أن يكون رجاء النقاش أول من تولى التعريف بشعراء المقاومة الفلسطينية، وأول من قدم الأدب السوداني (الطيب صالح خصوصا)، وأول من عرّف القراء على الشعر الحر في مصر والعراق ولبنان.
    ولم تكن مصادفة أن يتصدى رجاء النقاش للانعزاليين في مصر، وان يبادر الى احتضان معظم رموز الإبداع الأدبي في الوطن العربي فيبشر بكل موهبة جديدة ويرعاها وكأنها من غرسه. وهكذا كتب لأحمد عبد المعطي حجازي مقدمة ديوانه الاولى «مدينة بلا قلب»، كما تولى تقديم الرواية ـ الحدث للطيب صالح «موسم الهجرة الى الشمال».
    لم يكن رجاء النقاش ناقداً فحسب. كان كاتباً صاحب رؤية، وكان يعتبر أن القيمة الفكرية لا تنفصل عن النبل الإنساني، وكان متفرغاً للقراءة والكتابة. وهكذا أمكن لهذا الشاب ابن الدقهلية الذي بدأ في مجلة «روز اليوسف» محرراً أدبيا، ثم في «أخبار اليوم»، أن يقفز الى رئاسة تحرير مجلة «الهلال» برعاية أحمد بهاء الدين، عندما تولى الإشراف على دار الهلال بمجلاتها وإصداراتها جميعاً.
    بعد انتكاسة الحركة القومية، وانطفاء مصابيح الدعوة في مصر، جاء رجاء النقاش الى الدوحة في قطر ليعمل في جريدة «الراية» قبل أن يتسنى له أن يطلق منها مجلة «الدوحة» التي حاول أن يجمع فيها بين «العربي» و«الهلال» فتكون منشورا ثقافيا شهريا جامعاً، ومساحة لأولئك الملعونين والمحجور عليهم من الكتّاب والمبدعين العرب.
    ولان رجاء النقاش كان «متفرغا» للقراءة والكتابة فهو قد أمكنه أن يصدر خمسين كتابا في النقد الأدبي والتعريف بالنتاج الجديد، بينها أكثر من كتاب حول أزمة الثقافة في مصر وخارجها، وبينها في الشعر والشعراء وبينها في التعريف بالجيل الذهبي للمسرح المصري: محمد مندور ولويس عوض وعلي الراعي وعبد القادر القط ومحمود أمين العالم... وبينها كتابه عن الشاعر التونسي الممتاز «ابو القاسم الشابي» الذي كان نتاجه مطموساً بقرار.
    رجاء النقاش الداعية لم يتعب أبدا من التبشير بمشروع الحركة الفكرية العربية بشكل عام والمصرية بشكل خاص، مع التأكيد على جناحيه: الحرية والعدل.. حرية لا تؤدي الى الفوضى وعدل يمنع ظلم طبقة لأخرى أو الاستئثار بكل الامتيازات على حساب المجموع. ومصالحة وطنية يتم فيها تحقيق وفاق كامل بين الإسلام والنظام أو بين الفكر الديني والدولة المدنية الحديثة. وهو كان يحمّل المثقفين مسؤولية عظمى، ويرى أنهم الجناة الحقيقيون لأنهم انقسموا تجاه القضية قسمين: قسم يستفز الناس بما يكتبه، وقسم يتعامى عن الموضوع برمته وقد يخجل أصلا من الكتابة عن الإسلام.
    ولقد أحب رجاء النقاش الشاعر نزار قباني الذي «جعل الشعر جزءا من حياتنا، حتى صارت كل قصيدة حدثا»، وبرغم اعتراضاته على «انحرافات» أدونيس فهو ظل يعتبره «شاعرا عظيما، بل من أكبر شعراء العرب»، وكان يقدر ـ من بين كتّاب الخليج ـ محمد جابر الأنصاري، وفي مصر كان يحفظ تقديرا عاليا لعبد الوهاب المسيري.
    وبقدر ما كان يتحسر على زمن طه حسين والعقاد وزكي مبارك والزيات ومحمد هيكل، فإنه كان يشفق من انحدار الوضع الثقافي وترديه:
    على أنه في «القضية» لم يتهاون أبدا: من المستحيل أن يكون هناك تطبيع ثقافي مع اسرائيل. ان التطبيع مثل الزواج والحب وسائر العلاقات الإنسانية العالية، فكيف يمكن أن يقتنع أحد بإقامة علاقات مع قاتل يصر على مواصلة جرائمه.. ولا يمكن أن يخون الإنسان نفسه ويخون مشاعره ليغني لقاتل يريد أن يقضي عليه بعد أن سرق أرضه وتاريخه ووطنه.
    [[[
    رجاء النقاش يعيش، هذه الأيام، محنة صحية تتهدد حياته بالخطر، ولقد تنادت الهيئات الثقافية، رسمية وشعبية، لتكريمه في ما يشبه حفلات الوداع، أو الرثاء المبكر، كما أصدرت «الهلال» عددا خاصا عن نتاج هذا النهر الثقافي الممتاز على امتداد خمسين عاماً.
    إنه أحد المصابيح المتبقية مهدد بالانطفاء. إنه زمن الظلمة.
    سنتذكر دائماً هذا القلم المضيء الذي منحنا مكتبة تنير عقلنا وطريقنا، وتصحح الكثير من المفاهيم التي طرحت لتشويه الذاكرة، بحيث نحتقر أنفسنا ونقبل بإلغاء ذاتنا قبل أن يلغينا «العالم الجديد» وهو أميركي ـ إسرائيلي بامتياز.
    ...............................
    * السفير ـ في 28/1/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  6. #54 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 51 ) فنان واحد له وجهان

    بقلم : رجاء النقاش
    ......................

    يذكرني أديبنا العظيم نجيب محفوظ دائما بأديب عالمي آخر هو ماركيز واسمه الكامل جابرييل جارسيا ماركيز‏,‏ الذي نال جائزة نوبل قبل نجيب محفوظ بست سنوات‏,‏ أي في سنة‏1982,‏ وأعمال ماركيز معروفة الآن في اللغة العربية‏,‏ فقد اهتم بترجمتها عدد من الأدباء‏,‏ ولقيت هذه الأعمال قبولا حسنا من القراء‏,‏ مما شجع علي التوسع في ترجمتها‏,‏ حتي أظن أن المكتبة العربية تضم الآن معظم أعمال ماركيز وعلي رأسها روايته الكبري مائة عام من العزلة‏,‏ والتي كانت علي الأغلب هي أول أسباب شهرته والتفات العالم إليه ونيله جائزة نوبل بعد ذلك‏,‏ والحق أن هذه الرواية هي عمل فني بالغ العمق والسحر والتعقيد والجمال في آن واحد‏,‏ وهي من الأعمال الأدبية التي يقرأها الإنسان أكثر من مرة‏,‏ ويجد في كل قراءة شيئا جديدا فاته في القراءة السابقة‏.‏
    وقد قال أحد النقاد الغربيين عن هذه الرواية إنها رواية رائعة توازي رواية دون كيشوت لسرفانتس‏,‏ ورواية دون كيشوت هي إحدي الروائع الكبري في الأدب العالمي‏,‏ وهي درة الأدب الإسباني والعمل الأدبي الأول في الثقافة الإسبانية منذ ظهور تلك الرواية في جزئها الأول سنة‏1605‏ وجزئها الثاني سنة‏1615‏ وحتي الآن‏,‏ وعندما يتم وضع مائة عام من العزلة إلي جانب دون كيشوت ففي ذلك تكريم لماركيز لا يقل عن تكريم جائزة نوبل له‏.‏ وهناك بالطبع عامل مشترك بين سرفانتس وماركيز هو أنهما يكتبان بالإسبانية‏,‏ وقد اختار ماركيز أن يعيش في وطنه اللغوي‏,‏ أي في إسبانيا‏,‏ حيث ترك بلده كولومبيا واختار الحياة بصورة أساسية في برشلونة‏,‏ وفي برشلونة يعيش ماركيز ويبدع أعماله ويفرض علي حياته اطارا من العزلة لكي يستطيع أن يقرأ ويكتب ويستقل بعقله ووجدانه عن سائر الضغوط العملية والاجتماعية والسياسية‏,‏ خاصة بعد أن أصيب منذ عدة سنوات بمرض السرطان الذي فرض عليه جهدا اضافيا للصراع معه وتحمل ألوان العلاج القاسية التي لابد منها لمواجهة هذا المرض الخطير‏.‏
    ماركيز من كولومبيا في أمريكا اللاتينية‏,‏ وسكانها نحو عشرين مليونا‏,‏ وهي تتكلم الاسبانية‏,‏ وقد ثارت من قبل ضد الاستعمار الاسباني لها وتحررت منه‏,‏ ولكنها ظلت محتفظة باللغة الإسبانية‏,‏ فهي اللغة الاساسية الوطنية في كولومبيا‏,‏ ويبدو أن الطابع الأسباني في كولومبيا لا يزال قويا‏,‏ حتي لقد سميت كولومبيا نفسها أحيانا باسم غرناطة الجديدة تشبها بالمدينة الإسبانية الأندلسية الشهيرة غرناطة ذات الطابع العربي الذي لم تتخلص منه رغم مرور أكثر من خمسمائة عام علي خروج العرب منها‏,‏ حيث كانت غرناطة هي آخر مدينة تركها العرب بعد هزيمتهم أمام الإسبان سنة‏1492.‏
    ماركيز ـ مثل نجيب محفوظ ـ لم يصل إلي مستواه العالمي لأنه صاحب موهبة كبيرة فقط‏,‏ بل لأنه صان موهبته صيانة كاملة من عناصر التدمير التي تتعرض لها مواهب الكثيرين‏,‏ وعناصر التدمير هذه قد تكون إغراءات كبيرة‏,‏ وقد تكون ألوانا من الاضطرار والقهر لا يقوي علي مقاومتها أي فنان‏,‏ حياة ماركيز موقف معروف يكشف عن أصالته وصيانته لنفسه وموهبته‏,‏ وهو موقف يدل علي عفته وكرامته والابتعاد بنفسه عن الإغراءات مهما تكن كبيرة‏,‏ وهذا كله هو ما يجعلني أتصور أحيانا أن نجيب محفوظ وماركيز هما فنان واحد له وجهان‏,‏ أحدهما عربي والثاني من أمريكا اللاتينية‏,‏ أما الموقف الذي أشير إليه فهو أن حكومة كولومبيا قد عرضت علي ماركيز بعد أن أصبح مشهورا ومعروفا علي المستوي العالمي أن يكون قنصلا لبلده كولومبيا في برشلونة‏,‏ حيث يحب ماركيز أن يقيم بصورة أساسية‏,‏ وقد قال وزير خارجية كولومبيا الأسبق لوبيز ميشلسين‏:..‏ عندما كنت في نيويورك سنة‏1982‏ اقترح علي بعض أصدقاء ماركيز أن أعينه قنصلا لكولومبيا في برشلونة‏,‏ ولا ريب أن ماركيز كاتب مشهور جدير بالتقدير‏,‏ وقد وجد رئيس كولومبيا الاقتراح معقولا حين عرضته عليه بعد عودت إلي العاصمة الكولومبية‏..‏ و
    بناء علي هذا الكلام الذي قاله وزير الخارجية الكولومبي صدر بالفعل قرار بتعيين ماركيز قنصلا لكولومبيا في برشلونة‏,‏ فماذا كان موقف ماركيز؟‏..‏ قال ماركيز‏,‏ والنص الكامل لكلامه منشور في كتاب عزلة ماركيز ترجمة السيدة ناديا ظافر شعبان‏:..‏ لقد أعلنت مرارا أنني أرفض المناصب العامة والإعانات المالية‏,‏ من أي نوع كانت‏,‏ ولم أتسلم سنتيما واحدا ـ أي ما يساوي المليم ـ لم أربحه بجهدي‏.‏
    وأنا أطبع ما اكتبه علي الآلة الكاتبة بيدي‏,‏ وأعتقد أن كل معونة مالية لا تتصل بمهنة الكتابة إنما تعرض استقلالية الكاتب للخطر‏,‏ واستقلالية الكاتب في رأيي أساسية‏,‏ وهي عندي تعادل القدرة علي الكتابة‏,‏ وأكثر من هذا فإنني لم أتعود أن أذهب لتسلم الجوائز التي حصلت عليها في عدة بلدان‏,‏ ولم أشارك في أي نشاط لترويج كتبي‏,‏ ولم أفعل ذلك كله بدافع التعالي والغرور‏,‏ ولكنني فعلته لأنني أعتقد أن هذا كله هو إجراءات دعائية هدفها تجاري‏,‏ والعمل الشريف الوحيد الذي يجب أن يقوم به الكاتب حتي تنتشر كتبه‏..‏ هو أن يكتبها جيدا ويواصل ماركيز حديثه الممتع الصادق فيقول‏:‏كذلك كنت حين كنت مجهولا مغمورا‏,‏
    ويوم لم يكن هناك أحد يمكن أن يعرض علي منصب قنصل‏,‏ والآن أصبحت أعيش بفضل قرائي‏,‏ فلا يحق لي أن أغير رأيي‏,‏ حيث إنني لا أجد دافعا إلي هذا التغيير‏,‏ ثم يتحدث ماركيز بعد ذلك عن خلافه السياسي مع حكومة بلاده‏,‏ ويري في هذا الخلاف سببا إضافيا يدفعه إلي رفض العمل مع هذه الحكومة‏,‏ فليس من الأمانة أن يعمل ماركيز في خدمة حكومة لا يؤمن بسياستها في داخل بلاده أو خارجها‏.‏ ويواصل ماركيز حديثه فيقول‏:‏في عبارة تحتاج إلي شيء من الشرح والتفسير‏:‏ انه لن يكون كاتب ربطة عنق‏,‏ بل لن استعمل ربطة العنق حتي في الحياة العادية‏.‏
    وربطة العنق مثل شعبي في كولومبيا معناه أن يعمل الإنسان في وظيفة من الوظائف الشكلية‏..‏ يعمل فيها قليلا‏..‏ هذا إن عمل‏..‏ ولكنه مع ذلك يكسب كثيرا‏,‏ أي أن الموظف في وظيفة ربطة العنق هذه يكون مثل ربطة العنق‏,‏ مجرد زينة شكلية ليس لها دور جدي ولا عمل حقيقي علي الاطلاق‏.‏
    وأخيرا يقول ماركيز أستطيع أن أخدم وطني دون أن أستغل هذا الوطن‏,‏ ودون أن أكون في خدمة الحكومة‏..‏ أستطيع خدمة وطني بترفعي‏,‏ وأنا أتابع الكتابة محافظا علي هذا الترفع‏.‏
    كثيرا ما أفكر في التشابه القوي الجميل بين نجيب محفوظ وماركيز‏,‏ وأحيانا يبدو لي في عين الخيال أنهما فنان واحد له وجهان أحدهما محفوظ والثاني ماركيز‏,‏ وكثيرا ما أقارن بين حرافيش محفوظ ومائة عام من العزلة لماركيز‏,‏ ونجيب ـ فيما أعلم ـ هو الأسبق‏,‏ والتشابه بين الروايتين غير قليل‏,‏ فهذان الفنانان المتشابهان يحرصان علي الاستقلال‏,‏ وهما من أصحاب العفة والكرامة‏,‏ وهما يرفضان ربطة العنق بمعناها الرمزي ومعناها الواقعي‏,‏ فما من أحد منهما لبس ربطة عنق في يوم من الأيام علي الاطلاق‏.‏
    .....................................
    *الأهرام ـ في 15/10/2006م.
    رد مع اقتباس  
     

  7. #55 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 52) حدثنا شوقي ضيف فقال

    بقلم : رجاء النقاش
    .......................

    غاب عنا منذ اليوم العاشر من شهر مارس الحالي أستاذ أساتذة الأدب واللغة ورئيس المجمع اللغوي الدكتور شوقي ضيف‏1910‏ ـ‏2005.‏ وقد تعودنا أن نقول عن الذي يغيب عنا ويترك وراءه آثارا كثيرة تنفع الناس وتبقي في الأرض انه الغائب الحاضر‏,‏ وهذا الوصف هو أصدق الأوصاف وأقربها إلي الصواب عندما نتحدث عن شوقي ضيف‏,‏ فقد ترك وراءه ما يقرب من خمسين كتابا في اللغة والدين وتاريخ الأدب والنقد‏,‏ وهي كلها كتب لا غني عن الرجوع إليها والاعتماد عليها عند أي باحث متخصص وعند القاريء غير المتخصص أيضا‏,‏ بفضل ما تقدمه هذه الكتب من علم ومعرفة وبحث دقيق‏,‏ بالاضافة الي ما كان يملكه هذا الأستاذ الكبير من أسلوب واضح سهل جميل‏,‏ وبهذه الأعمال الكثيرة العامرة بالمعرفة والمتعة الأدبية سوف يبقي شوقي ضيف حيا متألقا في هذا الجيل وفي كل الأجيال القادمة‏,‏
    فهو حقا غائب وحاضر علي الدوام‏.‏
    سوف أتوقف اليوم مع جانب إنساني في شخصية شوقي ضيف‏,‏ وهو الجانب الذي يتصل بعلاقته مع بعض أساتذته الكبار الذين تعلم علي يديهم‏.‏ ولا شك أن من أجمل ما كتبه شوقي ضيف هو حديثه عن أساتذته‏,‏ ففي ذلك ما هو أكثر من الوفاء الجميل‏,‏ لأننا نجد فيه نوعا من المعرفة الواسعة والفهم العميق والعلاقة المثالية كما ينبغي أن تكون بين الأساتذة والتلاميذ‏.‏
    في كتابه معي وهو سيرة حياته يحدثنا شوقي ضيف عن عدد من أساتذته الكبار‏,‏ وهو في هذا الكتاب الجميل يشير الي نفسه دائما باسم الفتي‏,‏ وذلك علي طريقة طه حسين في كتابه الأيام‏,‏ وفي غيره من الكتب‏,‏ حيث إن طه حسين لم يكن يستخدم كلمة أنا في معظم كتاباته‏,‏ وكان يستخدم بدلا منها كلمة الفتي أو الضمير هو أو كلمة صاحبنا‏,‏ وذلك عندما يريد أن يتحدث عن نفسه‏,‏ وهو نوع من التأدب والذوق والتواضع في مخاطبة الناس‏.‏ وعلي هذه الطريقة سار شوقي ضيف في كتابته عن نفسه فلم يقل أنا وإنما قال الفتي وهو يعني بذلك الاشارة إلي شخصه‏.‏

    يتحدث شوقي ضيف عن أحد أساتذته الكبار في الجامعة‏,‏ وهو أحمد أمين فيقول‏:‏ كان من أساتذة الفتي المحببين اليه وهو في السنة الثالثة بكلية الآداب سنة‏1933‏ أحمد أمين أستاذ الحياة العقلية الاسلامية‏,‏ وكان من خريجي مدرسة القضاء الشرعي‏,‏ وحين تخرج من هذه المدرسة اختاره ناظرها عاطف بركات ليكون معيدا له فيما يدرسه للطلاب من علم الأخلاق‏.‏ وكان يوضع لأحمد أمين كرسي لكي يستمع مع الطلاب إلي عاطف بركات وهو يلقي دروسه في علم الأخلاق‏,‏ وكان مما درسه معهم رسالة عن مذهب المنفعة للفيلسوف الانجليزي جون ستيوارت ميل جاء في مقدمتها منذ جلس الشاب سقراط يتلقي العلم علي الشيخ فيثاغورس‏...‏ الخ‏,‏ فأطلق الطلاب علي المعيد الشاب أحمد أمين اسم الشاب سقراط‏.‏ وكان أحمد أمين قد عكف علي اللغة الانجليزية فتعلمها‏,‏ وأصبح أستاذا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب سنة‏1926,‏ ورأي أن يغير زيه‏,‏ وكان قد انتقل من القضاء الشرعي فغير عمامته الي الطربوش وخلع الجبة والقفطان ولبس البدلة انسجاما مع بيئته الجامعية الجديدة‏.‏ ثم يقول شوقي ضيف‏:‏ كان أحمد أمين في طليعة من جمعوا بين الثقافتين القديمة والحديثة جمعا رائعا‏,‏
    يعينه عقل بصير ونظر دقيق ودأب لا يماثله دأب في البحث‏,‏ واستيعاب لا يدانيه استيعاب لكنوز الفكر الاسلامي وذخائره‏.‏ وكان يحاضرنا في الحياة العقلية الاسلامية‏,‏ ولم تكن صورة هذه الحياة واضحة في نفوس المثقفين‏,‏ فأكب عليها يدرسها ويذلل صعابها‏,‏ فإذا كل ما كان يحجبها عن الأعين ينزاح‏,‏ لا يفترق في ذلك جانب عن جانب‏,‏ بل استطاع أن يسلط أضواء قوية علي كل الجوانب‏,‏ وساعدته في ذلك ثقافته القديمة في الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي وثقافته الغربية الحديثة وما قرأه من آراء المستشرقين‏.‏ وكان الفتي يعجب إعجابا شديدا بكل ما يعرضه أستاذه أحمد أمين حين يراه يتعمق في وصف الظواهر العقلية للأمة العربية‏,‏ وما وضعته من العلوم وصاغته من الأفكار‏.‏ وكان أحمد أمين ينهي طلابه أشد النهي عن الجدل العقيم وما يحمل من مغالطات‏,‏ ويكرر أن طريقة الجدل اللفظي عند القدماء حلت محلها في العصر الحديث طريق التحليل والاعتماد علي المنطق العقلي‏,‏
    ولعل هذا ما جعل الفتي فيما بعد يحرص علي ألا ينزلق في أي مجادلة عقيمة لا تجدي نفعا‏.‏ وهناك جانب مهم آخر في شخصية أحمد أمين هو حسن انتقائه للنصوص التي تصور الفكر العربي الاسلامي‏,‏ وكأنما كانت لديه حاسة يلتقط بها أدق ما يقرؤه وأروعه‏.‏
    ومن أساتذة شوقي ضيف أيضا الشيخ مصطفي عبد الرازق أستاذ الفلسفة الاسلامية بكلية الآداب في ثلاثينيات القرن الماضي‏,‏ ووزير الأوقاف سنة‏1938‏ وشيخ الأزهر سنة‏1945‏ وحتي وفاته سنة‏1947.‏ والشيخ مصطفي عبد الرازق تخرج في الأزهر وتتلمذ علي الإمام محمد عبده الذي كان يعتبره ابنا له بسبب ما رآه فيه من فرط الذكاء والدأب علي الدرس‏.‏ وبعد إتمام مصطفي عبد الرازق لتعليمه الأزهري ذهب إلي باريس ودرس في السوربون‏,‏ وعندما عاد الي مصر قام بتدريس الفلسفة الاسلامية في كلية الآداب‏,‏ حيث يقول عنه تلميذه شوقي ضيف‏:‏ إنه ظل يحتفظ بزيه الأزهري في صورة أنيقة دون بهرجة‏,‏ وكان يحف به وقار ومهابة وجلال‏,‏ كما كان يحف به حب طلابه لسماحة نفسه وكريم شمائله‏,‏ إذ كان يفتح قلبه لهم‏,‏ وكان غاية في التواضع وأدب الحديث دون أي ترفع‏,‏ وكأنه أب رءوف وصديق عطوف‏.‏
    ثم يحدثنا شوقي ضيف بعد ذلك عن أستاذ ثالث من أساتذته هو أمين الخولي فيقول عنه‏:‏ كان قد تخرج في مدرسة القضاء الشرعي وعين إماما في سفارة مصر بإيطاليا وألمانيا‏,‏ فرأي الغرب‏,‏ ووقف علي جوانب الحضارة والفكر فيه‏,‏ وعندما عاد إلي مصر رجع إلي زيه الأزهري‏,‏ وهو مع ذلك يكره الجمود ويحب التجديد‏,‏ وكان يدفع تلاميذه إلي نقد كل ما يقرأون‏,‏ وأيضا إلي نقد آرائه هو نفسه‏,‏ وكان يتقبل أفكار تلاميذه بصدر رحب وسعة أفق‏,‏ غير مظهر لأي طالب تبرما أو ضيقا مهما أطال التلميذ في حواره وفي مناقشته وجداله‏.‏
    ثم يحدثنا شوقي ضيف عن أستاذه الأكبر والأقرب إليه وهو طه حسين فيقول عنه‏:‏ لم يعرف الفتي محاضرا شد إليه الاسماع وجذب اليه القلوب كما عرف ذلك عند أستاذه طه حسين‏,‏ فقد كانت محاضراته مهوي الأفئدة‏,‏ وكان أحيانا يلقيها بالجمعية الجغرافية أو بقاعة إيوارت في الجامعة الأمريكية‏,‏ فكنت لا تجد مكانا‏,‏ لا للجلوس فقط‏,‏ بل أيضا للوقوف‏.‏ وكل ذلك‏,‏ أو كثير منه بفضل صوته المحبب الرائع الذي اكتسبه لنفسه خلال تعلمه تجويد القرآن الكريم‏,‏ وكان قد أتقن هذا التجويد صبيا‏,‏ وكثيرون مثله في أيامه أتقنوه‏,‏ ولكن أحدا منهم لم يستطع أن يلائم بينه وبين محاضراته ومخارج كلامه وصورة إلقائه كما فعل طه حسين
    ويروي شوقي ضيف عن أستاذه طه حسين أن الاستاذ قد سأله يوما عن رأيه في محاضرة له‏,‏ كان قد ألقاها في الجامعة الأمريكية‏,‏ قال له شوقي ضيف إنها محاضرة طيبة‏.‏ فاستغرق طه حسين في الضحك ووضع إحدي يديه علي الأخري وقال‏:‏ طيبة فقط؟‏!‏ ثم قال طه حسين بعد ذلك‏:‏ ما رأيك أنني ظللت أعد هذه المحاضرة في نحو شهر‏,‏ أقرأ لها كتبا مختلفة‏,‏ حتي استوعبت موضوعها وألقيت فيه المحاضرة التي سمعتها‏.‏ ويعلق شوقي ضيف علي ذلك فيقول‏:‏ خجل التلميذ ـ أي شوقي ضيف نفسه ـ من أستاذه طه حسين لأنه لم يكن يطرأ علي باله أنه يعني بإعداد محاضراته كل هذه العناية‏,‏ وخاصة أنه كان يمتاز ببراعة فائقة في الأداء‏,‏
    وهي براعة لم تتح لأي محاضر في أيامه‏.‏ وكان ذلك درسا رائعا للتلميذ ليتعلم‏,‏ بل ويستقر في نفسه أنه لا يوجد عمل أدبي ـ محاضرة أو غير محاضرة ـ جدير بالتقدير مهما يصغر حجمه دون أن يكلف صاحبه جهدا كبيرا ومشقة متعبة‏.‏ حتي طه حسين صاحب البيان الساحر الذي كان يخلب به مستمعيه يتحمل جهدا مضنيا‏,‏ لا في بحوثه الطويلة وكتبه فحسب‏,‏ بل أيضا في محاضراته العامة‏.‏
    تلك صورة حية يرسمها شوقي ضيف لأساتذته‏,‏ وهي صورة تقدم لنا ملامح عصر كان فيه الأساتذة كبارا‏,‏ وكانت فيه صلة الأساتذة بطلابهم أشبه بالعلاقة بين الآباء والأبناء‏,‏ أي أنها علاقة قائمة علي الحب والرحمة والحنان والرعاية والقدوة الرائعة‏,‏ ولذلك كان من الطبيعي أن يكون شوقي ضيف نفسه أستاذا عظيما لأساتذة عظماء‏.‏
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    الأهرام ـ 27/3/2005م.
    رد مع اقتباس  
     

  8. #56 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 53) باقة ورد لا تذبل أبداً لرجاء النقاش

    بقلم: يسري السيد
    .........................

    يخجلك دائماً بتواضعه الشديد وأدبه الجم.. تجذبك شخصيته وخلقه الدمث.. تشدك إليه ثقافته الرفيعة في كافة المجالات.. يغرقك في بحر معرفته بتراث الماضي وإبداع الحاضر.. يجبرك علي الحلم معه بغد أفضل مهما كان السواد الذي يلفنا جميعاً.. وقبل ذلك وبعده يحبسك في أسره "الإنسان" داخله الذي لم يخفت صوته أبدا..!!
    هو الصديق والناقد الكبير رجاء النقاش الذي يحتاج منا جميعاً دون أن يطلب الدعاء لله أن يمنحه القوة لمواجهة هذا الغول الغاشم الذي هاجمه في غفلة منه ومنا جميعاً.. اقصد طبعا المرض اللعين.
    وبعيداً عن هذه السيرة التي لا يحبها ناقدنا الكبير نستنهض فيه القوة الكامنة في روحه للمقاومة والله معنا جميعاً في تجاوز هذه المحنة.
    والأستاذ النقاش واحد من القلائل الذين عرفتهم علي المستوي الشخصي وجعلني لا أفقد ثقتي الإنسانية في كون المبدع إنساناً قبل كل شيء.
    بعض المبدعين قد يجذبك إبداعهم بعنف لكن عندما تقترب من شخصياتهم تكره الإبداع والحياة من كم الشيزوفرنيا بين ما يسطرونه علي الورق وممارساتهم في الحياة.
    أشعر بالذنب تجاه قلبه الرقيق حين جذبته مرة بفورة الشباب إلي مشروع إنشاء جريدة القاهرة ثم ارتدت سهام الاحباط الي قلوبنا جميعا في تفاصيل لا داعي لذكرها.
    لكن ما شغلني دائماً خلال معرفته به منذ سنوات هو كيفية المواءمة بين أدبه الجم وتهمة النقد التي تصل في قسوتها أحياناً إلي سيف باتر في يد بعض النقاد. بعيداً طبعاً عن حملة المشاعل المباخر التي تمتلأ بهم ساحتنا النقدية".
    وإذا كان هناك تصنيف للقضاء بين جالس وهم القضاة. وبين واقف وهم المحامون فأعتقد أن الكاتب والناقد يشكل الضلع الثالث للقضاء.
    أقصد طبعاً بالقضاء الناقد!!
    مهمة الكاتب والناقد لا تقل قدسية وأهمية عن مهمة القاضي فهو يستطيع بذائقته وعلمه وموهبته رفع موهبة إبداعية لعنان السماء أو دفنها في سابع أرض.
    والضمير هو الحاكم.. والتاريخ هو الحكم والكاشف.. وصمت ناقد كبير مثل رجاء النقاش يكون له صوت.. وبل وصرخة أشد من الكتابة في حد ذاتها.. فهذا يعني التجاهل عند البعض والحكم بالقتل عند البعض الآخر.
    هكذا يقدم "رجاءنا" هذا المنافيستو النقدي في كتابه قصة روايتين.
    فالصمت عن تناول الأعمال المحدودة القيمة سبب في خلق عداوات أعنف وأشد قسوة من العداوات التي خلقتها آراؤه الصحيحة في نقد بعض الأدب أو بعض الأدباء.
    يعني باختصار أن هناك فاتورة ضخمة للصمت يدفعها أصحاب المباديء الذين يرفضون الانسياق في بحر المنافقين والمداهنين.. وقد دفع النقاش مراراً فاتورة الصمت في حياتنا الأدبية التي لم تعرف في قاموسها "الروح الأدبية" والتي تعتبر بحق وهماً كبيراً مثل الروح الرياضية التي نسمع عنها كثيراً ولا نراها أبداً..!!
    وأخطر ما قرأته في منافيستو النقاش الشخصي والنقدي ضيقه بمهنة النقد الأدبي والتي تمني لو كان بعيدا عنها حتي لا يضطر إلي جرح البعض بصراحته وهو لا يحب ذلك أو يصمت فيدفع فاتورة الصمت بدلا من خسران نفسه إذا جامل أو نافق وهو لا يقدر علي ذلك كما يقول.
    لكن أخطر ما صرخ به النقاش في هذا المنافيستو هو رفضه التام لغضب الماركسيين والشيوعيين من كتاباته في ذات الوقت الذي تغضب عليه الأحزاب الدينية العلنية والسرية وعلي رأسها جميعا الإخوان المسلمون الذين يهدفون جميعاً إلي السيطرة الأدبية علي كل عمل فني وهو أمر مثير للقلق.
    لأن الفن قد يكون مصدره تفكيراً سياسياً. لكن الفن شيء والسياسة شيء آخر.
    لذلك يصرخ النقاش في وجه الجميع "ارفعوا أيديكم عن الفن والإبداع والنقد.. فالفن والنقد لا ينتعشان في ظل القيود والسدود بل يموتان مع سبق الإصرار والترصد.
    هل عرفتم جميعاً لماذا غافله وغافلنا هذا الغول ليخترق جسد "رجاءنا"..!!
    لأنه يصرخ منذ سنوات في مالطة وعالم أذن من طين وأخري من عجين.
    باقة ورد للصديق الإنسان... لا تذبل أبداً.. وأهلا به قريبا معافي يمدنا بمداد من قلبه لا ينتهي أبداً.
    ...........................................
    الجمهورية 15/12/2005م.
    رد مع اقتباس  
     

  9. #57 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 54) شيء من دموع مندور

    بقلم: رجاء النقاش
    ..........................

    هذا موضوع كتبت فيه من قبل‏,‏ ولكني أحب أن أعود إليه اليوم لعدة أسباب‏,‏ أولها أنه يتصل أشد الاتصال بعدد من الموضوعات التي كتبتها علي صفحات الأهرام في الأسابيع الماضية‏,‏ وفي هذا الموضوع توضيح لبعض ما ورد في المقالات السابقة‏,‏ والسبب الثاني الذي يدعوني للعودة إلي هذا الموضوع هو ما يشير إليه من حقيقة مؤلمة‏,‏ حيث ان بعض متاعب أهل الفكر والثقافة في تاريخنا الحديث كان مصدرها مثقفين آخرين لا يترددون في اتهام زملائهم في تقارير سرية يقدمونها إلي أجهزة الأمن‏,‏ مما يترتب عليه أن يكون هناك ضحايا يتعرضون لمواقف قاسية بسبب هذه التقارير‏,‏ ومثل هذه التقارير التي كان يكتبها بعض المثقفين ضد إخوانهم وزملائهم هي دليل علي أن الثقافة إذا خلت من العنصر الأخلاقي فإنها تكون أشد خطرا علي المجتمع من الجهل والجهلاء‏.‏
    ومن الطبيعي أن يختلف الناس في أمور الثقافة والفكر‏,‏ ومعالجة مثل هذا الإختلاف لها حلول كريمة متعددة‏,‏ وليس من بين هذه الحلول أن يطعن المثقفون بعضهم بعضا وأن يحرضوا أجهزة الأمن ضد من لا يتفقون معهم في رأي من الآراء‏.‏
    وأخيرا فأنا أعود إلي هذا الموضوع لأنه يكشف عن صورة سلبية في العلاقة بين السلطة والمثقفين‏,‏ وهو أمر لا ينتهي إلا بالشر‏,‏ حيث يدفع المجتمع كله ثمنا غاليا‏,‏ ولاشك أن الهجرة شبه الجماعية للمثقفين في مصر إلي البلاد الأوروبية والعربية في سبعينيات القرن الماضي بسبب الضغوط التي تعرضوا لها من جانب السلطة كانت تمهيدا لظهور العنف والتطرف‏,‏ وهما الظاهرتان اللتان عانت منهما البلاد لفترة طويلة‏,‏ ومن الطبيعي عندما يهاجر المثقفون وتخلو البلاد من أصحاب العقول الكبيرة أن يصبح المجال مفتوحا أمام الذين لا يفكرون إلا بالمسدس والقنبلة والجنزير‏.‏
    أعود بعد ذلك إلي الموضوع الأصلي‏,‏ وقد كان ذلك سنة‏1958‏ حيث كانت الاستعدادات تجري لعقد مؤتمر للأدباء العرب في الكويت‏,‏ وفي هذا المؤتمر كان هناك وفد مصري رسمي يرأسه الأديب الكبير الراحل يوسف السباعي‏,‏ وقد رأت الكويت أن هذا الوفد لا يضم بعض الوجوه الثقافية المهمة في مصر‏,‏ فوجهت عددا من الدعوات الشخصية لبعض من اختارتهم من الاسماء الأدبية الكبيرة‏,‏ وكان من بين من وجهت الكويت اليهم دعوتها الناقد الكبير والكاتب صاحب التاريخ الوطني المعروف الدكتور محمد مندور‏,‏ وكان مندور شخصية عامة مهمة‏,‏ وكان معروفا بثقافته الأدبية الرفيعة‏,‏ بالإضافة إلي ثقافته السياسية والقانونية الواسعة‏,‏ وفي الفترة التي سبقت ثورة‏1952‏ كان مندور كاتبا لامعا يحظي بمكانة كبيرة فقد كان الكاتب الأول في صحف حزب الوفد القديم صاحب الأغلبية الشعبية في ذلك الوقت‏,‏ وقد احتل مندور مكانه في مقدمة الكتاب والمفكرين الوطنيين المؤثرين بما كان يملك من مواهب عالية وصدق في الوطنية وعمق في فهم القضايا التي يتعرض لها في السياسة والأدب والمجتمع‏.‏
    وقد تمكن مندور منذ عودته من بعثته إلي باريس سنة‏1939‏ من الوصول إلي مكانة رفيعة في السياسة والأدب‏,‏ لا في مصر وحدها‏,‏ ولكن في العالم العربي كله‏,‏ ومن هنا كان حرص الكويت علي اختياره بصفته الشخصية للمشاركة في مؤتمر الأدباء العرب‏,‏ ما دام إسم مندور لم يكن بين اسماء الوفد الرسمي الذي يمثل مصر في هذا المؤتمر‏.‏
    وكان علي مندور أن يحصل علي تأشيرة خروج من الجوازات المصرية للسفر إلي الكويت‏.‏ ولكن الكاتب الكبير فوجئ بأنه ممنوع من السفر‏.‏
    وتشاء الظروف أن التقي بمندور في مساء نفس اليوم الذي عرف فيه بقرار منعه من السفر‏,‏ وكان ذلك في مكتب الفنان الراحل سعد الدين وهبه الذي كان في تلك الأيام لايزال يعمل ضابطا بالشرطة‏,‏ وكان مسئولا عن مجلة اسبوعية تصدرها وزارة الداخلية هي مجلة البوليس وكان سعد الدين وهبه إلي جانب عمله في الشرطة كاتبا شابا موهوبا يحاول ان يخرج من نطاق عمله في وزارة الداخلية إلي المجال الواسع للحياة الثقافية والفنية‏,‏ وهو ما حققه بعد ذلك حيث أصبح واحدا من أهم كتاب المسرح في مصر‏,‏ كما كان سعد الدين وهبة قد أصدر مجلة ثقافية هي الشهر‏,‏ وبدأ المثقفون يترددون عليه كرئيس لتحرير هذه المجلة‏,‏ وباعتباره واحدا من الذين لهم علاقات طيبة بالسلطة في ذلك الحين‏,‏ وكان العديد من المثقفين يلجأون إليه لحل بعض مشاكلهم ــ وما كان أكثرها ــ مع أجهزة السلطة المختلفة‏,‏ ولم يكن سعد الدين وهبه ــ رحمه الله ــ يتردد في بذل أي جهد يمكنه أن يبذله لمساعدة الآخرين‏,‏ فكان ينجح أحيانا في مساعيه‏,‏ وفي أحيان أخري تخيب هذه المساعي‏,‏ وتبقي المشكلة علي ما هي عليه‏.‏
    جاء مندور إلي سعد الدين وهبه يشكو من قرار منعه من السفر‏,‏ وفجأة وجدت مندور يبكي متأثرا بما أصابه‏,‏ ثم ازداد انفعاله فإذا به يشد شعره الأبيض‏,‏ ويقول بصوت خفيض تخنقه الدموع‏:‏
    ماذا فعل مندور حتي يتعرض لهذه الإهانات؟‏!‏ هل يجوز بعد كل هذا الكفاح الوطني والثقافي‏,‏ وبعد ما قدمته للوطن وللثقافة العربية أن أجد نفسي بكل هذه البساطة هدفا لمثل هذه المواقف الصغيرة؟‏!‏
    كان هذا المشهد هو أحد المشاهد المؤلمة التي انطبعت صورتها في قلبي‏,‏ ولا يمكنني أن أنسي هذا المشهد المحزن مهما طال الزمن‏,‏ ومهما ازدحمت الأحداث بعد ذلك في النفس والذاكرة‏.‏
    كان مندور يومها في الواحدة والخمسين من عمره‏,‏ وكان مهيبا ضخم الجسم‏,‏ ذا وجه شديد التأثير في كل من يراه‏,‏ وكان شعره كله قد أصابه بياض الشيب فزاده هيبة علي هيبته الطبيعية‏,‏ وفي مقدمة جبينه كان هناك أثر لجرح قديم تخلف من عملية جراحية خطيرة أجراها له في رأسه سنة‏1950‏ الجراح الإنجليزي هارفي جاكسون وهي عملية استئصال للجزء الأكبر من الغدة النخامية الكائنة أسفل فصي المخ الأماميين‏,‏ وكان مندور مهددا بالعمي الكامل لو لم يقم باجراء هذه العملية الخطيرة‏,‏ وقد نتائج هذه العملية تؤثر في جسد مندور الصلب حتي توفي سنة‏1965‏ وكان في الثامنة والخمسين من عمره‏.‏
    كان مشهد مندور وهو يبكي ويشد شعره الأبيض مؤلما ومؤثرا إلي أبعد الحدود‏,‏ وقد أصابني حزن كبير وأنا أتأمل هذا الصرح الكبير صاحب القامة الفكرية العملاقة‏,‏ وهو في هذه الحالة التي تشبه الإنهيار‏,‏ وأخذت أقول لنفسي‏:‏ إذا كان مندور يتعرض لكل هذه المعاملة السيئة‏,‏ فماذا سوف يكون مصيري ومصير غيري من الذين كانوا شبابا في تلك الفترة‏,‏ وكانوا في العشرينيات من عمرهم‏,‏ ولم يكن لدي أحد منهم ما يملكه مندور من تاريخ وتراث وطني وفكري عزيز‏.‏
    كنت قد قرأت كل ما كتبه مندور ثم تعرفت عليه شخصيا وأنا طالب في الجامعة سنة‏1953‏ وكان من حظي أن أقترب منه لفترات طويلة‏,‏ حيث كان يملي علي بعض مقالاته بعد أن ضعف بصره ضعفا شديدا‏,‏ ولم يعد قادرا علي الكتابة بنفسه‏,‏ وكان مندور في نظري ونظري كثيرين غيري من شباب تلك الفترة أستاذا ورائدا عظيما ومفكرا كبيرا قضي عمره في خدمة وطنه وأضاف إلي الثقافة العربية والحركة الوطنية إضافات لا تنسي‏.‏
    ومرت لحظات بعد هذا المشهد المؤثر‏,‏ وعاد مندور إلي طبيعته وهدوئه‏,‏ فقد كان رغم اشتعاله الوجداني والفكري رجلا وديعا مهذبا شديد التحضر يحب الحوار مع الآخرين حتي لو كانوا من ألد أعدائه وأشد المختلفين معه كان رجلا ديموقراطيا صافي القلب والعقل‏,‏ وكان يدرك تماما أن الحوار والمناقشة والأخذ والرد هي الوسائل الصحيحة للتعامل الفكري بين الناس‏,‏ وهي وحدها التي تحفظ كرامة العقل الإنساني‏,‏ وتعبر عن هذه الكرامة لقد كان مندور في كلمات موجزة‏,‏ من أجمل وأعمق وأغني الشخصيات الإنسانية والفكرية التي عرفتها في حياتي‏.‏
    سألت مندور عن السبب الذي من أجله تقرر إعلان الحرب عليه ومنعه من السفر‏,‏ وعرفت أن ذلك الموقف يعود إلي تقارير أمنية قدمها ضده أحد الأدباء المعروفين‏,‏ لأن مندور تجرأ علي توجيه نقد صريح لعمل من أعمال هذا الأديب الذي كان علي صلة قوية بالسلطة في تلك الفترة‏,‏ وقد قرر هذا الأديب أن يعاقب مندور بافتراسه‏,‏ وإقناع السلطة بعدم إخلاصة‏,‏ وضرب الحصار حوله ولو أدي به ذلك إلي أن يفقد كل شئ حتي موارد رزقه‏.‏
    كان مندور لا يستحق هذه المعاملة‏,‏ وكانت السلطة مخطئة في محاربة مثقف وطني عظيم له تاريخ مضئ بهذه الطريقة السيئة‏.‏
    أما أن يكتب بعض المثقفين والأدباء تقارير أمنية ضد بعضهم لمجرد الاختلاف في الرأي‏..‏ فتلك مصيبة‏,‏ وهي مظهر من مظاهر الخروج بالثقافة عن دورها الإنساني الكريم‏,‏ وعن الاخلاق التي بغيرها تفقد الثقافة أي معني لها‏...‏ وأي قيمة‏.‏
    ......................................
    *الأهرام في 18/12/2005م.
    رد مع اقتباس  
     

  10. #58 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 55 ) رحلة مع الخوف

    بقلم: رجاء النقاش
    ........................

    «الخوف» هي القصة القصيرة التي كتبها نجيب محفوظ في أوائل الستينيات من القرن الماضي ونشرها بعد ذلك في مجموعته بيت سيئ السمعة سنة‏1965,‏ وبطل القصة هو عثمان الجلالي ضابط الشرطة الذي قضي علي الفتوات جميعا‏,‏ ولكنه لم يحقق الاستقرار والطمأنينة للناس‏,‏ وقد رأي البعض أن نجيب محفوظ كان يتحدث عن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في قصته‏,‏ وهو يرسم صورة بطل القصة عثمان الجلالي‏,‏ وقد رأيت من جانبي أن هذا التفسير بعيد الاحتمال‏,‏ وأن المعني الأقرب إلي شخصية عثمان الجلالي هو المعني الإنساني والاجتماعي العام‏,‏ فعثمان الجلالي هو نموذج للانفراد بالقوة‏,‏ والانفراد بالقوة خطر علي الجميع حتي علي صاحبه‏,‏ لأن الانفراد بالقوة يغري بارتكاب الأخطاء والتهاون في حقوق الآخرين والعدوان عليهم‏.‏ وفي قصة الخوف أيضا هناك شخصية نعيمة‏,‏ وهي الفتاة الجميلة التي يتصارع حولها الجميع‏,‏ وحين ينفرد الضابط عثمان الجلالي بالقوة تصبح نعيمة تحت سيطرته ونفوذه‏,‏ بعد أن كانت من قبل فريسة يتنافس عليها سائر الفتوات‏,‏ وعندما انفرد عثمان الجلالي بالقوة وحده لم تحصل نعيمة علي حرية الإرادة التي لعلها كانت تحلم بها والتي كنا نتوقعها لها بعد زوال عصر الفتوات‏,‏ لأن انفراد الجلالي بالقوة لم يساعد علي أن يعيد إلي نعيمة حرية التصرف في أمور حياتها‏,‏ بل بقي حالها علي ما كان عليه‏,‏ وأصبحت رهينة لإرادة الضابط الذي انفرد بالقوة بعد أن قضي علي الفتوات‏.‏
    وكنت قد دعوت القراء الأعزاء إلي المشاركة في تفسير هذه القصة الجميلة‏,‏ فوصلتني عدة رسائل تسهم في التحليل والتفسير‏,‏ وذلك عن طريق البريد والفاكس‏.‏ أما رسائل البريد فقد قرأتها في سهولة ويسر‏,‏ ولكن بعض رسائل الفاكس لم تكن واضحة بالصورة الكافية‏,‏ ومع ذلك فسوف أحاول أن أقدم الآراء المختلفة التي وصلتني في هذه الرحلة مع الخوف‏,‏ وليعذرني الذين لم أتمكن من قراءة رسائلهم علي الفاكس بصورة دقيقة‏,‏ فالذنب هو ذنب هذا الجهاز المدهش الحديث‏,‏ وهو جهاز الفاكس الذي يتميز بالسرعة‏,‏ ولكنه أحيانا يفتقد الدقة والإتقان‏.‏
    وسوف أقدم الآراء التي وصلتني دون التعليق عليها‏,‏ إذا اتفق أصحابها معي أو اختلفوا في تفسير قصة الخوف‏,‏ فقد قلت رأيي وقدمت اجتهادي المتواضع في تفسير القصة‏,‏ والأدب عموما يحتمل تعدد التفسيرات‏,‏ وأظن أن من واجبنا الحرص علي قدر كاف من الديمقراطية الأدبية‏,‏ أي علي التنوع في وجهات النظر‏,‏ وبدون هذه الديمقراطية الأدبية نعود من جديد إلي قضية الانفراد بالقوة‏,‏ أي بالرأي الواحد المفروض علي الجميع‏,‏ وهذا الانفراد الذي يرفض التعدد والتنوع هو من أسوأ الأمور‏.‏
    والرسالة الأولي هي من الناقد السينمائي الكبير سمير فريد‏,‏ وقد وصلتني الرسالة علي الفاكس وفيها سطور مطموسة وكلمات غير واضحة‏,‏ وقد بذلت أقصي ما أستطيع من جهد لقراءتها قراءة صحيحة‏,‏ وأرجو أن يكون التوفيق قد حالفني فلم أخطئ في قراءة الرسالة‏.‏ يقول سمير فريد في رسالته‏:‏
    أعتقد أن وجهة نظرك السياسية وليست وجهة نظر نجيب محفوظ هي التي جعلتك تعتبر قصة الخوف قصة إنسانية عامة‏,‏ وليست عن ثورة يوليو وعبد الناصر‏.‏ وكما تعلم فإن عمل الناقد هو أن يساعد القارئ علي إدراك وجهة نظر الكاتب‏,‏ وله ـ أي للناقد ـ بالطبع أن يوافق الكاتب أو يختلف معه‏,‏ ولكن ليس له الحق أن يفرض علي الكاتب وجهة نظره كناقد‏.‏ وكما تعلم ـ أيضا ـ فإن ما كتبه نجيب محفوظ هو إنساني عام‏,‏ ولكنه يرتبط بواقع مصر زمن كتابة كل عمل‏,‏ وبوجهة نظر نجيب محفوظ السياسية‏.‏ وقد أنزعج إبراهيم أصلان وعبر عن ذلك في مقال له في الحياة الصدور أكثر من كتاب يحمل اسم نجيب محفوظ وعنه دون موافقته‏,‏ وهذا أمر مروع‏,‏ وكأنه لا يكفي محاولة اغتياله وتعجيز يده اليمني التي كتبت ما كتبه من روائع الأدب العربي‏,‏ ولكن ما يفوق ذلك أن يتم فرض وجهة نظر سياسية عليه تكون مخالفة لوجهة نظره‏,‏ ففي الشهر الماضي استمعت في روما إلي محاضرة بالإنجليزية للأستاذ محمد سلماوي قال فيها ان نجيب محفوظ توقف عن الكتابة بعد ثورة يوليو لإنه وجد عبد الناصر قد حقق كل أحلامه‏,‏ والآن تقول أنت في مقالك بالأهرام إن نجيب محفوظ كان ينقد الثورة من داخلها وليس من خارجها ثم تقرر بشكل قاطع أن نجيب محفوط ليس من أعداء الثورة‏,‏ وكأن الكتاب ينقسمون إلي مؤيدين للثورة وأعداء لها‏,‏ وهو منطق سياسي حزبي خالص‏.‏ وكنت أظن حتي استمعت الي محاضرة سلماوي وقرأت مقالك أنه لا خلاف علي أن نجيب محفوظ من الناحية السياسة هو كاتب ليبرالي‏,‏ أي لا يحتكر الحقيقة‏,‏ وأنه يؤمن بالديمقراطية الغربية‏,‏ وبالطبع‏,‏ ومثل كل من يؤمنون بالديمقراطية الغربية‏,‏ فإن نجيب محفوظ لا يري أن هذا النظام هو الذي يحقق الجنة علي الأرض‏,‏ وإنما هو الأفضل برغم سلبياته‏,‏ وهذا لا يعني أن عبد الناصر في قصة نجيب محفوظ كان مجرد فتوة‏,‏ ولكن المسألة ليست كما تقول إن نجيب محفوظ هو أكرم وأنبل وأوسع أفقا من أن ينظر مثل هذه النظرة المحدودة إلي جمال عبد الناصر‏,‏ وإنما نجيب محفوظ أكرم وأنبل وأوسع أفقا من أن يبيع الحرية‏,‏ حتي لو كان ذلك من أجل جمال عبد الناصر‏.‏ لقد كان عبد الناصر في تقديري هو المدني الوحيد بين ضباط الثورة‏,‏ لأنه كان صاحب مشروع للنهضة الشاملة‏,‏ وقد ترك آثارا لاتمحي‏,‏ وحقق تطورا أكيدا‏,‏ ولكن علينا أن نسأل‏:‏ لماذا لم يتم مشروعه‏,‏ أو بالأحرى لماذا فشل وانتهي عهده بكارثة‏1967‏ ؟ بالله عليك لا تقل إنها المؤامرة الغربية‏.‏ أولم يحن الوقت لنسأم حديث المؤامرة ؟‏.‏ وأعتقد أن واجب كان من يهمه أمر الوطن في عام مرور نصف قرن علي ثورة يوليو أن يسأل الأسئلة الصحيحة‏,‏ ويجيب عليها بعيدا عن القوالب الفكرية الجامدة‏.‏ وعن نفسي فقد أصبحت علي يقين‏,‏ وهذا حالنا بعد خمسين سنة من الثورة‏,‏ أن من يبيع الحرية من أجل شيء يفقد كل شيء‏.‏
    تلك هي رسالة الأستاذ سمير فريد‏,‏ وكما وعدت في البداية فلن أعلق عليها أو علي غيرها‏,‏ فقد قلت رأيي من قبل‏.‏ وما جاء في رسالة سمير فريد هو وجهة نظره الخاصة به‏,‏ وقد يكون هناك فرصة أخري أنسب وأوسع للتعليق علي هذه الرسالة‏,‏ أو علي بعض ما جاء فيها من أراء‏,‏ ففي الرسالة ما يستحق التعقيب والتعليق‏.‏
    الرسالة الثانية هي رسالة الأستاذ الدكتور سامي منير عامر ـ قسم اللغة العربية ـ كلية التربية ـ جامعة الإسكندرية وفي هذه الرسالة يقول صاحبها الفاضل‏:‏
    إن كتابكم في حب نجيب محفوظ الذي أنعم النظر نقديا في نتاج عظيمنا نجيب محفوظ روائيا‏,‏ مضافا إليه كتابكم ـ بمشاركة نجيب محفوظ نفسه ـ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته‏...‏ هذان الكتابان بكل ما ناقشاه من قضايا نقدية لا يدعان مجالا لأي شك في أن عثمان الجلالي ضابط عطفة الفرغانة هو بعينه رمز لواقع سياسي ممثلا في الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ولما كنت مصادفة أوالي قراءة نص قصة الخوف في مجموعة بيت سيئ السمعة باللغة المحفوظية الأقصوصية‏,‏ ومستعينا في ذات الوقت بترجمة دينيس جونسون ديفيز خير من ترجم أقاصيص محفوظ مع أستاذينا محمد مصطفي بدوي وفاطمة موسى إلي الإنجليزية‏..‏ أقول لما كنت منشغلا بهذا الأمر فإن تفسيركم في هامش صفحة‏224‏ من كتاب نجيب محفوظ ـ صفحات من مذكراته هو خير تفسير يوحي به مغزى ودور هذه الشخصية التي أطاحت بكل الطامعين في كبده ـ نعيمة التي جمعت طبقات المحبين حولها بنار فرن إنضاج كبدتها‏,‏ كما ورد في النص‏...‏ ولاشك أن إضافتك التفسيرية الجديدة في مقال الأهرام الأحد‏6‏ ـ‏2‏ ـ‏2002,‏ هذه الإضافة التي تأخذ مأخذ الإنسانية في تفسيركم الجديد لقصة الخوف ليست في قوة التفسير الأول‏1998,‏ لأنكم تعرفون أن إغراق نجيب محفوظ في واقعه المحلي هو مدخل إلي العالمية النوبلية‏.‏ وقد أشرتم في مقالكم الجديد إلي أن نجيب محفوظ ليس من السذاجة أو ضيق الأفق حتي يعني عبد الناصر بتصويره في شخصية الضابط عثمان الجلالي‏,‏ وأنا أري أنها كانت براعة في المواجهة الشجاعة من صاحب التسعين عاما ـ نجيب محفوظ ـ ولم تكن جديدة عليه‏,‏ فقد قالها بصراحة موجعة في مواجهة مجموعة الثورة في رواية ميرامار ساخرا من دعوى الاشتراكية ص‏121,‏ بل وفي رواية قشتمر ص‏108,‏ إذ هو يضع علي لسان بعض الشخصيات آراءه بطريقة إيحائية تتضمن نقدا أكثر شجاعة بكثير مما عرفناه عن أستاذنا توفيق الحكيم في مسرحياته السياسية‏,‏ ولو أن حظ نجيب محفوظ كان خيرا‏,‏ إذ قيض له الله الدكتور ثروت عكاشة من ناحية والأستاذ محمد حسنين هيكل من ناحية أخري لدرء خطر صراحته السياسية عنه‏,‏ والحمد لله أن جاء الرئيس محمد حسني مبارك فتوج جهود نجيب محفوظ بقلادة النيل اعترافا من الرئيس باتساع رقعة الديمقراطية التي أتيحت في عهده لكل من يريد أن يدلي برأي يدفع حياتنا إلي واقع أفضل‏.
    وفي رسالة الدكتور سامي منير عامر ملحق لا يتصل بموضوعنا الأساسي وهو تفسير قصة الخوف وإنما يتصل بما ترمز إليه أسماء الأبطال في قصص نجيب محفوظ ورواياته‏,‏ وجهد الأستاذ في تحليل أسماء الأبطال فيه ذكاء وطرافة‏,‏ وأرجو أن يعكف علي تحويله من ملاحظات سريعة إلي بحث كامل ودراسة مفصلة‏,‏ فسوف يكون في ذلك نفع ومتعة‏.‏
    نلتقي بعد ذلك مع الرسالة الثالثة وهي من الأديب الطبيب الدكتور أحمد حربي ـ استشاري الطب النفسي ـ دمنهور‏.‏ وفي هذه الرسالة يقول الدكتور‏:‏ ولدت قبل ثورة يوليو المجيدة ببضعة شهور‏,‏ وتأجل امتحاني للإعدادية بسبب نكسة‏1967,‏ ومع نصر أكتوبر كنت طالبا بطب الإسكندرية‏,‏ فأنا من جيل يحتفظ لثورة يوليو بحب كبير وتقدير عظيم‏,‏ ولكن الموضوعية لا تمنعني من أن أري بعض المثالب فيما أحب وفيمن أحب‏,‏ فالنضج العقلي يكبح العواطف ويرشد الإدراك والبصائر إلي الفهم المتكامل‏.‏ وفي قصة الخوف لنجيب محفوظ أري أن نعيمة ترمز لمصر و الحملي يرمز للأحزاب‏,‏ أما الفتوات فهم رمز للمندوب البريطاني والقصر‏,‏ أما الضابط عثمان الجلالي فهو رمز لعبد الناصر‏,‏ وهذا لايعيب عبد الناصر ولا يضر محفوظ‏,‏ فالوجود قائم علي التعدد‏..‏ نعم‏...‏ عبد الناصر كان عظيما وكان من الممكن أن نرفعه إلي أعلي الدرجات‏,‏ ولكنه أبدا‏,‏ أبدا‏,‏ لم يكن إلها‏.‏ والشاعر امرؤ القيس يذكرنا بالتعدد حيث يقول‏:‏
    ولو أنها نفس لماتت مرة
    ولكنها نفس تساقط أنفسا‏.‏
    ومن أجل بعض التوضيح لبيت امرئ القيس الوارد في رسالة الدكتور حربي أقول إن كلمة تساقط هي في الأصل تتساقط والتخفيف لضرورة الشعر‏,‏ وهو تخفيف مقبول من ناحية اللغة‏.‏
    وأخيرا أتوقف أمام رسالة وصلتني علي الفاكس من الأستاذ الفاضل الدكتور عبده‏,‏ ولم أستطع أن أقرأ الاسم الثاني لعدم وضوح الفاكس‏,‏ فليعذرني صاحب الرسالة وليتفضل بتصحيح الاسم وتوضيحه لنشره علي وجهه الصحيح‏.‏
    وفي هذه الرسالة يقول الدكتور عبده‏:‏
    فيما يتصل بقصة الخوف لنجيب محفوظ لست أجد أدق من قولكم‏:..‏ إن عبد الناصر ـ مهما كانت أخطاؤه ـ أعظم من أن يوضع في كفة واحدة متعادلة مع عثمان الجلالي بطل قصة الخوف وأن نجيب محفوظ هو أكرم وأنبل وأوسع أفقا من أن ينظر هذه النظرة الضيقة المحدودة إلي عبد الناصر‏.‏ وأنا ناصري حتي النخاع كما يقولون‏,‏ لذا أتمني لو أتيحت الفرصة أن تسأل نجيب محفوظ بصراحة‏:‏ هل قصد فعلا بكتابة هذه القصة أن يرمز إلي عبد الناصر‏,‏ فالأدلة التي وردت في مقالك والتي يرددها الذين يقولون إن عثمان جلالي يرمز لعبد الناصر هي فعلا أدلة لها وجاهتها‏,‏ والبعض ممن ناقشتهم مقتنعون بهذه الأدلة‏,‏ أي بأن نجيب محفوظ كان يقصد عبد الناصر في قصته الخوف‏.‏
    وأقول لصاحب الرسالة الفاضل الدكتور عبده إن أحد الأدباء قد كتب يوما يقول‏:‏ لا تسألوني عن معني ما أكتبه‏,‏ فسؤال الأدباء عن معني أدبهم يشبه سؤال المرأة عن عمرها‏,‏ فهو سؤال لا جدوى منه ولن يحصل أحد من ورائه علي إجابة صحيحة‏!‏
    بقيت هناك رسائل أخري حول قصة الخوف وموعدنا مع هذه الرسائل في الأسبوع القادم إن شاء الله.
    ...................................
    *الأهرام 27/1/2002م.
    رد مع اقتباس  
     

  11. #59 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 56 ) رحلة جديدة مع الخوف

    بقلم: رجاء النقاش
    ............................

    لا تزال قصة الخوف التي كتبها نجيب محفوظ في أوائل الستينيات من القرن الماضي موضوعا لرسائل القراء الأعزاء‏,‏ وقد أسعدني ذلك‏,‏ حيث وجدت فيه كثيرا من المعاني الايجابية‏,‏ وأول هذه المعاني وأهمها أن قراءة الأدب لاتزال نشيطة وحية بين جماهير المحبين للثقافة والفن‏,‏ وأن قراءة الأدب لا تزال تقاوم هجمه الفن التليفزيوني الذي جعل من المشاهدة أيسر وأمتع من القراءة‏,‏ فالتليفزيون قادر بإمكاناته الواسعة أن يشغل الناس عن أدبهم وثقافتهم المقروءة‏.‏ وعندما نجد دليلا علي انتعاش القراءة الأدبية فإن في ذلك الدليل مايبعث علي اطمئنان المهتمين بحاضر الأدب ومستقبلة‏,‏ فلا يزال للأدب المقروء سحره وبريقه وجاذبيته‏,‏ ولن يخسر الأدب الجميل الجيد معركته بسهولة أمام التليفزيون‏.‏
    ومن المعاني الأخري في اهتمام القراء الأدباء بقصة الخوف أن هذه القصة الجميلة التي كتبها نجيب محفوظ منذ مايقرب من أربعين سنة لاتزال حية ومحتفظة بجمالها الفني حتي الآن‏,‏ وهذه هي القيمة الباقية دائما في كل أدب جيد وأصيل‏,‏ فمثل هذا الأدب يتجدد مع الأيام‏,‏ ويعطي ثماره كلما جاء الربيع وأي أدب يموت بعد كتابته ويفقد تأثيره بعد ظهوره بوقت طويل أو قصير‏,‏ هو أدب فيه نقص وقصور‏,‏ أما الأدب الحي‏,‏ مثل أدب نجيب محفوظ‏,‏ فهو أشبه باللحن الذي يمكن عزفه في كل العصور‏,‏ ولن يؤثر فيه تجدد الآلات الموسيقية أو اختلاف الأذواق من جيل إلي جيل‏,‏ وذلك لأن مادة الحياة في هذا اللحن باقية وإن تغيرت الظروف أو تغير الناس علي أن من أهم ما أسعدني في رسائل القراء الأدباء حول قصة الخوف هو أن عددا من هذه الرسائل يختلف مع رأيي في القصة‏,‏ فقد كان رأيي ولايزال هو أن بطل القصة عثمان الجلالي ليس رمزا ولا إشارة إلي الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بقدر ماهو رمز وإشارة إلي معني إنساني عام يتصل بكل الأحوال المشابهة لحوادث القصة في مصر والعالم ولا بأس أن يقال إن في القصة تنبيها لضباط ثورة يوليو جميعا حتي يكونوا علي وعي بهذا المعني الانساني‏.‏ وحسب وجهة نظري فان عثمان الجلالي كما رسمه نجيب محفوظ في قصته هو تجسيد لظاهرة الانفراد بالقوة وهو يمثل كراهية نجيب لهذه الظاهرة وتحذيره منها وتأكيده بأنها تنطوي علي شر كبير في أي موقع تظهر فيه‏,‏ سواء أكان ذلكك في الأسرة أو في المجتمع أو في العالم الواسع الكبير أو حتي في شارع أو حارة أو مؤسسة من المؤسسات‏.‏ ولاشك أننا نستطيع أن نقرأ القصة الآن في ضوء الموقف العالمي الراهن‏,‏ وهو موقف تعاني منه الدنيا كلها بعد انفراد البعض بالقوة دون غيرهم‏,‏ مما يدفعهم إلي الكثير من التصرفات الخاطئة والظالمة والخطيرة‏.‏ وفهمي للقصة علي هذه الصورة يبتعد بها عن أن تكون عملا فنيا محدودا ومؤقتا ينتهي تأثيره بانتهاء مناسبته‏.‏ كما أن بطل القصة قد انتهي به الأمر إلي أن يكون مجرد بلطجي‏,‏ فهل يمكن أن يقتنع عدو أو صديق بأن نجيب محفوظ قد نظر إلي عبد الناصر مثل هذه النظرة؟ أشك في ذلك‏.‏
    ومع هذا كله فأنا لا أري ضررا في أن يختلف معي القراء الأدباء في تفسيري للقصة‏,‏ مادام الاختلاف قائما علي الصدق وحسن النية‏,‏ فمثل هذا الاختلاف هو نوع من الهواء النقي الذي يحقق الصفاء في عالم الفكر وهو اختلاف يضيف إلي الحوار حيوية تقضي علي أي ركود فيه‏.‏ ولذلك فأنا بهذا الاختلاف سعيد وإذا كنا سوف نضيق بالاختلاف في تفسير الأعمال الأدبية‏,‏ فكيف لنا أن نحلم بأي نوع من الديمقراطية؟‏!‏
    وأعود إلي بقية ماوصلني من رسائل حول قصة الخوف وأولها رسالة من الأديب اللواء أحمد العرنوسي عضو اتحاد الكتاب وفيها يقول‏:‏ القصة الرمزية من القصص التي يلجأ إليها الكاتب إذا أراد أن يعبر عن رأيه دون مجاهرة أو بطريقة لا توقعه في مشاكل‏.‏ وقد لجأ إلي هذا الأسلوب الكاتب الكبير توفيق الحكيم في إحدي قصصه حين صور قطارا يسير وتعترضه مخاطر‏,‏ فينزل الركاب ومعهم سائق القطار‏,‏ فمنهم من يري أن العلامة الخاصة بمرور القطار حمراء ومنهم من يري أنها خضراء‏,‏ وذلك إشارة إلي التردد بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي‏.‏ وكاتبنا الكبير نجيب محفوظ له باع طويل في عالم الرمز‏,‏ وهو ـ كما جاء في مقالك عن قصة الخوف ـ ليس من أعداء ثورة يوليو‏,‏ ولكنه كان دائما يريد لها ما هو أفضل‏,‏ وقد كانت روايته ميرامار من هذا النوع‏,‏ فقد أراد كاتبنا أن يصور مصر في شخصية زهرة الفتاة الريفية التي تعمل بالبنسيون‏,‏ والتي كانت مطمعا للنزلاء‏,‏ ومنهم الاقطاعي الذي تم وضعه تحت الحراسة‏,‏ وعضو الاتحاد الاشتراكي الذي ينادي بالقيم ويتم ضبطه مع آخرين بسرقة أموال إحدى الشركات‏.‏ وفي النهاية يفوز بقلب زهرة بائع الصحف الذي أحبها‏.‏ والحقيقة أن نجيب محفوظ لم يرمز لشخصية عبد الناصر في قصة الخوف بضابط الشرطة عثمان الجلالي‏,‏ ولكنه أراد معني أوسع‏,‏ وهو ثورة يوليو بأكملها‏,‏ وقد قضت الثورة علي الملك والاستعمار والإقطاع الذين أذلوا هذا الشعب وحظيت الثورة بتأييد واسع من طبقات الشعب الفقيرة‏,‏ إلا أنه كما كان للثورة ايجابياتها فقد كان عليها مآخذ كثيرة‏,‏ منها عدم الالتزام بالشرعية القانونية وانحراف بعض رموزها وتابعيهم‏,‏ مما أدي إلي مصادرة الحريات وفرض الرقابة الصارمة علي الصحف وأجهزة الاعلام وإتاحة مواقع السلطة لأصحاب الثقة‏,‏ مع تنحية أصحاب الخبرة والمعرفة والثقافة‏.‏ وفي وقت ظهور قصة الخوف كانت البلاد ترزح تحت بطش لجان تصفية الاقطاع التي قادتها مجموعة من الضباط الشبان والصولات والجنود‏,‏ وفي محافظتي‏,‏ وهي الدقهلية‏,‏ كنت أعمل في جهاز الشرطة بمدينة المنصورة‏,‏ وقد شهدت بنفسي مساعدا أي صول يحكم محافظة الدقهلية ويوصي بوضع من يشاء تحت الحراسة‏.‏ لقد أراد كاتبنا الكبير أن ينبه إلي خطورة التصرفات التي لا تستند إلي شرعية أو قانون‏,‏وهي التصرفات التي أنشأت‏,‏ ماأصبح معروفا باسم مراكز القوة التي قضي عليها الرئيس الراحل أنور السادات‏.‏
    ويختتم اللواء أحمد العرنوسي رسالته بقوله‏:‏ إن قصة الخوف لو تم نشرها اليوم لكانت معبرة عن الحالة الدولية التي انفردت فيها أمريكا بالقوة وأصبحت تبطش بمن تشاء دون مراجعة‏.‏ وقصة الخوف تصلح لكل عصر تسود فيه روح البطش ويخفت فيه صوت الضمير والعقل والشرعية‏.‏
    والرسالة الثانية من الأستاذة مني عمرو‏,‏ وهي تنتمي ـ كما فهمت من رسالتها ـ إلي أسرة الديبلوماسي الشهير عبدالفتاح عمرو سفير مصر في لندن قبل الثورة‏.‏ وفي هذه الرسالة تقول الأستاذة مني‏:‏ أود أن يكون لي شرف المساهمة في التعليق علي قصة الخوف لكاتبنا العالمي نجيب محفوظ‏,‏ والقصة جميلة‏,‏ وهي تثير قضية خطيرة وجديرة بالتفسير والمناقشة وقضية القصة هي الانفراد بالقوة وما يتركه ذلك من آثار سيئة علي الضعفاء الذين يتصورون للأسف أن خضوعهم وسلبيتهم وعدم تمردهم إنما هو حائط الأمان بالنسبة لهم‏.‏ ولاشك أن نجيب محفوظ يشير بين سطورقصته إلي أن الانسان ليس معصوما من الخطأ‏,‏ وأنه إذا لم يجد من يردعه عن الشر فسوف يقع فيه ويستمر في ذلك‏.‏ ومن هنا ظهرت القوانين السماوية والأرضية لكي تردع الانسان عن الخطأ والشر‏.‏ والعدالة لا معني لها دون قوة تحميها‏.‏ وضعف الضعفاء يثير شهية الأقوياء ويشجعهم علي مزيد من الطغيان‏,‏ فالضعف هو المادة التي تصنع الانسان القوي‏,‏ والقوي ليس قويا بنفسه وإنما هو قوي بضعف الآخرين‏.‏ وقد تعرضت الحارة في قصة الخوف لنجيب محفوظ إلي آثار سلبية مفزعة لأن ضابط الشرطة عثمان الجلالي انفرد بالقوة‏,‏ وتخلي عن قدسية عمله‏,‏ وقام بتقليد الفتوات‏,‏ بينما كان هذا الضابط في الأصل هو حامي القانون والساهر علي تنفيذه‏,‏ ولكنه أصيب بفيروس الظلم والجبروت ولم يجد من يردعه وكذلك فالقصة‏,‏ رغم أنها مكتوبة في القرن الماضي‏,‏ إلا أنها تبدو وكأنها مكتوبة بعد أحداث‏11‏ سبتمبر المعروفة‏,‏ وفيها وصف لأحوال العالم الآن‏.‏ وفي القصة مايحث المظلومين علي الصحوة وعدم الاستسلام لما يتعرضون له‏.‏ وهذه متعة من آلاف المتع التي نحس بها في كتابات نجيب محفوظ‏,‏ فنحن نقرأ رواياته وقصصه في أي وقت دون أن يعنينا كم من الوقت قد مر علي كتابتها‏.‏
    والرسالة الثالثة من الأديب الأستاذ مصطفي عبد المنعم ـ من مواليد‏1927‏ كما جاء في الرسالة‏,‏ ويقول الأستاذ الفاضل في رسالته‏:‏ رأيي باختصار في قصة الخوف لنجيب محفوظ هو أن نجيب ببصيرته النافذة وحبه الواعي لوطنه مصر كان يقصد الزعيم جمال عبد الناصر بشخصيته بطل القصة عثمان الجلالي‏,‏ ولكنه لم يكن يملك ككاتب إلا هذا الأسلوب الرمزي حتي يتمكن من نشر قصته‏,‏ وليفهم أصحاب الألباب‏.‏ والحمد لله‏,‏ فإنهم كثيرون‏.‏ أطال الله عمر كاتبنا الكبير ورحم الله عبدالناصر‏,‏ وأقال الله مصر من عثرتها وتأخرها وكبوتها بسبب حكم استمر‏18‏ عاما‏,‏ تم فيه تكبيل مصرنا الغالية بينما انطلقت فيه مختلف دول الجيران‏.‏
    والرسالة الرابعة من الأستاذ مصطفي مشالي ـ السويس ـ وفي هذه الرسالة يقول الأستاذ الفاضل‏:‏ لم يكن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر صاحب انفراد بالقوة علي طول الخط‏,‏ ولكنه عندما أصبح صاحب القرار في البلاد وقع في هذا الانفراد الذاتي بالقوة وذلك عندما أمر بحشد القوات المسلحة في سيناء سنة‏1967.‏ لقد كان عبد الناصر مثلا يحتذي في الوطنية‏,‏ وكان رائدا للقومية العربية وهو مؤسس الضباط الأحرار وقائد الثورة ومحرر مصر من الاحتلال ومن أسرة ملكية فاسدة‏,‏ ولو أن عبد الناصر استعان بالصبر والمشورة ولم يقم بالتلويح بالحرب لما كانت مأساة‏1967‏ التي مازلنا نعاني منها إلي الآن‏.‏ أما الصراع بين الفتوات فهو يرمز للصراع بين الأمريكان والسوفييت في وقت كتابة القصة‏.‏ أما عطفة فرغانة في القصة فهي رمز للبلاد العربية التي كان الأقوياء ـ أي الفتوات ـ يتصارعون عليها رغم أن هذه البلاد لم تكن طرفا في النزاع ولكنها تأثرت به ودفعت ثمنا له‏.‏
    ومن الأستاذ الفاضل الدكتور فاروق عبدالسلام‏260‏ شارع شبرا مصر جاءت الرسالة الخامسة‏,‏ وهي رسالة ساخنة‏,‏ وفيها يقول صاحبها‏:‏ باختصار شديد لماذا تنحاز هكذا لعبد الناصر انحيازا كاملا وأنت في غاية الاطمئنان إلي أن التاريخ سوف يكتبها لك لا عليك؟
    إن ما ذكره أصحاب الرأي القائل بأن المقصود ببطل قصة الخوف لنجيب محفوظ هو جمال عبد الناصر من أسانيد ثلاثة هو أمر صحيح مائة في المائة‏,‏ فالتلميحات والايحاءات في الحرفين ج‏.‏ ع من اسم جمال عبد الناصر واسم عثمان جلالي صحيحة‏,‏ وخلعه الملابس العسكرية ولبسه الملابس المدنية صحيح‏,‏ واستيلاؤه بعد ذلك علي نعيمة أي علي مصر صحيح مائة بالمائة‏.‏
    ثم ينتقل صاحب الرسالة الدكتور فاروق عبدالسلام إلي اختيار بعض العبارات الواردة في قصة الخوف ويفسرها بما يتفق مع وجهة نظره فيقول‏:‏ هناك ما ورد في قصة الخوف‏,‏ من قول نجيب محفوظ عن نعيمة ـ أي مصر ـ‏:..‏ ولكن نظرة عينيها العسليتين خلت من الروح كورقة ذابلة وقوله عن نعيمة أيضا‏:‏ وطبعت بطابع الجفاف فركضت الشيخوخة نحوها بلا رحمة ـ فهل فعلت هزيمة‏1967‏ بنعيمة أي مصر إلا هذا بعينه؟‏,‏ ثم يقول الدكتور في رسالته الشائكة جدا‏:‏ وأخيرا لماذا لا تنتظر من الروائي المبدع نجيب محفوظ أن تكون عينه علي عبد الناصر وهو يرسم ملامح شخصية عثمان الجلالي‏,‏ مع أن الذي اكتشف نجيب محفوظ وقدمه للحياة الأدبية هو الناقد العظيم سيد قطب صاحب تفسير في ظلال القرآن الذي أعدمه عبد الناصر؟‏!‏
    وأعتذر لصاحب الرسالة الفاضل عن عدم نشر بقية رسالته لما تتضمنه من لغة نقدية بالغة القسوة والعنف‏.‏ علي أنني مع ذلك أريد أن أقول لصاحب الرسالة إنني لا أنكر حبي لعبد الناصر وإيماني بأنه شخصية تاريخية نادرة‏,‏ ولكن هذا لا يمنعني من رؤية الأخطاء‏,‏ وبعضها فادح‏.‏ كما أنني أعترف مع صاحب الرسالة ومع نجيب محفوظ نفسه بأن سيد قطب كان هو أول ناقد كبير يلتفت إلي نجيب ويشير بقوة إلي موهبته‏.‏ ولكن هل كان اكتشاف سيد قطب لعبقرية نجيب محفوظ هو السبب في إعدامه ؟‏.‏ إنني لا أخفي إعجابي الكبير بأدب سيد قطب وأفكاره المتميزة ومواهبه العالية‏,‏ ولا أخفي حزني الشديد بسبب مصيره المأساوي‏.‏ ولكنني لست من أهل السياسة‏,‏ ولا أحب أن أكون‏,‏ ولذلك لم أفهم مطلقا كيف اندفع سيد قطب‏,‏ هذا المفكر الكبير‏,‏ إلي إلقاء نفسه في دوامة السياسة العملية العنيفة‏,‏ والتي يعرف أصحابها مقدما أنها تقود إلي إحدى قمتين‏:‏ السلطة أو المشنقة‏,‏ كما لم أفهم أبدا كيف أقدم مفكر نابغ مثل سيد قطب علي تأليف كتاب مخيف مثل معالم علي الطريق‏,‏ وهو كتاب تحريضي أشعل النار وأودي بحياة كثيرين ومنهم سيد قطب نفسه‏.‏
    والرسالة السادسة والأخيرة من الشاعر الأديب أحمد جابر شاعر غنائي واختصاصي مكتبات الجهاز المركزي للتنظيم والادارة والرسالة طويلة وخلاصتها أن نجيب محفوظ في قصته الخوف كان يتنبأ بما حدث وسوف يحدث لبعض الشعوب مادامت واقعة تحت وطأة الخوف وملتزمة بدفع ثمن هذا الخوف‏.‏ وقصة نجيب محفوظ موجهة إلي عرب الأمس وعرب اليوم وعرب الغد‏,‏ وهي موجهة إلي كل من يظن أنه بمنأى عن الخطر مادام استسلم لقوانين الخوف الـظالمة له والمسيطرة عليه‏.‏
    وقد أرسل الشاعر أحمد جابر مع رسالته قصيدة جميلة بالعامية لا يسمح المجال بنشرها وإن كان من حق صاحبها أن أقول له إن قصيدته تكشف عن موهبة طيبة.
    ..............................................
    *الأهرام 3/2/2002م.
    رد مع اقتباس  
     

  12. #60 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 57 ) في طبعة جديدة من كتابه "الانعزاليون في مصر"
    "رجاء النقاش" فضح "الطابور الخامس" بمنهج علمي!

    بقلم: خالد إسماعيل
    .....................

    عن مهرجان القراءة للجميع "مكتبة الأسرة" صدرت في "القاهرة" طبعة جديدة من كتاب "الانعزاليون في مصر" للكاتب "رجاء النقاش"، الذي يحتوي علي ردود علي آراء الراحلين "لويس عوض" و"توفيق الحكيم"، ضمن معركة ـ قديمة حديثة ـ شهدتها مصر في عام 1978 السابق علي توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" ـ الأولي ـ التي وقعها الرئيس الراحل "السادات" مع الصهيوني المقبور "مناحم بيجين" برعاية الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر".
    كان السؤال المحوري في تلك المعركة يدور حول "عروبة مصر"، وهل "مصر" فرعونية فيحق لها أن تنفض يدها عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أم أنها "عربية" فتقف في قلب المعركة مدافعة عن الأرض والثقافة والوجود العربي؟!!
    والسؤال إلي جانب "الخبث" الذي يحتويه، ينبع من بقايا الدعاية الاستعمارية التقليدية "فرّّق تسُد"، والثأر الذي يحمله بعض المثقفين تجاه "عبدالناصر" زعيم القومية العربية، وأقرانه من الزعماء الذين تصدّوا للاستعمار في الخليج العربي والمغرب والسودان.
    والعجيب أن السؤال حول "عروبة مصر" لا يظهر علي الساحة إلا في أزمنة "الهزائم" ـ النفسية والعسكرية ـ ويختفي في فترات الازدهار وامتلاك القدرة علي الحلم بوطن عربي موحد.
    حتي إننا قرأنا ذات السؤال مطروحا علي صفحات مجلة "روزاليوسف" منذ أسابيع، وراعي السؤال هو "محمد عبدالمنعم" أحد أركان جمعية "كوبنهاجن" التي فشلت في خلق مصالحة بين "الشعب المصري" و"الكيان الصهيوني" وـ عبدالمنعم ـ هو رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير روزاليوسف، وإذا عدنا إلي الكتاب الذي بين أيدينا الآن، لعرفنا أن توقيت طرح السؤال 1978، كان يلائم سياسة أنور السادات ـ الذي حمل لقب بطل الحرب والسلام ـ بعد ذهابه في رحلة مشئومة إلي "القدس" وارتمائه في أحضان "كارتر" و"بيجين" دون أن يحقق شيئا غير استعادة "سيناء أما طارح "السؤال" فهو "لويس عوض" ـ الذي ذاق سجون ثورة يوليو مع الشيوعيين، ولم يكن شيوعيا، ودعا إلي إحياء اللغة "القبطية" وإلغاء اللغة العربية، في إطار "وهم قديم" يري أنه بالإمكان استعادة "مصر" القبطية من قبضة "العرب الغزاة وهذا "الوهم" ثمرة طبيعية لحالة "الجيتو" والإحباط الذي عاشه مثقفون من أمثال الدكتور "حسين فوزي" و"توفيق الحكيم"، وكلهم لعبوا لعبة السياسة من مُنطلق أنهم بإمكانهم أن يحققوا لمعانا وبقاء في أحضان "السلطان"، ولما هزموا حاولوا الإعلان عن وجودهم من خلال اقتناع بالمثل الإنجليزي القائل "خالف تُعرف " وقد استطاع "رجاء النقاش" أن يرد علي هذين "الكاتبين" مستندا إلي حقائق التاريخ، وحقائق الواقع السياسي الذي يؤكد أن "مصر" عربية لا تستطيع الانفصال عن محيطها العربي، ولا يستطيع محيطها العربي أن ينفصل عنها.
    " السؤال الذي يفرض نفسه: لصالح "مَن" تتصاعد الدعوة إلي عزل "مصر" عن "العرب"؟.. أليس لصالح "إسرائيل"؟!.. أليس هذا السؤال دليلا علي تطبيق نظرية "النعامة" التي تقوم بدفن الرأس في الرمل، بدلا من مواجهة الخطر؟!
    إن ـ رجاء النقاش ـ الذي أدار المعركة علي صفحات "المصور"، بينما "عوض" و"الحكيم" كانا يستخدمان "الأهرام"، استطاع بقدراته العالية أن يصفع أنصار الانعزال عن المحيط العربي، صفعة قوية بالأدلة التاريخية، متبعا في ذلك منهجا علميا، دون أن يلعب علي وتر العاطفة، ولكن هذا "التيار الانعزالي" ـ للأسف الشديد ـ يتصاعد هذه الأيام ليقوم بدور "الطابور الخامس" لـ"إسرائيل"، لذلك فالسؤال "مشبوه" والمحرضون عليه ليسوا فوق مستوي الشبهات.
    .........................................
    *العربي ـ (الناصرية) ـ العدد 873 ـ في 24/8/2003م.
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. أنيس النقاش
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11/01/2014, 10:43 PM
  2. رجال واقفون
    بواسطة وردة قاسمي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 17/05/2010, 11:36 AM
  3. تأملات في الإنسان - من أعمال رجاء النقاش
    بواسطة وليد زين العابدين في المنتدى فسيفساء المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 24/07/2009, 10:58 AM
  4. وفاة الناقد المصري رجاء النقاش
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09/02/2008, 09:19 PM
  5. رجال واشباه رجال
    بواسطة وائل في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 01/01/2008, 03:31 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •