( 24 ) أمريكي يحب عبد الناصر
بقلم: رجاء النقاش
.......................
هل يمكن أن نتصور أن هناك أمريكيا يحب عبد الناصر ويري فيه شخصية سياسية وإنسانية جديرة بأعظم التقدير والإعجاب؟. من الصعب أن نتصور وجود مثل هذا الأمريكي, وخاصة بين السياسيين والمفكرين والصحفيين, ذلك لأن الفكرة الشائعة عن عبد الناصر, بالحق والباطل, هي أنه كان من أعدي أعداد السياسة الأمريكية, وأنه كان من زعماء القرن العشرين الذين لم يثقوا بأمريكا ولم تثق بهم أمريكا أبدا, والصورة العامة لعبد الناصر عند الأمريكان هي صورة سلبية, في حياته وبعد رحيله.
وأذكر أنني شاهدت منذ سنوات فيلما امريكيا اسمه السادات وهو فيلم آخر غير فيلم الفنان الكبير أحمد زكي والذي أخرجه فنان كبير آخر هو محمد خان, ففيلم أحمد زكي ومحمد خان هو تحفة فنية, أما الفيلم الأمريكي فهو فيلم مبتذل وساقط بالمقاييس الفنية والموضوعية, وفي هذا الفيلم الأمريكي يظهر عبد الناصر في صورة ضعيفة ومهزوزة وسيئة جدا. وهو في هذا الفيلم عنيد ومتعصب وضيق الأفق ولايقبل نصائح السادات له بالاعتدال والتفكير السياسي السليم. وأظن أن هذه الصورة التي ظهر بها عبد الناصر في الفيلم الأمريكي, هي الصورة الأمريكية الشائعة له, ولا توجد صورة أمريكية أخرى لعبد الناصر مع الأسف الشديد.
والغريب في ذلك كله أن أي دراسة علمية خالية من الأهواء والأغراض والتعصبات لابد أن تنتهي الي أن عبد الناصر قد بذل جهودا كبيرة بعد قيام ثورة يوليو سنة1952 لكي يكون علي علاقة طيبة بالأمريكان, وكانت لديه آمال واسعة في أن يتعاون معهم علي أساس من المصالح المشتركة للبلدين. ومن يعد إلى الوثائق المنشورة لليسار المصري فسوف يجد أن عبد الناصر في هذه الفترة كان متهما بأنه كان يتعاون مع الأمريكان ويعمل لحسابهم.
كما أن من الثابت والمعروف ان عبد الناصر في بداية الثورة كان علي علاقة طيبة بالسفير الأمريكي جيفرسون كافري وكان كافري من جانبه معجبا بعبد الناصر, وكان أيضا آخر الأمريكان المحترمين الذين عملوا من أجل اقامة علاقات طيبة بين الأمريكان من جانب وبين ثورة يوليو وعبد الناصر من جانب آخر, ومن المشهور عن كافري أنه كان يسمي رجال الثورة في مصر باسم أولادنا او علي حد التعبير الشائع عنهourboys
ولكن السفير كافري استقال فجأة سنة1954, وقيل عن هذه الاستقالة إنه اضطر اليها لأن سياسته المتعاطفة مع عبد الناصر وثورة يوليو لم تكن مقبولة لدي وزارة الخارجية الامريكية ووزيرها الشهير جون فوسترد الاس. وقد جاء الي مر بعد كافري سفير امريكي آخر هو هنري بايرود وحاول بايرود أن يواصل خطة كافري السياسية في التعاطف مع عبد الناصر وثورة يوليو, ولكنه لم ينجح, واصطدم هو الاخر بعقبات كثيرة, فأمريكا كانت قد اتخذت قرارها بالوقوف في وجه عبد الناصر, ولم يستطع بايرود أن يغير اتجاه الرياح الأمريكية. وأصبح عبد الناصر متهما من الأمريكان بأنه يميل الي الشيوعية, بينما كان متهما في ذلك الوقت من الشيوعيين في مصر والعالم العربي بأنه يميل إلى الأمريكان. وهكذا اختل الميزان واضطربت الحسابات والتقديرات.
علي أن الدراسة الهادئة المنصفة للعلاقة بين عبد الناصر والأمريكان إنما تؤكد أن عبد الناصر حاول باخلاص وجدية أن يتفادي أي صدام مع أمريكا, إلا أن الأمريكان خذلوه وبدأوا في محاربته وعرقلة خطواته للنهوض بمصر, مماجعل عبد الناصر يشعر بأنه لا أمل في أي تعاون جدي مثمربين مصر وأمريكا, وبالتحديد بين ثورة يوليو وأمريكا, وذلك طالما بقي عبد الناصر علي موقفه من الحرص علي المصالح المصرية والعربية قبل أي شيء آخر. وعلاقة عبد الناصر بالأمريكان علي أي حال جديرة بأن تكون موضوعا لدراسات كثيرة أخري.
علي أن الصراع المبكر بين عبد الناصر وأمريكا لم يمنع من ظهور كاتب امريكي مثقف صاحب ضمير هو ولتون وين وقد أحب هذا الكاتب الأمريكي عبد الناصر واتصل به والتقي معه وعرف له قدره وسجل ذلك كله في أول كتاب غربي يظهر عن عبد الناصر سنة1959, وكان هذا الكتاب عنوانه عبد الناصر ـ قصة البحث عن الكرامة
في حدود معلوماتي فإنه كاتب أمريكي عاش في مصر سنوات طويلة قبل الثورة وبعدها, وكان يعمل أستاذا في الجامعة الأمريكية, ثم تفرغ بعد ذلك للعمل مديرا لمكتب وكالة أسوشيتد برس للأنباء في القاهرة. ومن خلال معرفة ولتن وين الواسعة بمصر وأحوالها وتاريخها القديم والحديث استطاع هذا الكاتب أن يصل إلي درجة كبيرة من الفهم والتعاطف والحب لشخصية عبدالناصر, وقد ازداد موقفه المتعاطف قوة بعد أن أجري عدة لقاءات شخصية طويلة مع عبدالناصر نفسه, مما ساعد هذا الكاتب علي أن يتخذ موقفه وبين يديه أدلة خاصة به تؤكد صحة رأيه الخاص في الإعجاب بعبدالناصر والدفاع عنه والمحبة العميقة له.
وسوف أتوقف هنا أمام الجوانب الإنسانية في شخصية عبدالناصر وليس أمام الجوانب السياسية التي شبعت بحثا بين الأنصار والأعداء. والحقيقة أن الجوانب الإنسانية كثيرا ما تضيع في خضم التحليلات السياسية المختلفة
وقد حرص الكاتب الأمريكي ولتن وين علي أن يعطي للجانب الإنساني في عبدالناصر نصيبا كبيرا من الاهتمام في كتابه, وذلك بالإضافة إلي تناوله للجوانب السياسية الأخري.
وكتاب ولتن وين صدر كما أشرت سنة1959, وصدرت ترجمته العربية في نفس العام عن دار العلم للملايين في بيروت, والترجمة لاتحمل اسما للمترجم, وهي ترجمة واضحة وجيدة, وأعتقد أنها قد تمت تحت إشراف المؤلف الأمريكي ولتن وين نفسه
يقول الكاتب الأمريكي المحب لعبدالناصر:
إن عبدالناصر دينامو بشري, وهو يتمتع بطاقة لاحدود لها, ولايكاد يجد وقتا للنوم, ومتعته الأولي في الحياة هي عمله وثورته, فهو يوجه إليهما كامل قوته, وهو يعمل في معظم الأحيان في منزله.
لقد قال لي مرة: إن مكتبي في قلب العاصمة ليس إلا مكانا للاستقبالات, أما حين يكون عندي أعمال أساسية فإنني أفضل أن أقوم بها هنا في البيت, حيث يسود الهدوء, ولايصرفني عن العمل شيء.
وفي اليوم الذي تحدثت فيه إلي عبدالناصر كان قد عمل حتي الساعة الرابعة صباحا, ثم نام قليلا واستيقظ في السادسة. وعبدالناصر يواصل سهره هذا طوال أشهر متوالية حتي ينفد معين نشاطه, وعندئذ يطرح العمل ويأخذ قسطه من الراحة.
وخلال فترات الراحة هذه فإنه يقصد في بعض الأحيان إلي القناطر الخيرية قرب القاهرة, أو إلي قرية قريبة من الإسكندرية. وهناك يستريح بضعة أيام حتي يسترد نشاطه ويصبح مستعدا لاستئناف العمل من جديد. وهو يقصد إلي مثل هذه الاستراحات كلما توقع نشوب أزمة من الأزمات, وكلما أدرك أن أمامه عملا شاقا يقتضي منه أن ينصرف إليه انصرافا طويلا مرهقا. أما في الأحوال الأخري فإن عبدالناصر يفضل أن يأخذ قسطه من الراحة في بيته مع أسرته.
ويقول ولتن وين في موضع آخر من كتابه:
سألت عبدالناصر ذات مرة: لماذا لاتنتقل إلي أحد قصور الملك فاروق السابقة, بدلا من البقاء في منزلك المتواضع الحالي, فقال لي: لانستطيع أن نفعل ذلك. إننا إذا انتقلنا إلي هناك فإن كلا منا سوف يحيا في جناحه الخاص, وعندئذ يتشتت شمل الأسرة, أما هنا في منزلنا هذا, فإننا نعيش كلنا معا. ثم أضاف عبدالناصر ضاحكا: وهناك سبب آخر أيضا, ففي العام الماضي انتقلنا إلي قصر الطاهرة, أحد القصور الملكية القديمة حيث قضينا بضعة أسابيع ريثما يتم بناء الجناح الجديد في بيتنا, فشرع أولادي يلعبون في أنحاء القصر, وأخذوا يكسرون تلك الزهريات النفيسة والتحف الفنية الكبيرة, وكان علي أنا أن أدفع قيمتها إلي الدولة. والحقيقة أن حالتي المالية لاتسمح لي بالعيش في قصر!.
ثم يضيف ولتن وين:
يلعب عبدالناصر التنس في بعض الأحيان, ولكن وسيلته المفضلة إلي الراحة هي لعب الشطرنج ومشاهدة الأفلام السينمائية. لقد علم أولاده الشطرنج, وهو يحب أن يقضي السهرة, إذا سمحت له الظروف, وهو يلعب معهم. وقد قال لي مرة: أنا أتركهم يغلبونني ما استطعت إلي ذلك سبيلا. إني أريد منهم أن يحبوا هذه اللعبة. وعبدالناصر يحب السينما ففي أيام الثورة الأولي كان يشهد الحفلات السينمائية في دور العرض كلما وجد متسعا من الوقت, ولكن ضغط العمل مالبث أن فرض عليه الإقلال من الذهاب إلي دور السينما, إلا في الأحوال النادرة, ففي سنة1956 مثلا كانت أعماله لاتكاد تبقي له ذرة من أوقات الفراغ بعد تأميم شركة قناة السويس وماتلاها من حرب السويس, وكنتيجة لذلك لم يشهد غير فيلم واحد طوال هذا العام, وكان ذلك في شهر أغسطس عندما استطاع أن يذهب إلي الاسكندرية طلبا للاستجمام لبضعة أيام مع عائلته. وقال لي عبد الناصر: قبل أن ينتهي الفيلم جاءني من أخبرني أن دالاس وزير الخارجية الأمريكية قد أعلن مشروعه الخاص نتدويل القنال, فكان علي أن أغادر دار العرض قبل انتهاء الفيلم: وقد استطاع عبد الناصر أن يعوض ذلك في العام التالي. وتوضيحا لذلك قال لي: لقد أقمت جهازا للعرض السينمائي هنا علي أرض ملعب( تنس) المجاور لمنزلي, فأنا أشهد كل ليلة جميع الأفلام التي فاتتني مشاهدتها في العام الماضي, بما فيها ذلك الفيلم الذي لم أتم مشاهدته في الاسكندرية.
ويسجل ولتن وين بعد ذلك هذه الملاحظة فيقول:
إن روح الفكاهة عند عبد الناصر تؤلف جزءا من سحر شخصيته إنه ليس جارحا, ولكنه يملك نصيبه الوافر من روح الفكاهة التي يتميز بها شعب مصر
ولقد قلت أكثر من مرة إن سحر شخصية عبد الناصر يفتن كل من يقابله حتي اذا فارقته وتحررت من سحر شخصيته, بعد ساعة أو ساعتين فقد تجد نفسك تختلف معه في الرأي, أما في أثناء سماعك الحديث فلابد لك من الاقتناع بما يقول
وعبد الناصر يتكلم الانجليزية في طلاقة, ولكنه لايتكلف التكلم بلهجة إكسفورد, أو باللهجة الأمريكية. إن عبد الناصر يتكلم الانجليزية بالنبرة المصرية, فلست تنسي وأنت تستمع إليه أنك أمام رجل مصري صميم والاجتماع بعبد الناصر حلم من أحلام الصحفيين. إنه لايتهرب قط من أي سؤال, ولايحاول أن يقذف الصحفي باجابات موجزة لا تسمن و لاتغني من جوع. انه لايجيب علي الاسئلة فحسب, بل يتوسع في ذلك حتي النهاية, ذلك أنه متمكن من موضوعه, فهو يريد أن يتحدث ويتحدث حتي تصبح كل نقطة صافية كالبلور, ومع ذلك فهو لايستعمل التعابير الصاخبة الطنانة, ولايمدح نفسه وأعماله, فهو رجل متواضع جدا, سريع إلي الاعتراف بأخطائه, فهو يقول مثلا: أجل, لقد ارتكبنا بعض الأخطاء, ولكن عليكم أن تفهموا تاريخنا, فنحن المصريين قد عشنا طوال أجيال وأجيال تحت السيطرة الأجنبية, وقد أصابتنا بسبب ذلك عقدة نفسية أو مركب نقص.
ومن أهم ماسجله ولتن وين علي لسان عبد الناصر ماقاله عبد الناصر لأحد رجال الدين الذين احتجوا علي قرار الثورة سنة1955 بتوحيد القضاء وإلغاء المحاكم الدينية لقد قال عبد الناصر لرجل الدين المحتج: دعني أؤكد لك أننا لن نتسامح مع التعصب الديني من أية جهة جاء لقد حاول الاخوان المسلمون ذلك, فتصدينا لهم بقوة, وسوف نكرر نفس الموقف مع أي محاولة لفرض التعصب الديني علي البلاد.
وأخيرا يقول ولتن دين إن كره عبد الناصر لمظاهر العظمة هو إحدى الصفات القوية في شخصيته, فلم يستطع أحد من الناس أن يزعم أنه سوف يصبح فاروقا جديدا, أو أنه قد أثري على حساب الأمة, وزيارة إلي منزل عبد الناصر تظهر لكل امريء كيف احتفظ الرجل بحياته البسيطة بعد ست سنوات من توليه مقاليد السلطة.
ذلك بعض ماقاله ولتن وين الأمريكي الذي أحب عبد الناصر, وكتب عنه كتابه الجميل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأهرام ـ في 21/7/2002م.