صفحة 3 من 6 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 الأخيرةالأخيرة
النتائج 25 إلى 36 من 68

الموضوع: مع رجاء النقاش

  1. #25 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 24 ) أمريكي يحب عبد الناصر

    بقلم: رجاء النقاش
    .......................

    هل يمكن أن نتصور أن هناك أمريكيا يحب عبد الناصر ويري فيه شخصية سياسية وإنسانية جديرة بأعظم التقدير والإعجاب؟‏.‏ من الصعب أن نتصور وجود مثل هذا الأمريكي‏,‏ وخاصة بين السياسيين والمفكرين والصحفيين‏,‏ ذلك لأن الفكرة الشائعة عن عبد الناصر‏,‏ بالحق والباطل‏,‏ هي أنه كان من أعدي أعداد السياسة الأمريكية‏,‏ وأنه كان من زعماء القرن العشرين الذين لم يثقوا بأمريكا ولم تثق بهم أمريكا أبدا‏,‏ والصورة العامة لعبد الناصر عند الأمريكان هي صورة سلبية‏,‏ في حياته وبعد رحيله‏.‏
    وأذكر أنني شاهدت منذ سنوات فيلما امريكيا اسمه السادات وهو فيلم آخر غير فيلم الفنان الكبير أحمد زكي والذي أخرجه فنان كبير آخر هو محمد خان‏,‏ ففيلم أحمد زكي ومحمد خان هو تحفة فنية‏,‏ أما الفيلم الأمريكي فهو فيلم مبتذل وساقط بالمقاييس الفنية والموضوعية‏,‏ وفي هذا الفيلم الأمريكي يظهر عبد الناصر في صورة ضعيفة ومهزوزة وسيئة جدا‏.‏ وهو في هذا الفيلم عنيد ومتعصب وضيق الأفق ولايقبل نصائح السادات له بالاعتدال والتفكير السياسي السليم‏.‏ وأظن أن هذه الصورة التي ظهر بها عبد الناصر في الفيلم الأمريكي‏,‏ هي الصورة الأمريكية الشائعة له‏,‏ ولا توجد صورة أمريكية أخرى لعبد الناصر مع الأسف الشديد‏.‏
    والغريب في ذلك كله أن أي دراسة علمية خالية من الأهواء والأغراض والتعصبات لابد أن تنتهي الي أن عبد الناصر قد بذل جهودا كبيرة بعد قيام ثورة يوليو سنة‏1952‏ لكي يكون علي علاقة طيبة بالأمريكان‏,‏ وكانت لديه آمال واسعة في أن يتعاون معهم علي أساس من المصالح المشتركة للبلدين‏.‏ ومن يعد إلى الوثائق المنشورة لليسار المصري فسوف يجد أن عبد الناصر في هذه الفترة كان متهما بأنه كان يتعاون مع الأمريكان ويعمل لحسابهم‏.‏
    كما أن من الثابت والمعروف ان عبد الناصر في بداية الثورة كان علي علاقة طيبة بالسفير الأمريكي جيفرسون كافري وكان كافري من جانبه معجبا بعبد الناصر‏,‏ وكان أيضا آخر الأمريكان المحترمين الذين عملوا من أجل اقامة علاقات طيبة بين الأمريكان من جانب وبين ثورة يوليو وعبد الناصر من جانب آخر‏,‏ ومن المشهور عن كافري أنه كان يسمي رجال الثورة في مصر باسم أولادنا او علي حد التعبير الشائع عنه‏ourboys
    ولكن السفير كافري استقال فجأة سنة‏1954,‏ وقيل عن هذه الاستقالة إنه اضطر اليها لأن سياسته المتعاطفة مع عبد الناصر وثورة يوليو لم تكن مقبولة لدي وزارة الخارجية الامريكية ووزيرها الشهير جون فوسترد الاس‏.‏ وقد جاء الي مر بعد كافري سفير امريكي آخر هو هنري بايرود وحاول بايرود أن يواصل خطة كافري السياسية في التعاطف مع عبد الناصر وثورة يوليو‏,‏ ولكنه لم ينجح‏,‏ واصطدم هو الاخر بعقبات كثيرة‏,‏ فأمريكا كانت قد اتخذت قرارها بالوقوف في وجه عبد الناصر‏,‏ ولم يستطع بايرود أن يغير اتجاه الرياح الأمريكية‏.‏ وأصبح عبد الناصر متهما من الأمريكان بأنه يميل الي الشيوعية‏,‏ بينما كان متهما في ذلك الوقت من الشيوعيين في مصر والعالم العربي بأنه يميل إلى الأمريكان‏.‏ وهكذا اختل الميزان واضطربت الحسابات والتقديرات‏.‏
    علي أن الدراسة الهادئة المنصفة للعلاقة بين عبد الناصر والأمريكان إنما تؤكد أن عبد الناصر حاول باخلاص وجدية أن يتفادي أي صدام مع أمريكا‏,‏ إلا أن الأمريكان خذلوه وبدأوا في محاربته وعرقلة خطواته للنهوض بمصر‏,‏ مماجعل عبد الناصر يشعر بأنه لا أمل في أي تعاون جدي مثمربين مصر وأمريكا‏,‏ وبالتحديد بين ثورة يوليو وأمريكا‏,‏ وذلك طالما بقي عبد الناصر علي موقفه من الحرص علي المصالح المصرية والعربية قبل أي شيء آخر‏.‏ وعلاقة عبد الناصر بالأمريكان علي أي حال جديرة بأن تكون موضوعا لدراسات كثيرة أخري‏.‏
    علي أن الصراع المبكر بين عبد الناصر وأمريكا لم يمنع من ظهور كاتب امريكي مثقف صاحب ضمير هو ولتون وين وقد أحب هذا الكاتب الأمريكي عبد الناصر واتصل به والتقي معه وعرف له قدره وسجل ذلك كله في أول كتاب غربي يظهر عن عبد الناصر سنة‏1959,‏ وكان هذا الكتاب عنوانه عبد الناصر ـ قصة البحث عن الكرامة
    في حدود معلوماتي فإنه كاتب أمريكي عاش في مصر سنوات طويلة قبل الثورة وبعدها‏,‏ وكان يعمل أستاذا في الجامعة الأمريكية‏,‏ ثم تفرغ بعد ذلك للعمل مديرا لمكتب وكالة أسوشيتد برس للأنباء في القاهرة‏.‏ ومن خلال معرفة ولتن وين الواسعة بمصر وأحوالها وتاريخها القديم والحديث استطاع هذا الكاتب أن يصل إلي درجة كبيرة من الفهم والتعاطف والحب لشخصية عبدالناصر‏,‏ وقد ازداد موقفه المتعاطف قوة بعد أن أجري عدة لقاءات شخصية طويلة مع عبدالناصر نفسه‏,‏ مما ساعد هذا الكاتب علي أن يتخذ موقفه وبين يديه أدلة خاصة به تؤكد صحة رأيه الخاص في الإعجاب بعبدالناصر والدفاع عنه والمحبة العميقة له‏.‏
    وسوف أتوقف هنا أمام الجوانب الإنسانية في شخصية عبدالناصر وليس أمام الجوانب السياسية التي شبعت بحثا بين الأنصار والأعداء‏.‏ والحقيقة أن الجوانب الإنسانية كثيرا ما تضيع في خضم التحليلات السياسية المختلفة
    وقد حرص الكاتب الأمريكي ولتن وين علي أن يعطي للجانب الإنساني في عبدالناصر نصيبا كبيرا من الاهتمام في كتابه‏,‏ وذلك بالإضافة إلي تناوله للجوانب السياسية الأخري‏.‏
    وكتاب ولتن وين صدر كما أشرت سنة‏1959,‏ وصدرت ترجمته العربية في نفس العام عن دار العلم للملايين في بيروت‏,‏ والترجمة لاتحمل اسما للمترجم‏,‏ وهي ترجمة واضحة وجيدة‏,‏ وأعتقد أنها قد تمت تحت إشراف المؤلف الأمريكي ولتن وين نفسه
    يقول الكاتب الأمريكي المحب لعبدالناصر‏:‏
    إن عبدالناصر دينامو بشري‏,‏ وهو يتمتع بطاقة لاحدود لها‏,‏ ولايكاد يجد وقتا للنوم‏,‏ ومتعته الأولي في الحياة هي عمله وثورته‏,‏ فهو يوجه إليهما كامل قوته‏,‏ وهو يعمل في معظم الأحيان في منزله‏.‏
    لقد قال لي مرة‏:‏ إن مكتبي في قلب العاصمة ليس إلا مكانا للاستقبالات‏,‏ أما حين يكون عندي أعمال أساسية فإنني أفضل أن أقوم بها هنا في البيت‏,‏ حيث يسود الهدوء‏,‏ ولايصرفني عن العمل شيء‏.‏
    وفي اليوم الذي تحدثت فيه إلي عبدالناصر كان قد عمل حتي الساعة الرابعة صباحا‏,‏ ثم نام قليلا واستيقظ في السادسة‏.‏ وعبدالناصر يواصل سهره هذا طوال أشهر متوالية حتي ينفد معين نشاطه‏,‏ وعندئذ يطرح العمل ويأخذ قسطه من الراحة‏.‏
    وخلال فترات الراحة هذه فإنه يقصد في بعض الأحيان إلي القناطر الخيرية قرب القاهرة‏,‏ أو إلي قرية قريبة من الإسكندرية‏.‏ وهناك يستريح بضعة أيام حتي يسترد نشاطه ويصبح مستعدا لاستئناف العمل من جديد‏.‏ وهو يقصد إلي مثل هذه الاستراحات كلما توقع نشوب أزمة من الأزمات‏,‏ وكلما أدرك أن أمامه عملا شاقا يقتضي منه أن ينصرف إليه انصرافا طويلا مرهقا‏.‏ أما في الأحوال الأخري فإن عبدالناصر يفضل أن يأخذ قسطه من الراحة في بيته مع أسرته‏.‏
    ويقول ولتن وين في موضع آخر من كتابه‏:‏
    سألت عبدالناصر ذات مرة‏:‏ لماذا لاتنتقل إلي أحد قصور الملك فاروق السابقة‏,‏ بدلا من البقاء في منزلك المتواضع الحالي‏,‏ فقال لي‏:‏ لانستطيع أن نفعل ذلك‏.‏ إننا إذا انتقلنا إلي هناك فإن كلا منا سوف يحيا في جناحه الخاص‏,‏ وعندئذ يتشتت شمل الأسرة‏,‏ أما هنا في منزلنا هذا‏,‏ فإننا نعيش كلنا معا‏.‏ ثم أضاف عبدالناصر ضاحكا‏:‏ وهناك سبب آخر أيضا‏,‏ ففي العام الماضي انتقلنا إلي قصر الطاهرة‏,‏ أحد القصور الملكية القديمة حيث قضينا بضعة أسابيع ريثما يتم بناء الجناح الجديد في بيتنا‏,‏ فشرع أولادي يلعبون في أنحاء القصر‏,‏ وأخذوا يكسرون تلك الزهريات النفيسة والتحف الفنية الكبيرة‏,‏ وكان علي أنا أن أدفع قيمتها إلي الدولة‏.‏ والحقيقة أن حالتي المالية لاتسمح لي بالعيش في قصر‏!.‏
    ثم يضيف ولتن وين‏:‏
    يلعب عبدالناصر التنس في بعض الأحيان‏,‏ ولكن وسيلته المفضلة إلي الراحة هي لعب الشطرنج ومشاهدة الأفلام السينمائية‏.‏ لقد علم أولاده الشطرنج‏,‏ وهو يحب أن يقضي السهرة‏,‏ إذا سمحت له الظروف‏,‏ وهو يلعب معهم‏.‏ وقد قال لي مرة‏:‏ أنا أتركهم يغلبونني ما استطعت إلي ذلك سبيلا‏.‏ إني أريد منهم أن يحبوا هذه اللعبة‏.‏ وعبدالناصر يحب السينما ففي أيام الثورة الأولي كان يشهد الحفلات السينمائية في دور العرض كلما وجد متسعا من الوقت‏,‏ ولكن ضغط العمل مالبث أن فرض عليه الإقلال من الذهاب إلي دور السينما‏,‏ إلا في الأحوال النادرة‏,‏ ففي سنة‏1956‏ مثلا كانت أعماله لاتكاد تبقي له ذرة من أوقات الفراغ بعد تأميم شركة قناة السويس وماتلاها من حرب السويس‏,‏ وكنتيجة لذلك لم يشهد غير فيلم واحد طوال هذا العام‏,‏ وكان ذلك في شهر أغسطس عندما استطاع أن يذهب إلي الاسكندرية طلبا للاستجمام لبضعة أيام مع عائلته‏.‏ وقال لي عبد الناصر‏:‏ قبل أن ينتهي الفيلم جاءني من أخبرني أن دالاس وزير الخارجية الأمريكية قد أعلن مشروعه الخاص نتدويل القنال‏,‏ فكان علي أن أغادر دار العرض قبل انتهاء الفيلم‏:‏ وقد استطاع عبد الناصر أن يعوض ذلك في العام التالي‏.‏ وتوضيحا لذلك قال لي‏:‏ لقد أقمت جهازا للعرض السينمائي هنا علي أرض ملعب‏(‏ تنس‏)‏ المجاور لمنزلي‏,‏ فأنا أشهد كل ليلة جميع الأفلام التي فاتتني مشاهدتها في العام الماضي‏,‏ بما فيها ذلك الفيلم الذي لم أتم مشاهدته في الاسكندرية‏.‏
    ويسجل ولتن وين بعد ذلك هذه الملاحظة فيقول‏:‏
    إن روح الفكاهة عند عبد الناصر تؤلف جزءا من سحر شخصيته إنه ليس جارحا‏,‏ ولكنه يملك نصيبه الوافر من روح الفكاهة التي يتميز بها شعب مصر
    ولقد قلت أكثر من مرة إن سحر شخصية عبد الناصر يفتن كل من يقابله حتي اذا فارقته وتحررت من سحر شخصيته‏,‏ بعد ساعة أو ساعتين فقد تجد نفسك تختلف معه في الرأي‏,‏ أما في أثناء سماعك الحديث فلابد لك من الاقتناع بما يقول
    وعبد الناصر يتكلم الانجليزية في طلاقة‏,‏ ولكنه لايتكلف التكلم بلهجة إكسفورد‏,‏ أو باللهجة الأمريكية‏.‏ إن عبد الناصر يتكلم الانجليزية بالنبرة المصرية‏,‏ فلست تنسي وأنت تستمع إليه أنك أمام رجل مصري صميم والاجتماع بعبد الناصر حلم من أحلام الصحفيين‏.‏ إنه لايتهرب قط من أي سؤال‏,‏ ولايحاول أن يقذف الصحفي باجابات موجزة لا تسمن و لاتغني من جوع‏.‏ انه لايجيب علي الاسئلة فحسب‏,‏ بل يتوسع في ذلك حتي النهاية‏,‏ ذلك أنه متمكن من موضوعه‏,‏ فهو يريد أن يتحدث ويتحدث حتي تصبح كل نقطة صافية كالبلور‏,‏ ومع ذلك فهو لايستعمل التعابير الصاخبة الطنانة‏,‏ ولايمدح نفسه وأعماله‏,‏ فهو رجل متواضع جدا‏,‏ سريع إلي الاعتراف بأخطائه‏,‏ فهو يقول مثلا‏:‏ أجل‏,‏ لقد ارتكبنا بعض الأخطاء‏,‏ ولكن عليكم أن تفهموا تاريخنا‏,‏ فنحن المصريين قد عشنا طوال أجيال وأجيال تحت السيطرة الأجنبية‏,‏ وقد أصابتنا بسبب ذلك عقدة نفسية أو مركب نقص‏.‏
    ومن أهم ماسجله ولتن وين علي لسان عبد الناصر ماقاله عبد الناصر لأحد رجال الدين الذين احتجوا علي قرار الثورة سنة‏1955‏ بتوحيد القضاء وإلغاء المحاكم الدينية لقد قال عبد الناصر لرجل الدين المحتج‏:‏ دعني أؤكد لك أننا لن نتسامح مع التعصب الديني من أية جهة جاء لقد حاول الاخوان المسلمون ذلك‏,‏ فتصدينا لهم بقوة‏,‏ وسوف نكرر نفس الموقف مع أي محاولة لفرض التعصب الديني علي البلاد‏.‏
    وأخيرا يقول ولتن دين إن كره عبد الناصر لمظاهر العظمة هو إحدى الصفات القوية في شخصيته‏,‏ فلم يستطع أحد من الناس أن يزعم أنه سوف يصبح فاروقا جديدا‏,‏ أو أنه قد أثري على حساب الأمة‏,‏ وزيارة إلي منزل عبد الناصر تظهر لكل امريء كيف احتفظ الرجل بحياته البسيطة بعد ست سنوات من توليه مقاليد السلطة‏.‏
    ذلك بعض ماقاله ولتن وين الأمريكي الذي أحب عبد الناصر‏,‏ وكتب عنه كتابه الجميل‏.‏
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *الأهرام ـ في 21/7/2002م.
    رد مع اقتباس  
     

  2. #26 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    (25) بالله عليكم‏...‏ أين الخطأ؟

    بقلم : رجاء النقاش
    ...........................

    من بين الكتب المثيرة التي صدرت في سبعينيات القرن الماضي كتاب عجيب للكاتب الإسلامي المعروف المرحوم أنور الجندي عنوانه "طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام"‏,‏ وينطوي هذا الكتاب من أول صفحة فيه إلي آخر صفحة علي طعن ولعن وتوجيه للاتهامات القاسية إلي طه حسين في وطنيته ودينه وعروبته‏,‏ ومن بين أسوأ الاتهامات التي وردت في كتاب أنور الجندي اتهام لطه حسين بأنه متعاطف مع الصهيونية ومناصر لها‏.‏
    وقد اعتمد الكاتب في توجيه هذا الاتهام الباطل علي محاضرة ألقاها طه حسين بتاريخ‏24‏ ديسمبر سنة‏1944‏ في المدرسة الإسرائيلية بالإسكندرية‏,‏ وينقل أنور الجندي بعض ما ورد في هذه المحاضرة ويقدمه كدليل علي صحة وصفه لطه حسين بالصهيونية، خاصة أن هذه المحاضرة قد لقيت الترحيب من المستمعين إليها في المدرسة الإسرائيلية وقوبلت بعاصفة من التصفيق وقرر المجلس الملي الإسرائيلي في الإسكندرية بعد المحاضرة إنشاء جائزتين باسم طه حسين يتم منحهما لألمع طالبين في المدرسة‏.‏
    وتعليقا علي بعض نصوص محاضرة طه حسين يقول أنور الجندي‏:‏ لا ريب أن هذا الذي اختصرناه عن المحاضرة إنما يكشف عن هوي طه حسين وزيفه فيما حاوله من أن يضفي علي اليهود فضلا ليس لهم‏,‏ فما كان لليهود علي العرب أو غيرهم علي مر التاريخ البشري أي فضل‏.‏
    وفي الرد علي هذا الاتهام الكبير الذي هو في تقديري اتهام شديد البطلان نتساءل‏:‏ أين وجه الخطأ في محاضرة طه حسين؟ من الناحية الشكلية ليس هناك لوم علي طه حسين‏,‏ فالمحاضرة تم إلقاؤها في المدرسة الإسرائيلية بالإسكندرية‏,‏ وكانت هذه المدرسة في ذلك الوقت ‏1944‏ مدرسة مصرية معترفا بها تؤدي عملها بصورة علنية لا خفاء فيها‏,‏ ولم يسجل عليها أحد أي مخالفة لقانون البلاد‏,‏ ولابد من القول أيضا إن اليهود في مصر في تلك الفترة كان لهم وجود شرعي لا اعتراض عليه من أحد‏,‏ وكانت النظرة العامة إلي هؤلاء اليهود أنهم مواطنون مصريون يشتركون مع بقية سكان مصر في الحقوق والواجبات‏,‏ ولا فرق بينهم وبين أي مواطنين عاديين غيرهم من أبناء البلاد‏,‏ فما هو الخطأ‏,‏ وما هو وجه الاعتراض علي أن يقوم طه حسين بإلقاء محاضرة في مدرسة مصرية‏,‏ وبين مواطنين مصريين لم يكن عليها أو عليهم اعتراض وطني أو قانوني من أي نوع؟
    لا مجال لمثل هذا الاعتراض علي الإطلاق‏,‏ فهو اعتراض لا يقبله العقل ولا المنطق السليم‏.‏
    يبقي بعد ذلك الاعتراض الأهم‏,‏ وهو الاعتراض علي ما جاء في المحاضرة من أفكار‏,‏ وعندما نقرأ الفقرات التي أوردها أنور الجندي في كتابه من هذه المحاضرة‏,‏ لا نستطيع أن نوافقه أبدا علي ما خرج به من نتائج ضد المحاضرة‏,‏ وقد كان موضوع المحاضرة هو اليهود والأدب العربي وفيها يتحدث طه حسين عن العلاقات بين العرب واليهود منذ الجاهلية ويتحدث عن تأثير اليهود في تحضير سكان الجزيرة العربية‏,‏ ثم يتكلم عن انتشار اليهود في شمال أفريقيا وأسبانيا‏,‏ حيث كانت لهم خدمات في سبيل الثقافة العربية‏,‏ وقد نافسوا العرب علي أكثر مناصب الدولة‏.‏
    هذا الكلام الذي يقوله طه حسين هو كلام علمي سليم لا تنكره المصادر الموثوق بها ولا يرفضه الباحثون والعلماء‏,‏ وليس فيه ما يجرح الإحساس الوطني والقومي لأي عربي‏,‏ فلماذا يعترض عليه أنور الجندي أو غيره وأين وجه الجريمة في هذا الكلام؟
    إن العرب المعاصرين جميعا وفي مقدمتهم الفلسطينيون يواجهون العالم بمنطق محدد وقوي هو أن الحضارة العربية قد عاملت اليهود ـ علي مر التاريخ ـ أحسن المعاملة‏,‏ وهي معاملة لم يجد اليهود مثلها أو قريبا منها في أوروبا فقد أتيح لليهود في ظل الحضارة العربية من حرية الحياة والتعبير والتفكير والارتقاء الاجتماعي ما لم يتح لهم في أي عصر آخر أو مجتمع آخر‏.‏
    وكلام طه حسين في جوهره إنما يكشف عن وجه من وجوه الجريمة الصهيونية‏,‏ فهو يسجل موقف العرب الكريم من اليهود‏,‏ ويسجل من ناحية أخري أن اليهود كانوا مطمئنين وناجحين وسعداء في ظل الحضارة العربية‏,‏ ولو فهم أي يهودي ممن كانوا يعيشون في مصر كلام طه حسين علي وجهه الصحيح واقتنع به لما وجد نفسه في حاجة إلي تأييد الصهيونية والانطواء تحت رايتها‏,‏ وكلام طه حسين يؤكده المؤرخون والباحثون الأوروبيون الذين يجمعون علي أن وضع اليهود القانوني والعملي في البلاد العربية الإسلامية في القرون الوسطي كان أحسن كثيرا منه في أوروبا المسيحية‏,‏ وأن عبارة العصر الذهبي لليهودية في أسبانيا الإسلامية أصبحت عبارة شائعة علي لسان الجميع حتى في أكثر الروايات الشعبية عن التاريخ اليهودي‏.‏
    هذا ما يقوله الأوروبيون أنفسهم‏,‏ وهي شهادة عالية في حق العرب والحضارة العربية‏.‏
    يقول طه حسين في محاضرته بعد ذلك‏:‏ إن المسيحيين واليهود كانوا عونا للعرب في نقلهم العلوم والفنون والآداب عن اليونان والهنود والفرس‏.‏ وهنا نتساءل أيضا‏:‏ في أي شيء أخطأ طه حسين عندما قال هذه العبارة؟‏...‏ الحقيقة أنه لم يخطئ في شيء‏,‏ فالحضارة العربية قد استعانت بالمسيحيين واليهود واستفادت منهم ثقافيا وحضاريا‏,‏ خاصة في المراحل المزدهرة من تاريخ الحضارة العربية في الأندلس وفي العصر العباسي الأول‏,‏ وفي العصر الأيوبي‏,‏ ويكفي أن نشير هنا إلي أن العالم الكبير موسي بن ميمون اليهودي ‏1135‏ ـ‏1204‏ كان طبيبا لصلاح الدين الأيوبي‏,‏ فما الذي ينكره أنور الجندي وغيره علي طه حسين فيما قاله عن استعانة العرب بالمسيحيين واليهود واستفادتهم من ذلك؟
    إن طه حسين يتحدث هنا بلسان المفكر والعالم المسئول المتحضر‏,‏ وهو في حديثه يريد أن يؤكد مبادئ التعاون والوحدة في صفوف شعبه بين شتي الطوائف والفئات التي يتكون منها هذا الشعب‏,‏ خاصة أن طه حسين في محاضرته كان يستند إلي حقائق تاريخية‏,‏ وعلمية دقيقة وثابتة‏.‏
    بعد ذلك يقول طه حسين في محاضرته‏:‏ إنني أدعو يهود مصر إلي توثيق صلاتهم بالمصريين من أهل الثقافة العربية والاندماج فيهم اندماجا روحيا وتدارس أدبهم‏:‏ شعرا ونثرا‏.‏
    هنا أيضا يتحدث طه حسين بلغته الوطنية الصافية المتحضرة‏,‏ فتاريخ المحاضرة كما سبقت الإشارة مرارا هو ‏1944,‏ وفي ذلك الوقت كان من الطبيعي أن يدعو طه حسين يهود مصر إلي التمسك بوطنهم والاندماج في ثقافته وعدم الاستجابة لأي إغراء خارجي آخر‏,‏ فهل كان أنور الجندي وغيره من المعترضين الساخطين علي طه حسين يريدون منه أن يدعو اليهود‏,‏ كما تدعوهم الصهيونية‏,‏ إلي الانفصال عن بقية أبناء مصر أو محاربتهم أو إقامة سد منيع يحول بينهم وبين الاندماج مع بقية المواطنين؟‏!‏
    إن محاضرة طه حسين في حدود الأجزاء المنشورة منها ليس فيها أبدا ما يؤخذ علي طه حسين‏,‏ وليس فيها ما يثير شبهة تعاونه أو تعاطفه مع الحركة الصهيونية‏,‏ وإذا كان يهود مصر فيما بعد قد تصرفوا تصرفات خاطئة من وجهة النظر الوطنية والسياسية والإنسانية فليس هذا هو خطأ طه حسين‏,‏ وإنما هو دون شك خطأ اليهود أنفسهم‏,‏ لقد كان طه حسين يرسم خطة صحيحة للخلاص الوطني والاندماج في المجتمع العربي المصري‏,‏ ولكنهم اختاروا أو اختارت لهم الصهيونية طرقا ملتوية أخري‏,‏ تستند كلها إلي التطرف والتعصب والعنصرية‏.‏
    أما الجائزتان اللتان قررهما المجلس الملي الإسرائيلي‏,‏ باسم طه حسين فلا يجوز لأحد أن يستند إليهما في القول بأن طه حسين كان ـ والعياذ بالله ـ مؤيدا للصهيونية أو متعاونا معها‏,‏ فمثل هذا الاستنتاج متسرع و خاطئ وغير منطقي‏,‏ ففي هاتين الجائزتين تكريم من هيئة دينية مصرية كان معترفا بها في حينها لرائد وكاتب عربي مصري كبير له وزنه ومقامه في الحياة الفكرية والحياة العامة معا‏,‏ ولم يكن في ذلك خطأ‏,‏ ولم يكن فيه جريمة‏.‏
    .............................................
    * الأهرام في 24/4/2005م.
    رد مع اقتباس  
     

  3. #27 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 26 ) المصحف والمنديل (رجاء النقاش يكتب عن محمد مندور)

    بقلم: رجاء النقاش
    .......................

    لاشك في أن كل إنسان في هذه الدنيا بحاجة إلي إيمان يضيء نفسه‏,‏ ويساعده علي مواجهة متاعب الحياة‏,‏ فبدون الإيمان تصبح الحياة جحيما لا يطاق‏,‏ وتصبح العلاقات بين الناس حربا لا هوادة فيها‏,‏
    ويكون الضعفاء فريسة سهلة لكل من يمتلك القوة ولا يمتلك مبادئ تردعه عن استخدام هذه القوة إلا بالحق‏.‏ فالإيمان ضروري للحياة والإنسان‏.‏ ولكن هل بقي في هذا العصر مكان للإيمان؟
    إن الحياة العامة والخاصة للناس أصبحت مليئة بالمشاكل والصعوبات‏,‏ والناس جميعا في حرب‏,‏ بعضها ظاهر تسيل فيه الدماء‏,‏ وبعضها حرب أخري غير ظاهرة من أجل الرزق ومحاولة النجاة من المطاردات اليومية للظروف الصعبة‏.‏
    من منا لا يستيقظ في الصباح وهو يحمل بعض الهموم التي يحسب حسابها ويخاف أن يعجز عن مواجهتها والإفلات منها؟‏.‏ من منا لاي تسلح بالحذر خوفا من المجهول الذي ينتظر كل إنسان وقد يفاجئه في أي لحظة؟‏.‏ لاشك في أن كل إنسان يملك قدرا من الوعي والبصيرة لابد أن يشعر بمثل هذه المشاعر عندما يخلو إلي نفسه‏.‏
    ومن الضروري أن يخلو الإنسان العاقل إلي نفسه بين الحين والحين‏.‏ وعندما يخلو الإنسان إلي نفسه فإنه يستطيع أن يراجع أمور حياته كلها‏,‏ بما في ذلك حياته الروحية‏.‏ والحديث مع النفس هو تقوية للنفس وإزالة لأي صدأ أو غبار تتعرض له‏.‏ وهذا هو طريق الوصول إلي الإيمان‏.‏
    فالإيمان بحاجة إلي اكتساب عادة التأمل والخلو إلي النفس في بعض الأحيان‏.‏ علي أن الإيمان الحقيقي الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان ويعتمد عليه في حياته يحتاج إلي جهاد روحي‏.‏ فالإيمان لا يولد في النفس دون السعي للوصول إليه‏.‏ كذلك فإن الإيمان لا يبقى ولا يدوم دون أن نعمل علي تجديده باستمرار‏,‏ وبغير ذلك يتجمد الإيمان ويصبح بلا جدوى ولا نفع‏.‏ فالإيمان الجامد يتساوي مع الإيمان المفقود‏.‏
    ومع كل هذا الحديث عن ضرورة الإيمان للإنسان فإن البعض قد يتساءلون‏:‏ هل صحيح أننا بحاجة إلي الإيمان في هذا العصر‏,‏ الذي تسود فيه النزعة العملية وتسيطر علي كل شيء؟‏.‏إن النزعة العملية في عالم اليوم أصبح لها فلسفة كبري في المجتمعات الغربية‏,‏ وهي فلسفة تتسلل إلينا بقوة حتى دون أن ندري‏.‏وهذه الفلسفة هي فلسفة البرجماتية أو فلسفة المنفعة‏,‏ وخلاصة هذه الفلسفة تقول لنا أن الخير هو ما يعود علينا بالفائدة‏,‏ وان ما لا يعود بمثل هذه الفائدة هو شر لاشك فيه‏.‏ ومن المؤكد أن فلسفة المنفعة هذه لها جانب إيجابي‏,‏ فهي تساعد الإنسان علي أن يكون واقعيا‏,‏ وألا يغرق نفسه في الأوهام والأحلام والخيالات‏.‏ ولكن الفلسفة النفعية إذا سيطرت علي الإنسان فإنها تدمر الحياة تدميرا كاملا‏,‏ فالفلسفة النفعية وحدها لا تحقق استقرار النفس‏,‏ أو تقضي علي القلق والتوتر أو تتيح لصاحبها أن يعرف معني السعادة الحقيقية‏.‏ ومن المؤكد أننا لا نستطيع أن نحصل علي شيء منذ ذلك كله دون إيمان يشرح النفس‏,‏ ويجعل المعاملة بين الناس طيبة وكريمة‏,‏ومثل هذا الإيمان لابد أن يكون بعيدا عن التعقيد والغموض والتظاهر واستخدامه كوسيلة لخداع الآخرين‏,‏ كما لابد أن يبتعد مثل هذا الإيمان الجميل البسيط عن أي فلسفة زائدة أو زائفة‏.‏
    وهذا ما يحدثنا في بحث صغير بديع أديب ومفكر كبير هو الدكتور محمد مندور‏1907‏ ــ‏1965,‏ وعنوان البحث هو اعترافات مؤمن‏.‏ وهذا البحث يحمل كل صفات محمد مندور الأساسية وهي الوضوح‏,‏والصدق‏,‏ والأسلوب المليء بالموسيقي الهادئة الهامسة‏,‏ واتساع العلم والثقافة‏,‏ والقدرة علي وضع الحدود الصحيحة بين الأشياء‏,‏ بحيث لا نضطر الإنسان إلى الوقوع في المبالغات والادعاءات‏,‏ والخوض في أمور يكون الخوض فيها جهدا ضائعا لا جدوى منه‏.‏
    وأول ما يطرحه الدكتور مندور في بحثه الجميل هو أنه ينبهنا وينبه نفسه إلي حدود قدرة العقل الإنساني‏,‏ وفي هذا المعني يقول‏:‏ كنت أحس دائما في غموض أن تطاول العقل إلي مالا يستطيعه دليل ضعف فيه لا قوة‏,‏ ولهذا كم كانت فرحتي يوم سمعت عميدا لكلية الطب في باريس يقول‏:‏
    إن من أمارات الضعف العقلي أن نبحث بعقولنا عما لا نستطيع أن ننفذ إليه‏,‏ والعقل القوي هو الذي يعرف حدود قدرته‏.‏ لقد أحسست عندئذ أن هذه الألفاظ قد أضاءت جانبا مظلما في نفسي‏,‏ فرأيت بوضوح ما كنت أحسه غامضا‏,‏ ومنذ ذلك الحين آمنت بتفاهة من يناقشني في الإيمان بعقله‏,‏ فهذا إنسان ضعيف العقل يبدد نشاطه هدرا‏,.‏
    وهكذا يري مندور أن الإيمان أكبر من العقل‏,‏ فالإيمان ليس من المشاعر‏,‏ التي يصح للعقل أن يخوض فيها أو يتفلسف حولها ويدخل في تعقيدات صعبة لتعريفها أو نفيها أو إثباتها‏,‏ وإنما الإيمان هو عاطفة روحانية هادئة تسيطر علي النفس ولا يمكننا إخضاعها لمجادلات ذهنية عقيمة لا جدوى منها‏.‏ والإيمان في هذا المجال يشبه كل المعاني الكبيرة التي نشعر بها ولا نحتاج إلي أي تعقيد فلسفي في وصفها والتعامل معها مثل‏:‏
    الحب والأمانة والنزاهة والصدق‏.‏ فكل هذه المعاني إنما نتوصل إليها بذوقنا وإحساسنا‏,‏ وندرك وجودها داخل نفوسنا دون أن نكون بحاجة إلي التظاهر بها‏,‏ ووضع شروط لها‏,‏ ووصفها كما نصف الأشياء المادية التي نلمسها بأيدينا‏.‏
    ويواصل الدكتور مندور حديثه الرائع في اعترافات مؤمن فيقول‏:‏ أنا إذن لا أحب الحديث عن الإيمان‏,‏ ولا أومن بالدعوة إليه‏,‏ ولكنني مع ذلك مؤمن إيمانا راسخا وليست لي في الحياة قوة غير هذا الإيمان‏,‏ فأنا مؤمن بإله عادل اطمأنت إليه نفسي بحيث لا أذكر أنني اتجهت إليه يوما فلم أجد تأييده‏,‏ وعندما أدعوه يسكت في نفسي طنين الفكر فلا أحس في نفسي غير الصمت الساكن‏,‏ ولا أفكر حتى في وسائل القوة التي أبغيها‏,‏ وإنما أساق بعد ذلك في غير وعي كالآلة المسيرة‏,‏ وأكتفي بما أستشعر به من ثقة بأنني مادمت قد تركت السكون إلي الحركة فإنني في سواء السبيل‏,‏ ومهما تكن بعد ذلك من صعوبات فلا يمكن أن يساورني شك في أنها سوف يتم تذليلها ولو في اللحظة الأخيرة‏,‏ وهذا هو الإيمان الهادي‏.‏
    ولكن كيف وصل مندور إلي هذا النوع من الإيمان الجميل؟‏.‏ إنه لم يصل إليه بإجهاد عقله فيما لا يستطيع العقل أن ينفع فيه‏,‏ ولم يصل إليه بالمناقشات الفلسفية المعقدة‏,‏ ولا بالحرص علي الشكليات والمظاهر وتوافه الأمور‏,‏ ولا بالاستماع إلي من يحترفون الدعوة للإيمان وكأنما هو عندهم تجارة أو مذهب سياسي يدعو إليه أصحابه ليكسبوا له الأنصار والمؤيدين والأصوات الانتخابية‏,‏ بل لقد وصل مندور إلي الإيمان من خلال رياضة نفسيه قام بها وحده‏,‏ واعتمد فيها علي أشياء بالغة البساطة من حيث يقول‏:‏
    ‏...‏ من أين لي بهذا الإيمان‏,‏ وقد لقيت ضروبا من الناس‏,‏ وقرأت ألوانا من الكتب‏,‏ ودرست أنواعا من اللغات والثقافات‏,‏ وخبرت الحياة‏,‏ هزلها وجدها‏,‏في كافة الأجواء وتحت مختلف السموات؟‏.‏ أستطيع اليوم بعد أن نضجت ملكاتي أن أقول إنني لم يقنعني أحد بهذا الإيمان‏,‏ ولا اكتشفته في بطون الكتب‏,‏ ولا تلقيته من أفواه البشر‏,‏ وإنما هو إحساس قديم تمكن من نفسي بفضل حوادث صغيرة كانت بيني وبين أبي‏.‏
    بعد ذلك يروي مندور أحداثا صغيرة بسيطة وقعت له وجعلت معني الإيمان عميقا في نفسه فيقول‏:‏
    عندما اختارتني الجامعة لبعثتها حدث حادثان صغيران كان لهما في نفسي أبلغ الأثر‏:‏ أولهما أنني قبل سفري رتبت كتبي في صندوق كبير وبغير وعي مني وضعت المصحف علي قمة الكتب‏,‏ ورأي والدي ذلك ــ بالصدفة ــ فسر سرورا لم أقصد إليه وإنما جاء بتوفيق من الله‏.‏ وتحدث أبي مع إخوتي عما رآه قائلا‏:‏ إن أخاكم فلان سيكون الله دائما معه وسوف يوفق في كل ما يعمل لأنني لاحظت أنه وضع كتاب الله فوق كل كتاب‏.‏ ثم إنني في يوم السفر فوجئت بهدية من والدي أوصاني أن أحتفظ بها مدة غيبتي وأن أعود بها إليه‏,‏ وكانت الهدية عبارة عن منديل للشيخ العالم النقشبندي الذي عاهده والدي علي الهدي‏.‏
    وكلمة نقشبند هي كلمة فارسية معناها النقش علي القلب‏.‏ والنقشبندي هو من ينقش اسم الله علي قلبه‏.‏ وقد أخذت المنديل من أبي واحتفظت به خلال الأعوام التسعة التي مكثتها في أوروبا وعدت إلي مصر والمنديل لا يزال بين ملابسي‏.‏ ولا أستطيع أن أزعم أن هذا المنديل كان له علاقة بإيمان خاص أو قوة معينة‏,‏ بل ولا فكرت في شيء من ذلك علي الإطلاق‏,‏ ولكنه نوع من الاطمئنان السلبي المريح‏,‏ وقد اختلطت الهدية في نفسي بمحبتي لمهديها ــ أي أبي ــ وإيماني به‏,‏ وكان لذلك كله فضل دائم
    في ردي إلي الإيمان كلما تجهمت لي الحياة‏.‏
    ثم يصل مندور إلي القمة العالية لمعني الإيمان في نفسه فيقول‏:‏ لقد اتخذ الإيمان في نفسي وجهة الإحسان إلي الغير‏,‏ حتى لأحسب أنني عاجز أصلا عن بغض أحد‏,‏ فقد يقسو قلمي ويلذع لساني‏,‏ ولكنني ما عدت إلي نفسي إلا أحسست بفيض من التسامح لا أستطيع دفعه‏.‏
    ثم يروي مندور حادثة أخري أثرت في نفسه أعمق التأثير فيقول‏:‏ كان لوالدي تسعة إخوة وكان يحبهم جميعا حبا قلبيا صادقا حتى لقد كان يذهلني عندما يموت أحدهم أن أراه وهو الشيخ الكتوم لسره يبكي بدمع حار‏,‏ وكان أصغر إخوته رجلا كريما متلافا لماله‏,‏ وكان والدي يهتز في دخيلة نفسه لكرم أخيه الصغير وإن أحزنه إتلافه لما له‏.‏ ثم حدث أن وقع هذا الأخ الصغير في ديون طائلة‏,‏ وكان والدي يستطيع أن يساعده في سداد هذه الديون من ماله الخاص‏,‏ فلم يتردد في ذلك‏,‏ وكانت والدتي مثل كافة الأمهات تحرص علي أن يستبقي والدي أمواله لأبنائه‏,‏ وكان أخي الأكبر يناصرها في الرأي‏,‏ فانتحي بي والدي في الليل ناحية وأسر لي بنيته في مساعدة أخيه وطلب مني أن أخفي الأمر عن والدتي وأخي‏.‏ وكنت عندئذ في السابعة عشرة من عمري‏.‏ وقد رأيت فيما قاله والدي لي ثقة بي برغم حداثة سني مما ترك في نفسي أبلغ الأثر‏,‏ فتحمست منذ ذلك اليوم لعمل الخير‏,‏ وآمنت أنه جزء من الإيمان‏,‏ حتى استقر بي الرأي إلي أن عون الملهوف وإسداء المعروف إلي الناس لابد أن يخلفه الله بالخير علي صاحبه‏,‏ ولازلت حتى اليوم أعتقد أن بركة الله قد حلت بمال والدي منذ ذلك الحين‏,‏ وذلك لأنه مال لم يطهره بالزكاة فحسب‏,‏ بل زكاه بالإحسان‏.‏
    وينتهي مندور إلي هذه النتيجة أو الخلاصة العامة فيقول‏:‏
    ‏..‏ هذه هي عناصر الإيمان في نفسي‏:‏ اطمئنان إلي المجهول‏,‏ وعدم تطاول بالعقل إلي مالا يستطيعه‏,‏ وربط للأخلاق بالإيمان‏,‏ وتسامح مع الناس‏,‏ وعمل للمعروف حيث نستطيع ذلك‏.‏ وأما منابع هذا الإيمان فهي كما تري لم تكن مجادلة عقلية‏,‏ ولا إثارة عاطفية‏,‏ ولكنها كانت حوادث صغيرة هي أبلغ في غرس الإيمان بالنفس من كبار الموسوعات وطوال الخطب‏.‏
    وهكذا يقدم الدكتور محمد مندور في اعترافات مؤمن صورة حقيقية رائعة للإيمان الصحيح‏,‏ فهو شعور داخلي طبيعي سهل غير معقد‏,‏ وهو إحساس بعيد عن المظاهر والشكليات‏,‏ وهو فيض روحي لا يحتاج إلي محترفين يدعون إليه بالتهديد أو الوعيد أو غير ذلك من الأساليب‏,‏ والمؤمن السعيد بإيمانه لا يكرر الحديث عن هذا الإيمان أو يتفاخر به‏,‏ وإنما يحتفظ به في داخل نفسه‏,‏ فيظهر في سلوكه الطيب ومعاملته الكريمة للناس‏,‏ ويفيض منه علي وجهه نور لا تراه العيون وإنما تحس به القلوب المرهفة والنفوس الصافية‏.‏ وعندما يحدثنا مندور عن المصحف والمنديل‏,‏ فهو يحدثنا حديثا نفسيا موسيقيا جميلا‏,‏ وهو يقول لنا إن كل إنسان في هذه الدنيا من حقه أن يكون له كتابه المقدس مهما كانت ديانته‏,‏ وأن يكون له منديله الذي يحمل معه ذكريات جميلة تبعث في نفسه كل معاني الحب والحنان وانشراح الأرواح‏.‏
    ..........................
    *الأهرام ـ في 11/8/2002م.
    رد مع اقتباس  
     

  4. #28 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 27 ) بين طه حسين وتوفيق الحكيم وجبران:
    مقال لطه حسين يجعل من توفيق الحكيم نجما أدبيا بين يوم وليلة

    بقلم: رجاء النقاش
    .......................

    عندما مات جبران خليل جبران سنة 1931 عن ثمانية وأربعين عاما، كان توفيق الحكيم لا يزال مجهولا من الحياة الأدبية في مصر والعالم العربي، وكان الحكيم في الثالثة والثلاثين من عمره، ولم يسطع نجم توفيق الحكيم إلا بعد وفاة جبران بعامين، أي سنة 1933، وذلك عندما أصدر الحكيم مسرحيته "أهل الكهف" فتلقفها طه حسين في فرح وسعادة، ورحب بها ترحيبا واسعا، وأشاد بها إشادة كبيرة واعتبرها فتحا جديدا في الأدب العربي، ذلك أن الأدب العربي قبل ظهور "أهل الكهف" لم يكن قد عرف "فن الحوار" أو الفن الذي يمكن أن نسميه بالأدب المسرحي.
    كان هناك مسرح عربي ولكنه كان في معظمه قائما على الترجمة والاقتباس. ولم تكن لنصوص المسرح العربي قيمة أدبية خارج التمثيل فوق خشبة المسرح، ولكن توفيق الحكيم بمسرحيته "أهل الكهف" كان يقدم نصا كاملا قائما على حوار أدبي سليم ودقيق، ومقال طه حسين عن "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم تعتبر من المقالات النقدية المهمة في الأدب العربي المعاصر، لأن هذا المقال أحدث هزة كبيرة في الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي، وكان هو السبب الأول في شهرة توفيق الحكيم التي بدأت قوية ساطعة منذ اللحظة الأولى، فتوفيق الحكيم لم يكدح طويلا في سبيل النجاح الأدبي كما حدث مع نجيب محفوظ، فقد قضى نجيب محفوظ ما يقرب من عشرين سنة يكتب وينشر رواياته المختلفة، وهو يكاد يكون في الظل طيلة هذه السنوات العشرين، حيث لم يلمع اسمه إلا في أواخر الخمسينيات، وهو يكتب وينشر قصصه ورواياته منذ أواخر الثلاثينيات. أما توفيق الحكيم فقد ظهر منذ اللحظة الأولى نجما ساطعا، وأصبحت له شهرة واسعة بعد أن أصدر مسرحيته الأولى "أهل الكهف" والفضل في ذلك يعود إلى طه حسين وإلى نفوذه الأدبي لدى جماهير المثقفين، فعندما كتب طه حسين عن توفيق الحكيم بحماس شديد، أصبح توفيق الحكيم نجما، وأصبح واحدا من كتاب الصف الأول في الأدب العربي المعاصر منذ بدايته، ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم هو نموذج حي على تأثير "الناقد" في الحياة الأدبية وأذواق الناس، فعندما يكون الناقد صاحب كلمة مسموعة وموثوق بها، فإنه يستطيع أن يبني ويهدم، ويستطيع أن أن يخلق نجوما ويطفئ نجوما أخرى.
    وقد كان طه حسين عند أول ظهور لتوفيق الحكيم سنة 1933، هو هذا الناقد القوي، صاحب التأثير الواسع على الناس، وصاحب الكلمة المسموعة بينهم، ولعل هذه الحادثو الأدبية التاريخية تلفت النظر إلى أهمية "النقد" القوي المؤثر في حياتنا الأدبية، وفي حياة أي أدب آخر من آداب العالم، وبدون "الناقد" القوي الواعي الشجاع فإن الحياة الأدبية تفقد القيادة السليمة وتضيع منها أية رؤية واضحة.
    ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم منشور في كتابه "فصول في الأدب والنقد"، وأمامي منه طبعة "دار المعارف"، وليس للطبعة تاريخ مدون عليها، وهذا من أسوأ أخطاء الناشرين العرب، والتي لا يزال البعض يقع فيها حتى الآن، والسبب في ذلك هو سبب تجاري، فقد ييكون توزيع الكتاب بطيئا، وقد يستغرق توزيعه عدة سنوات، والناشر لا يريد أن يشعر القارئ الذي يشتري الكتاب بعد سنوات من صدوره أنه يشتري كتابا قديما، وقد كان الناشرون في الجيل الماضي مثل أصحاب "دار المعارف" معذورين لأن سوق الثقافة كانت محدودة، وتوزيع الكتب كان بطيئا، أما الآن فقد اتسع سوق الثقافة، بالإضافة إلى أن تسجيل تاريخ صدور الكتب هو واجب علمي وأمانة مفروضة على أساليب النشر السليمة، فلا معنى لإصرار بعض الناشرين على تجاهل تاريخ صدور الكتاب والنص عليه في كل طبعة.
    ونعود إلى مقال طه حسين الذي كشف الستار عن توفيق الحيكم وجعل منه نجما أدبيا بين يوم وليلة، لنجد طه حسين يتحدث عن مسرحية الحكيم الأولى "أهل الكهف" في فرح وحماس وتبشير بميلاد موهبة جديدة فيقول في أول مقاله "... أما قصة "أهل الكهف" فحادث ذو خطر. لا أقول في الأدب المصري وحده، بل في الأدب العربي كله، وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط، وأقول هذا مغتبطا به، مبتهجا له، وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول، إن فنا جديدا قد نشأ فيه وأضيف إليه، وإن بابا جديدا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة، ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن؟. نعم. هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصرا جديدا.
    ولست أزعم أنها قد برئت من كل عيب، بل سيكون لي مع الأستاذ توفيق الحكيم حساب لعله لا يخلو من بعض العسر، ولكنني على ذلك لا أتردد في أن أقول إنها أول قصة وضعت في الأدب العربي، ويمكن أن تسمى قصة تمثيلية، ويمكن ان يقال إنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له، ويمكن أن يقال إنها رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة، ويمكن أن يقال إن الذين يعنون بالأدب العربي من الأجانب سيقرأونها في إعجاب خالص لا عطف فيه ولا إشفاق ولا رحمة لطفولتنا الناشئة.
    بل يمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد الأدب الأجانب يستطيعون أن يقرأوها إن ترجمت لهم، فسيحدون فيها لذة قوية، وسيجدون فيها متاعا خصبا، وسيثنون عليها ثناء عذبا كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب والأوروبيين".
    هذا هو ما كتبه طه حسين في مقدمة مقاله عن توفيق الحكيم ومسرحيته الأولى "أهل الكهف"، وقد ظهر هذا المقال بعد نشر الطبعة الأولى من المسرحية سنة 1933، ونشره طه حسين في مجلة "الرسالة" في عددها التاسع الصادر بتاريخ 15 مايو سنة 1933، أي بعد أسابيع قليلة من صدور مسرحية "أهل الكهف"، ثم أعاد طه حسن نشره في كتابه "فصول في الأدب والنقد".
    هذا المقال النقدي الذي كتبه طه حسين هو الذي جعل توفيق الحكيم نجما أدبيا من أول خطوة له، وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن طه حسين قد وفر على توفيق الحكيم ما لايقل عن عشر سنوات من الجهد المتواصل لكي يصل إلى ما وصل إليه منذ بداية حياته الأدبية.
    ولا شك أن توفيق الحكيم كان شديد الذكاء والمهارة والدهاء، وذلك إلى جانب موهبته التي لا شك فيها. فتوفيق الحكيم لم يطبع مسرحته "أهل الكهف" طبعة شعبية عند صدورها لأول مرة، بل طبع منها ـ على نفقته ـ طبعة محدودة من ثلاثمائة نسخة فقط، وقام بإهدائها إلى طه حسين وغيره من كبار الأدباء والنقاد المعروفين في ذلك الوقت، أي أنه اتجه منذ البداية إلى أن يحصل على اعتراف النقاد به قبل أن يتوجه للجمهور العام، والطبعة الأولى من "أهل الكهف" مفقودة ولا يمكن العثور عليها حتى في "دار الكتب المصرية"، وكان من حسن الحظ أن وقعت في يدي نسخة من هذه الطبعة الأولى لـ"أهل الكهف"، أحتفظ بها وأعتبرها من الأشياء الثمينة التي أعتز بها. وبعد هذه الطبعة الأولى المحدودة، أصدر توفيق الحكيم طبعة شعبية لقيت نجاحا واسعا بعد أن أشاد بها طه حسين ولفت الأنظار إليها، وإلى كاتبها الجديد.
    من ناحية أخرى فإن توفيق الحكيم كان من عادته التي ملازمة له حتى وفاته سنة 1987 أن يكتب مؤلفاته ويحتفظ بها لنفسه، ثم ينشرها عندما يرى الأجواء مناسبة لنشرها. ولذلك فعندما أصدر "أهل الكهف" ولقيت النجاح الذي كان يرجوه، سارع بإصدار روايته الجميلة المعروفة "عودة الروح" في نفس العام، أي سنة 1933، ثم أصدر مسرحيته النثانية "شهر زاد" سنة 1934، وتوالت أعماله الأدبية بعد ذلك دون توقف.
    وقد ساعد هذا كله على تدعيم نجاحه، وتوسيع قاعدة شهرته والاهتمام به من جانب القراء والنقاد. وقد بقي توفيق الحكيم على عادته هذه حتى البنهاية، فكان يكتب أولا ويحتفظ بكتاباته ولا ينشرها بعد الانتهاء منها مباشرة، بل يختار التوقيت المناسب لنشرها وتقديمها إلى الناس، فقد كان يحرص دائما على أن تكون له "مدخرات أدبية" كثيرة ويحرص أن ينفق هذه المدخرات، أي ينشرها بحساب شديد للذوق السائد واللحظة المناسبة والفرصة الصحيحة لخلق التأثير الذي يريده لأعماله. ولم يكن توفيق الحكيم مثل غيره من الأدباء والكتاب الذين يعتبرون تعود معظمهم على نشر ما يكتبونه فور الانتهاء منه.
    ولا أريد أن أترك الحديث عن مقال طه حسين الذي كان السبب الأول في شهرة توفيق الحكيم السريعة، دون أن أتوقف أمام ملاحظتين هامتين أثارهما طه حسين في مقاله عن توفيق الحكيم حيث قال:
    "... ولكن! وما أكثر أسفي للكن هذه! وما أشد ما أحببت ألا أحتاج إلى إملائها. ولكن في القصة، أي "أهل الكهف"، عيبان: أحدهما سوءني حقا، ومهما ألوم فيه الكاتب فلن أؤدي إليه حقه من اللوم، وهو هذا الخطأ المنكر في اللغة، هذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يتورط فيه كاتب ما، فضلا عن كاتب كالأستاذ توفيق الحكيم قد فتح في الأدب العربي فتحا جديدا لا سبيل إلى الشك فيه، وأنا أكبر الأستاذ، وأكبر قصته عن أن أقف عند هذه الأغلاط القبيحة التي يمس بعضها جوهر اللغة، ويمس بعضها النحو والصرف، ويمس بعضها الأسلوب وتركيب الجمل.
    ولا أتردد في أن أكون قاسيا عنيفا، وفي أن أطلب إلى الأستاذ في شدة أن يلغي طبعته هذه الجميلة، وأن يعيد طبع القصة مرة أخرى بعد أن يصلح ما فيها من أغلاط. وأنا سعيد أن اتولى عنه هذا الإصلاح إن أراد، ولعل ما سيتكلفه من الطبعة الثانية خليق أن يعظه وأن يضطره إلى أن يستوثق من صوابه اللغوي فيما يكتب قبل أن يذيعه على الناس.
    أما العيب الثاني فله خطره ولكنه على ذلك يسير، لأن القصة هي الأولى من نوعها، كما يقولون. هذا العيب يتصل بالتمثيل نفسه، فقد غلبت الفلسفة وغلب الشعر على الكاتب حتى نسي أن للنظارة "أي المشاهدين" حقوقا يجب أن تراعى، فأطال في بعض المواضع، وكان يجب أن يوجز، وفصل في بعض المواضع وكان يجب أن يجمل، وتعمق في بعض المواضع وكان ينبغي أن أن يكتفي بالإشارة ولعله يوافقني على أن من الكثير على النظارة "المشاهدين" أن يستمعوا في الملعب "أي المسرح" لهذه الاقصة الجميلة جدا، الطويلة جدا، التي تقصها "بريسكا" على "غالياس" وهي تودعه وقد اعتزمت أن تموت في الكهف مع عشيقها القديس.
    هذا العيب خطير لأنه يجعل القصة خليقة أن قرأ لا أن تمثل، وأنا حريص أشد الحرص على أن تمثل هذه القصة، وأثق أشد الثقة بأن تمثيلها سيضع الأستاذ على ما فيها من عيب فني، وسيمكنه من اتقاء هذا العيب في قصصه الأخرى، ومن إصلاحه في هذه القصة".
    هذان العيبان اللذان أشار إليهما طه حسين في مقاله الهام عن توفيق الحكيم، أما العيب الأول، وهو الأخطاء اللغوية، فقد تخلص منه توفيق الحكيم في الطبعة الثانية الشعبية لمسرحية "أهل الكهف"، وتخلص منه نهائيا بعد ذلك في أعماله التالية، فقد أصبح توفيق الحكيم من كبار العارفين بأصول اللغة العربية، ومن الذين يحرصون على الصواب والدقة فيها، وقد ساعد ذلك على أن يحتل توفيق الحكيم مكانته الأدبية العالية، فهو صاحب أسلوب سهل ناعم ولعله عند دراسة أساليب أدباء الجيل الماضي يكون صاحب أجمل وأبسط الأساليب بين هؤلاء الأدباء جميعا بمن فيهم طه حسين، وعندما أضاف توفيق الحكيم إلى موهبته الرفيعة في الأسلوب البسيط الجميل الذي يتميز بالإيقاع السريع والذي لا يفرض على القارئ لحظة ملل واحدة.
    عندما أضاف توفيق الحكيم إلى هذه الموهبة العالية في الأسلوب دقة لغته، أصبح الحكيم في المقدمة من أصحاب الأساليب الخاصة المتميزة في الأدب العربي المعاصر، بل في الأدب العربي كله منذ نشأته إلى اليوم.
    أما العيب الثاني الذي أشار إليه طه حسين، وهو أن مسرحيات توفيق الحكيم يمكن أن تصبح قابلة للقراءة وغير قابلة للتمثيل، فهو عيب أساسي ظل يلاحق أعمال توفيق الحكيم المسرحية حتى نهاية حياته، وقد حاول توفيق الحكيم أن يجد لذلك العيب مخرجا في اصطلاح فني هو اصطلاح "المسرح الذهني"، وهو اصطلاح ذكي، ولكنه لم يستطع أن ينقذ أعمال توفيق الحكيم المسرحية من "المأزق" الذي نبهه إليه طه حسين منذ البداية. فقد كانت أعمال مسرحية كثيرة لتوفيق الحكيم تستعصى على تقديمها فوق خشبة المسرح، لإفراطها في الحوار النظري، وعدم توفيرها للحداث الضروريةالجذابة المتماسكة التي يمكن أن تمسك بالمشاهدين من بداية العرض المسرحي حتى نهايته.
    وفي بعض الأحيان تبدو مسرحيات توفيق نوعا من التفكير الخالص مثلها في ذلك مثل "محاورات أفلاطون"، وهي محاورات فلسفية ذهنية لا يمكن تقديمها على المسرح، وقد حاول توفيق الحكيم ان يتخلص من هذا العيب الأساسي في مسرحياته المختلفة، فنجح أحيانا مثلما نجد في مسرحية "السلطان الحائر" ومسرحية "الصفقة" ومسرحية "الأيدي الناعمة"، ولكنه في كثير من من مسرحياته الأخرى ظل محصورا في مجال "المسرح الذهني" الذي يمكن قراءته ويصعب تمثيله على المسرح كما هو الحال في مسرحية "شهرزاد" ومسرحية "سليمان الحكيم" ومسرحية "بجماليون" وغيرها من مسرحيات توفيق الحكيم.
    ولا شك أن ملاحظة طه حسين حول مسرحية "أهل الكهف" كانت دقيقة وخطيرة، ولو التفت إليها توفيق الحكيم بدرجة كافية من العناية، كما التقت إلى أخطائه اللغوية، لتغير الوضع الراهن لمسرح توفيق الحكيم، ولأصبح هذا المسرح كله قابلا للتمثيل، لا ببقراءة فقط، وللأسف فإن النسبة الأكبر من مسرح توفيق الحكيم غير قابلة للتمثيل، أما ما هو قابل للتمثيل من مسرحياته فهو نسبة أقل من المسرحيات الفكرية التي تقوم على الحوار الفلسفي الجميل الممتع، وتخلو من الأحداث المتماسكة الجذابة، والتي هي شرط أساسي للنجاح فوق خشبة المسرح.
    على ان توفيق الحكيم رغم ذلك كله يبقى واحدا من أكبر وأعظم الأدباء العرب في كل العصور، فهو لم يكن كاتبا مسرحيا فقط، بل كان روائيا، وناقدا، ومفكرا ساسيا، وكاتب مقال من الدرجة الأولى، وهو صاحب أسلوب متميز يبدو لي أفضل من أسلوب بين أدباء الجيل الماضي، بل وأرقاها وأبسطها وأجملها في الأدب العربي كله.
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  5. #29 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    هذا بعض ما كان بين توفيق الحكيم وطه حسين، فماذا كان بين توفيق الحكيم وحبران؟
    في 15 مايو سنة 1935 نشرت مجلة "مجلتي" التي كان يصدرها الأديب والصحفي المعروف أحمد الصاوي محمد مسرحية من فصل واحد لتوفيق الحكيم تحت عنوان "نهر الجنون"، وبعد أقل من شهر، وبالتحديد في 11 فيراير 1935، نشرت مجلة "الرسالة" مقالا عنوانه "إلى الأستاذ توفيق الحكيم ـ سياحة في نهر الجنون ـ هل هناك اقتياس..؟!"، وكاتب هذا المقال ذي العنوان الطويل هو أديب لم يصادفني اسمه بعد ذلك أبدا، ولم أقرأ له شيئا غير هذا المقال، وهو أديب اسمه "جورج وغريس" من الإسكندرية. وربما كان هذا الاسم اسما مستعارا لأديب من أدباء الإسكندرية، وربما كان أديبا من الأدباء ذوي الأصل الشامي الذين كانوا يعيشون في الإسكندرية في ذلك الوقت ومنهم خليل شيبوب وشقيقة صديق شيبوب وفيلكس فارس وغيرهم، والذي يرجح عندي أنه أديب شامي هو أنه يقارن في مقاله بين عملين لتوفيق الحكيم وجبران خليل جبران، ولم يكن جبران معروفا في تلك الفترة على نطاق واسع بين الأدباء المصريين، رغم أن شهرته بين ادباء الشام كانت واسعة، أما لماذا أتصور أنه اسم مستعار فلأنني لم أقرأ لصاحب هذا الاسم شيئا سوى هذا المقال الجيد، وربما كان تصوري خاطئا.
    يقول كاتب المقال:
    "ليعذرني الأستاذ توفيق الحكيم إن أردت أن أقوم بسياحة قصيرة في "نهر الجنون"، ذلك النهر الرهيب الذي شاء الأستاذ أن يتدفق ماؤه من قطرات قلمه على صحائف إحدى عشرة من "مجلتي" الغراء في العدد الرابع منها الصادر في منتصف يناير الماضي 1935، والحق أنني لا أخشى أن أصاب بالجنون إن قمت بسياحة قصيرة في ذلك النهر أو انتهلت جرعة من مائه، فليس أحب إلى نفسي من أن ترشف من فيض ذلك القلم العذب الذي يذكرنا بصاحب "أهل الكهف" و"شهرزاد" و"عودة الروح". و"نهر الجنون" الذي خطر لي أن اكتب عنه هو عنوان لقصة تمثيلية طريفة من فصل واحد تناولها الأستاذ الحكيم في حوار لطيف، وتتلخص وقائع تلك القصة في أنه في قديم الزمان كان يجري في بلاد نائية نهر يشرب منه سكان تلك الجهة، ففي إحدى الليالي نقمت الطبيعة على ذلك النهر، فأرسلت أفاعيها تسكب سمومها في مائه فإذا به في لون الليل، ويرى الملك كل ذلك في رؤيا هائلة، ويسمع من يهتف به: "حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون..." فيمتنع الملك هو ووزيره عن الشرب من ماء النهر، فإذا بهما في تمام قواهما العقلية، أما الملكة وسائر أفراد الشعب فإنهم يتعافتون على الماء ويستقون منه فيصيب عقولهم مس من الجنون".
    ويستمر الكاتب في تلخيص مسرحية "نهر الجنون" لتوفيق الحكيم والتي تنتهي بأن يضطر الملك ووزيره للشرب من نهر الجنون ليكونا مثل بقية أفراد الشعب، بعد أن كان الشعب يتهمهما ـ وهما العاقلان الوحيدان في البلاد ـ بأنهما المجانين. ومسرحية توفيق الحكيم تنتهي بهذا الحوار بين الملك ووزيره:
    الوزير: أجل يا مولاي! وإنه لمن الخير أن تعيش الملكة والناس في تفاهم وصفاء ولو منحت عقلك من أجل هذا ثمنا.
    الملك: (في تفكير) نعم. إن في هذا كل الخير لي. إن الجنون يعطيني رغد العيش مع الملكة والناس كما تقول. وأما العقل فماذا يعطيني..؟
    الوزير: لا شيء.. إنه يحعلك منبوذا من الجميع، مجنونا في نظر الجميع.
    الملك: إذن فمن الجنون ألا اختار الجنون؟
    الوزير: هذا عين ما أقول.
    الملك: بل إنه لمن العقل أن أؤثر الجنون.
    الوزير: هذا لا ريب عندي فيه.
    الملك: ما الفرق إذن بين العقل والجنون؟
    الوزير: (وقد بوغت) انتظر.. (يفكر لحظة) لست أتبين فرقا.
    الملك: (في عجلة) إليّ بكأس من ماء النهر.
    وهكذا يشرب الملك ووزيره من "نهر الجنون" ويصبحان من المجانين مثل الملكة وسائر أبناء الشعب. ويقول كاتب المقال بعد أن لخص مسرحية توفيق الحكيم وقدم جزءا من الحوار الذي دار بين الملك ووزيره:
    "... هذا مجمل القصة، والجزء المهم من الحوار الذي دار بين الملك ووزيره، وانتهيا منه بأن العقل لا يغنيهما شيئا في مملكة من المجانين، لذلك آثرا أن يكونا منهم. وموضوع القصة ـ كما نرى ـ طريف وليس في هذا مجال لشك أو موضع لغرابة، ولكن مما استرعى نظري أنني كنت أقرأ بدايتها قراءة الشاعر بما سيحدث في نهايتها، فما أتيت على آخرها ظللت أفكر فيمن سمعت او قرأت عنه تلك القصة، حتى هداني التفكير إلى كتاب "المجنون" للمرحوم جبران خليل جبران، فعثرت فيه على قصة قصيرة تحت عنوان "الملك الحكيم".. ثم يقدم الكاتب نص قصة جبران، وهي قصة فصيرة جدا، لذلك فلا بأس من ان نقدم نصها هنا. يقول جبران في قصته:
    "كان في إحدى القرى النائية ملك جبار حكيم، وكان مخوفا لجبروته، محبوبا لحكمته، وكان في وسط تلك المدينة بئر ماء نقي عذب يشرب منه جميع سكان المدينة، من الملك وأعوانه فما دون، لأنه لم يكن في المدينة سواه "أي البئر"، وفيما الناس نيام في إحدى الليالي جاءت ساحرة إلى المدينة خلسة، وألقت في البئر سبع نقاط من سائل غريب، وقالت: "كل من يشرب من هذا الماء فيما بعد يصير مجنونا، وفي الصباح شرب كل سكان المدينة من ماء البئر، وأصبحوا مجانين على نحو ما قالت الساحرة، ولكن الملك ووزيره لم يشربا من ذلك الماء. وعندما بلغ الخبر آذان المدينة طاف سكانها من حي إلى حي، ومن زقاق إلى زقاق قائلي:"قد جن ملكنا ووزيره، إم مكلنا ووزيره قد أضاعا رشدهما. وفي ذلك المساء سمع الملك بما جرى، فأمر على الفور بملء حق ذهبي، كان قد ورثه عن أجداده، من مياه البئر، فملأوه في الحال وأحضروه إليه، فأخذه الملك بيده وأداره على فمه، وبعد أن ارتوى من مائه، دفعه إلى وزيره فأتى الوزير على بقيته، فعرف سكان المدينة بذلك، وفرحوا فرحا عظيما جدا، لأن ملكهم ووزيره ثابا إلى رشدهما".
    وبعد أن أورد الكاتب نص قصة جبران القصيرة قال:
    "فما رأي القارئ اللبيب في هذا؟.. أليس هناك تشابه تام بين القصتين في الفكرة والمعنى والأشخاص وفي بعض الألفاظ؟.. إني مع احترامي الشديد وتقديري العظيم للكاتب الفنان توفيق الحكيم أرى في ذلك أحد أمرين: إما أن تكون فكرت توفيق الحكيم ماخوذة مما كتبه المرحوم جبران خليل جبران، وليس في هذا حرج، ولكنه كان الأجدر بالكاتب توفيق الحكيم أن يذكر اسم المؤلف الذي أخذ عنه تلك الفكرة، وله بعد ذلك الفضل في تقريبها إلى الأذهان بصوغها في قالبه الخاص الرائع، وفي تحويرها من حكاية قصصية إلى قصة تمثيلية، وإما أن يكون ذلك من قبيل توارد الخواطر وتشابه الأفكار بين كاتبين مختلفين في زمنين متقاربين، وليس في هذا أيضا من حرج.. ولكن دعني ألا أعتقد به هنا قبل أن تأتيني بجرعة من ماء ذلك النهر في حق من ذهب أو إناء من خزف".
    ومعنى هذا التلميح الأخير في مقال الكاتب أن لا يعتقد في أن المسألة توارد خواطر، وأن القضية في حقيقتها هي اقتباس صريح، أو سرقة من جانب توفيق الحكيم لقصة جبران خليل جبران.. وإن كان من باب التهذيب والتعفف لم يذكر كلمة السرقة.
    وقد علقت مجلة "الرسالة" على مقال الكاتب بعبارة قالت فيها "... هناك فرض ثالث وهو أن يكون مصدر الكاتبين واحدا".
    وبعد أسبوع من ظهور المقال في مجلة "الرسالة" كتب توفيق الحكيم تعليقا نشرته المجلة في عددها التالي رقم 85 والصادر بتاريخ 18 فبراير سنة 1935، وفي هذا التعليق يقول توفيق الحكيم:
    "قرأت في العدد الأخير من مجلة "الرسالة" الغراء كلمة لأديب فاضل عن فكرة "نهر الجنون" وتماثلها مع فكرة قطعة نثرية لجبران خليل جبران. وقد حار الأديب علة هذا التشابه، وافترض بعض الفروض، وعقبت الرسالة بفرض قريب من الحقيقة. وردا على ذلك أقول إني سمعت عن هذه القصة لأول مرة منذ نيف وعشرين سنة، وقد وجدتها شائعة على الألسن كغيرها من الأساطير، ولا ريب عندي أن جبران خليل جبران لم يخترع هذه القصة اختراعا، وإنما كتبها كما سمعها من الناس. ومثل هذه الساطير ما ابتدعها كاتب، وإنما نبتت من قديم الزمان بين الشعوب والأجناس كأكثر النوادر والحكم والأمثال. وإني لم أكن أعلم قط قبل اطلاعي على عدد الرسالة الأخير أن أحدا من الكتاب والشعراء قد تناول من قبل هذه الأسطورة ولم يصل إليّ خبرها عن طريق شيء مكتوب، وإنما عن طريق أفواه الناس".
    ذلك ما كتبه توفيق الحكيم دفاعا عن نفسه ضد اتهامه بالاقتباس أو السرقة من جبران خليل جبرا، والحقيقة أن التشابه بين مسرحية "نهر الجنون" لتوفيق الحكيم وقصة جبران هو تشابه واضح لا يستطيع أن يجادل فيه أحد بالإضافة إلى أن جبران كتب قصته قبل أن يكتب الحكيم مسرحيته "نهر الجنون" بسنوات طويلة، مما جعل الشبهة في الاقتباس أو السرقة قائمة، ولكن دفاع توفيق الحكيم عن نفسه معقول، ويمكن الاقتناع به، فقصة "نهر الجنون" هي أسطورة شعبية قديمة تنتقل بين الناس من جيل إلى جيل، فالمادة القصصية موجودة قبل أن يكتبها جبران او توفيق الحيكم، ويبدو لي أن توفيق الحكيم كان صادقا في حجته أو دفاعه عن نفسه، فأعمال جبران لم تكن منتشرة في مصر في تلك السنوات الأولى من الثلاثينيات، كما أشرت من قبل، والمصريون لم يعرفوا أعمال جبران معرفة واسعو إلا بعد ذلك بسنوات طويلةن كما أن أي بحث أدبي منصف يؤكد أن الأصل في القصة هو الأسطورة الشعبية المنتشرة بين الناس، والتي لا تختلف في تفاصيلها القصصية عما ورد في مسرحية الحكيم أو قصة جبران.
    وهكذا نجا توفيق الحكيم من تهمة الاقتياس أو السرقة. ولكن الطريف في الأمر أن توفيق الحكيم ظل طيلة حياته يعاني من تهمتن، أما التهمة الأولى فهي التي أشار إليها طه حسين في مقاله الذي كان سببا في أول أضواء يتم تسليطها على توفيق الحكيم وهي تهمة "المسرح الذهني" الذي يصلح للقراءة أكثر مما يصلح للتمثيل، أما التهمة الثانية فهي تلك التهمة التي وجهها إليه الأديب الإسكندراني المجهول "جورج وغريس"، والذي ما زلت أظن أنه اسم مستعار لأديب آخر من أدباء الشام المقيمين في الإسكندرية في تلك الفترة، والذين كانوا على معرفة واسعة بجبران وأدبه، وأقصد بهذه التهمة الثانية الموجهة إلى توفيق الحكيم: تهمة الاقتباس والتي حاول بعض النقاد أن يجعل منها نوعا من السرقة الأدبية الصريحة، فقد اتهمه بعض النقاد بأنه اقتبس روايته المعروفة الجميلة "الرباط المقدس" من رواية "أناتول فرانس"، وأنه اقتبس كتابيه "حمار الحكيم" و"حماري قال لي" من كتابات الكاتب الإسباني "خيمنيز".. وهناك اتهامات أخرى عديدة من هذا النوع، ولا تزال هاتان التهمتان معلقتين على رقبة توفيق الحكيم إلى اليوم وهما موضع دراسات عديدة، بعضها ينفي وبعضها يثبت.
    على أن ذلك كله لا يمنع من القول بأن توفيق الحكيم (1898ـ1987) كان صفحة جديدة مشرقة من صفحات الأدب العربي في القرن العشرين، وكان نموذجا لعبقرية أدبية متنوعة الجوانب، قادرة على أن تبقى حية ومؤثرة في هذا الجيل وفي كل الأجيال القادمة، ويكفي أن نعيد هنا ما قلناه في البداية من ان توفيق الحكيم صاحب أسلوب من أجمل الأساليب التي عرفها الأدب، إن لم يكن أجملها على الإطلاق.
    ــــــــــــــــــــــــ
    مجلة "الوطن العربي" ـ العدد 1183 ـ 5/11/ 1999
    رد مع اقتباس  
     

  6. #30 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 28 ) من المحرر:
    أستاذ رجاء النقاش.. شكراً!

    بقلم: محمد جبريل
    .....................

    لم أعرف بحفل تكريم الناقد الكبير رجاء النقاش في نقابة الصحفيين إلا من وسائل الإعلام.
    من حق رجاء النقاش. ومن واجبي. أن اتحدث عن إسهامه الإيجابي في حياتنا الثقافية. لا كناقد فحسب. وإنما كمكتشف للطاقات الإبداعية الحقيقية.
    كان النقاش أول من قدم الطيب صالح إلي قراء العربية. قرأ موسم الهجرة إلي الشمال. وجد فيها عملاً متميزاً. فلم يكتف بنشرها في روايات الهلال التي كان يرأس تحريرها. لكنه قدم لها بدراسة مطولة تبين عن جوانب التفوق. بما أتاح لمؤلفها أن يحصل علي المكانة التي يستحقها.
    الدور نفسه قام به النقاش لشعراء الأرض المحتلة. سلط الضوء علي إبداعاتهم من خلال دراسات متعمقة.
    وأذكر أن النقاش قدم لمبدع من أجمل أدباء الستينيات وأصدقهم موهبة. هو أحمد هاشم الشريف. لم يقصر مجلة الكواكب علي أخبار المغنيين والممثلين والراقصات. بل خصص جزءاً منها لإبداعات الأدباء.. أليسوا فنانين؟
    كان تقديمه لأحمد هاشم الشريف في هذا الإطار. ولا زلت أذكر كلماته المتحمسة التي تبشر بميلاد مبدع حقيقي وموهوب. وإذا كان الشريف قد أهمل فن القصة الذي قدم فيه محاولات جميلة لحساب الخواطر الصحفية فإن النقاش ظل علي حرصه في تقديم من يراهم جديرين بذلك.
    بالنسبة لي. فقد زارني الصديق الشاعر أحمد هريدي يوماً. عرض باسم النقاش أن أنشر كتابات لي في جريدة خليجية كان النقاش يشرف علي قسمها الثقافي. كانت لقاءاتي بالنقاش محدودة بحيث يصعب نسبتها إلي الصداقة. لكنه كرر عرضه شخصياً. ونشر لي بالفعل ماقدمته له.
    وحين كان النقاش يعد لإصدار مجلة ثقافية في مستوي قومي. نقل لي الصديقان طلعت الشايب وحسين عيد عرض النقاش بأن أنشر فيها كتاباتي. وقدمت إلي المجلة المشروع دراسة مطولة بعنوان "نعم. مصر هي بيت أبي". وقلت للصديقين الشايب وعيد: إذا نشرت هذه الدراسة دون حذف فستكون هي البداية. وفوجئت بأن النقاش جعل الدراسة التي ناقشت وأدانت. أولي مواد العدد الصفر من المجلة. مامثل إلغاء لتصوري أنه ربما يجد فيها مايحول دون نشرها في مجلة حكومية لم تبدأ خطواتها بعد. وانتظرت نشر مقالات أخري في الأعداد التالية. لكن النقاش ترك رئاسة تحرير القاهرة في ظروف لا أعرفها. وطلبت استعادة ماقدمته إلي القاهرة باعتبار أنه كان استجابة لعرض منه.
    أمثلة أخري كثيرة تخص الآخرين وتخصني تؤكد الدور الريادي الذي أضاء به رجاء النقاش جوانب حياتنا الثقافية. بداية من الكلمة الناقدة المسئولة. إلي رعاية كل الطاقات المبدعة التي يري أنها بعض دوره.
    أستاذ رجاء النقاش.. شكراً!
    ..................................
    *المساء ـ في 2/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  7. #31 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 29 ) رجاء النقاش .. مكتشف المواهب

    بقلم : سعد هجرس
    .............................

    عندما كان أستاذنا الدكتور لويس عوض هو المشرف على الصفحات الثقافية بجريدة "الأهرام" فى الستينيات، بزغ نجم محرر ثقافى نابه فى ذلك الوقت هو مصطفى ابراهيم مصطفى الذى لفت الأنظار بمقالاته البديعة وخاصة تلك التى كتبها عن الفن التشكيلى.
    وكان "مصطفى" هو الذى عرفنى عام 1966 بزميل له لا يقل ذكاء وموهبة هو وحيد النقاش.
    وجاءت هزيمة 5 يونيه 1967 لتصدم جيلنا – الذى كان لا يزال غضاً فى عمر الزهور ومشحوناً بأمنيات وردية لا حدود لها – وتهزه من الأعماق.
    وفى إطار تداعيات هذه الهزيمة المروعة قرر مصطفى ابراهيم مصطفى ووحيد النقاش شد الرحال والسفر من القاهرة التى غمرها ظلام "النكسة" إلى باريس عاصمة النور، ليس هرباً وإنما أملاً فى التوصل إلى إجابات علمية لطوفان الأسئلة التى طرحتها هذه الهزيمة غير المنطقية.
    لكنها كانت رحلة فى اتجاه واحد .. فقد ذهبا بلا عودة. حيث مات "وحيد" فى أحد مستشفيات باريس، وعلى نفس السرير وبنفس المرض اللعين الذى هاجم الكبد لفظ مصطفى ابراهيم مصطفى – الذى اشتهر فى الصحافة الفرنسية بمصطفى مرجان – لفظ أنفاسه الأخيرة لتفقد مصر اثنين من أجمل مثقفيها الوافدين.
    كانت هذه هى بداية تعرف الشخص بأول شخص من "آل النقاش" الذين أسعدنى الحظ بالتعرف على ثلاثة منهم. . ومنهن.
    لكن العجيب أن ذلك لم يشمل "عميد" الأسرة، وألمع أفرادها فى الستينيات، ألا وهو الكاتب والناقد الأدبى الكبير رجاء النقاش.
    ولم يكن ذلك راجعاً إلى صعوبة لقائه وجهاً لوجه، بقدر ما كان راجعاً إلى المكانة الكبيرة التى تبوأها فى ذلك الحين باعتباره واحداً من أصغر رؤساء التحرير، وهو منصب لا يتم التعيين فيه إلا بقرار سياسى من أعلى مستوى.
    وبالتالى كانت النظرة الشائعة لدى المثقفين الثوريين فى ذلك الحين ان كل من يشغل منصب رئيس تحرير لابد أن يكون على "علاقة خاصة" بالسلطة.
    وقد خلق ذلك الانطباع حاجزاً نفسياً بيننا وبين كل رؤساء التحرير، بما فى ذلك "التقدميون" منهم، الذين كان من السهل – والاستسهال – تفسير وجودهم فى هذه المواقع القيادية بأنه من لزوميات "تجميل" صورة النظام وخداع خلق الله، وبالذات عموم المثقفين.
    وبالنسبة لعميد " آل النقاش"، أى الأستاذ رجاء، أضيف إلى هذا الحاجز النفسى "العام" حاجزاً نفسياً "خاصاً" من جراء إتهام صديقنا الشاعر أحمد فؤاد نجم، ورفيقه الشيخ إمام عيسى، له باتهامات شتى كان لها وقع سيئ علينا فى ذلك الحين، خصوصاً وأنه لم تكن هناك إمكانية التدقيق فى هذه الاتهامات، أو حتى الرغبة فى القيام بذلك.
    فرغم أن رجاء النقاش كان أحد أفراد قلائل بذلوا مساعيهم الحميدة لتسليط الأضواء على ظاهرة نجم وإمام فى ذلك الحين وتقديمهم للجمهور من خلال حفل فى نقابة الصحفيين عام 1968، فان الشيخ إمام أتهم محمد فايق ومحمد عروق بمحاولة رشوتهما عن طريق رجاء النقاش، وقال إن عروق عرض عليه هو ونجم شيكات قيمة كل منها عشرة آلاف جنيه، وأنهما اعتبرا هذه الشيكات رشوة صريحة "أنتم عايزين تشترونا .. بس احنا ما نتبعش".
    ورغم ان رجاء النقاش أكد أن هذه القصة كاذبة من الألف إلى الياء، وتنطوى على إساءة إلى شخصين من أشرف وأنبل الأشخاص هما محمد فايق ومحمد عروق، وأنه كان شاهداً أساسيا على القصة الملفقة وأن الشيك الذى صرف لهما هو 50 جنيها فقط نظير الاشتراك فى برنامج خاص بإذاعة صوت العرب.
    رغم ذلك .. كانت الاتهامات التى أثارها نجم وإمام فى ذلك الحين سحابة دخان زادت من عدم وضوح الرؤية لقيمة رجاء النقاش ( وبالمناسبة فان نجم جدد هذه الاتهامات فى لقاء حديث له مع قناة الجزيرة وأضاف إليها اتهاما قاسياً للأستاذ رجاء النقاش بأنه كان وراء القبض عليه فى أيدى مرات اعتقاله).
    وفى ظل هذه الرؤية الضبابية كان لقائى الأول وجهاً لوجه مع الأستاذ رجاء النقاش مصادفة عجيبة. حيث كان هناك موعداً بينى وبين أحد قادة اليسار المصرى، المناضل الكبير رجائى طنطاوى. وكانت هذه أول مرة أذهب إليه فى منزله بالقرب من نادى الصيد. وعند مدخل العمارة سألنى البواب عن وجهتى .. فقلت له إننى أريد الذهاب إلى شقة الأستاذ "رجائى" فأخذنى من يدى ودق جرس إحدى الشقق، وكان الذى فتح الباب هو رجاء النقاش وهى مصادفة عجيبة لأن إسم "رجاء" من الأسماء النادرة، فما بالك وأن يجتمع "رجاء" و "رجائى" فى نفس العمارة؟!
    وبعد هذه المقابلة التى جاءت عن طريق الخطأ مر أكثر من 35 عاماً إلى أن قابلت الكاتب الكبير رجاء النقاش منذ بضعة أسابيع فى لقاء عام ضم عدداً من كبار الكتاب أذكر منهم الأساتذة جمال بدوى ونبيل زكى ورءوف توفيق.
    وبين المقابلتين الشخصيتين العابرتين جرت مياه كثيرة فى النهر وتوالت أحداث وطرأت متغيرات وظهرت أسماء واندثرت أسماء وغير كتاب وصحفيون جلودهم، لكن وسط هذه التطورات الدراماتيكية دائما والتراجيدية كثيراً والكوميدية أحياناً تعرفت جيداً على رجاء النقاش ومن خلال كتاباته وليس من خلال أى شئ آخر من أشكال العلاقات العامة أو الخاصة.
    وكانت الانجازات الفكرية والأدبية لرجاء النقاش هى التى تكفلت بتحطيم الحاجز العام والحاجز الخاص اللذين وقفا دون اقترابى من عميد آل النقاش فترة طويلة.
    فرغم نجاة رجاء النقاش من البطش الذى لحق بمعظم المثقفين التقدميين فى الحقبة الناصرية، بل ونجاحه فى التمتع "بعلاقات خاصة" مع الحكم بينما كان زملاؤه قابعين فى غياهب السجون والمعتقلات، استطاع رجاء النقاش أن ينأى بنفسه – فى الأغلب الأعم – عن التحول إلى "بوق"، أو الوقوع فى مستنقع "خونة الثقافة".
    بالعكس من ذلك عكف رجاء النقاش فى كافة العصور التى تعاقبت على مصر بعد سقوط النظام الملكى على مشروع نقدى ، تنويرى، تقدمى ، فى الاتجاه العام.
    ويكفى الاشارة برءوس أسهم إلى أهم عناوين هذا المشروع النقدى:
    الملمح الأول دخول رجاء النقاش بشجاعة إلى عش الدبابير حيث طالب بالاصلاح الدينى وتحرير القرآن من قيود عديدة.
    وتساءل بهذا الصدد كيف يمكن أن ننظر للقرآن نظرة عصرية؟!
    ورد على هذا السؤال الخطير بإجابة رائعة قال فيها بالنص:
    علينا أن نحدد هذه القيود ثم نعمل بعد ذلك على تحرير القرآن منها حتى ولو أدّى بنا الأمر إلى تحقيق ثورة دينية مثل تلك الثورة التي قادها (لوثر) في عالم المسيحية الغربية وكانت هذه الثورة هي الحركة (البروتستانتية) المعروفة!
    فما هي هذه القيود التي ندعو إلى التحرر منها؟
    هناك قيود شكلية من بينها الإصرار على عدم كتابة مصحف بالخط العصري المعروف، والإصرار على أن تكون كل المصاحف مكتوبة بالخط القديم مما يشكل عقبة رئيسية أمام كل الأجيال الجديدة التي تريد أن تقرأ فتجد في كتابته عناء شديداً قد يؤدي إلى صرفها عن هذه القراءة نهائياً.
    ففي المصاحف الحالية نقرأ هذه الكلمات:
    (الصرط) بدلاً من (الصراط) و (الصلوة) بدلاً من (الصلاة) و (الزكوة) بدلاً من (الزكاة) و (أبصرهم) بدلاً من (أبصارهم) و (ظلمت) بدلاً من (ظلمات) و (السموات) بدلاً من (السماوات) و (جنت) بدلاً من (جنات)... إلخ.
    إن من واجبنا ولا شك أن نحتفظ بالمصحف القديم بخطه المعروف، فذلك أثر عزيز من آثارنا لا يجوز أن نهمل في المحافظة عليه، ولكن يجب أن تكون لدينا (الشجاعة الدينية) الكافية لكي نطبع مصحفاً خالياً من هذه الحروف التي تجعل قراءته صعبة ومستحيلة إلا عند المتخصصين في قراءة القرآن، ونحن نريد أن يقره في بلادنا كل المتعلمين وأن تقرأه الأجيال الجديدة على وجه الخصوص دون أن يجدوا في هذه القراءة كل المشقة التي يحسون بها الآن. وليس هناك أي نص ديني مقدس يحرمنا من الإقدام على مثل هذه الخطوة.. بل إن روح الدين تتمثل في ((أن الدين يسر لا عسر)) وكل ما ييسر الدين بدون الخروج على جوهر مبادئه أمر مطلوب. إننا إذا أردنا أن نجعل هناك صلة حقيقية بين القرآن وأجيالنا الجديدة فلابد من أن نقدم على مثل هذه الخطوة بلا تردد.
    ... هناك عقبة أخرى هي انعدام وجود تفسير عصرى سهل للقرآن. ونحن بأشد الحاجة إلى مثل هذا التفسير الذي يجعل القرآن ميسوراً في قراءته بالنسبة لأي شاب من شبابنا بدون الرجوع إلى مراجع عديدة معقدة، كما أن مثل هذا التفسير هو وحده الذي يستطيع أن يحرر القرآن من الخرافات التي تسربت إلى التفسيرات القديمة مثل تفسير (البرق) بأنه صراع بين ملائكة الخير والشر، وما إلى ذلك من الأفكار التي يقدم العلم المعاصر بديلاً واضحاً لها قائماً على المعرفة الصحيحة بظواهر الأمور الطبيعية والانسانية.
    هذه بعض العقبات الشكلية.. ولكن هناك عقبات أخرى أعمق وأبعد. فما زالت المؤسسات الدينية عندنا ترفض إلى أبعد الحدود الاعتراف بوسائل التأثير العصرية مثل السينما والمسرح والموسيقى والرسم والإذاعة والتلفزيون.
    .. وإذا نظرنا إلى رجال الدين في الغرب وجدنا أنهم قد توسعوا في الاستفادة من هذه الوسائل إلى أبعد الحدود. فقد امتلأت الكنائس الغربية باللوحات الفنية الرائعة، بل إن هناك مدرسة دينية فذة في الفنون التشكيلية، وهناك آلاف اللوحات والتماثيل الرائعة في الغرب مستمدة كلها من المسيحية، كما توسعت في استخدام الموسيقى وبذلك أصبحت الكنيسة مكاناً مشرقاً بجوه الروحي حيث يساعد الفن بوسائله المختلفة على تعميق هذا الجو بصورة رائعة.
    أما السينما والمسرح فقد أتيح لهما أن يعتمدا على الكثير من الإنجيل والعهد القديم بصورة واسعة رحبة. بل لقد ظهر في السينما فيلم طويل هو فيلم (الإنجيل) ومهما قيل عن هذا الفيلم وعن أخطائه فالمحاولة جريئة، وهي محاولة لم تلق أي اعتراض من السلطات الدينية في الغرب.
    أما عندنا فنحن نجد فاصلاً قاسياً بين المسرح والسينما وبين القرآن وقصص القرآن، كما نجد حرباً على أي اقتراب بين القرآن وبين فن الموسيقى أو فن التصوير والرسم.
    والحقيقة أن مثل هذا الموقف يجب أن يتغير.. ومثل هذه القيود يجب أن تزول، ولا بد من عقد اجتماعات واسعة بين رجال الدين ورجال الفن والثقافة حتى يتم الوصول إلى حل لا يتعارض مع المبادئ الدينية، بل يخدمها ويساعدها على أن تمد جذورها فى أعمق أعماق الضمير والوجدان.
    .. إننا نجد في الغرب كتباً تصدر للأطفال الصغار فيها الكثير من الرسومات والصور التي توضح قصص الإنجيل وتضيئها وتبسطها لهؤلاء الأطفال وهي كتب رائعة وعظيمة ومؤثرة.
    ... ولكننا هنا نتردد في أي جهد من هذا النوع يجعل القرآن قريباً من الانسان والقلب الانساني.. ويجعل القرآن واضحاً كل الوضوح في ضوء العصر الحديث وما يمتلئ به هذا العصر من أفكار جديدة وفنون جديدة.
    ... إننا عندما نحرر القرآن من مثل هذه القيود المحيطة به لا نكون قد أسأنا إلى القرآن، بل نكون قد أحسنا إلى أنفسنا وإلى الدين الاسلامي الذي نؤمن به.. إننا يجب ألا نتردد في تقديم مسرحيات مستمدة من روح القرآن.. يجب ألا نتردد في شيء من هذا على الإطلاق لأن ذلك يطلق القوى العظيمة الكامنة في القرآن.. ويملأ بها قلب الانسان المعاصر وضميره ووجدانه، أما إذا اكتفينا بأن نجعل القرآن مجرد (نص مقدس) سوف يصعب الوصول إليه إلا لمن كان متخصصاً في القرآن والعلوم الدينية.
    ... إن واجبنا هو أن نحرر القرآن من هذه القيود ونبذل كل جهدنا في سبيل تمهيد الطريق للوصول إلى كل ما في القرآن من جمال فكري وروحي وفني وإنساني وكل ما فيه من قيم دينية عليا حتى لا يصبح الطريق إلى القرآن غاية في الصعوبة والقسوة والمشقة.
    الملمح الثانى فى مشروع رجاء النقاش النقدى يتعلق بإصلاح اللغة العربية . وكان فى هذا المجال شجاعاً ومستنيراً أيضاً حيث ذهب إلى أنه "لا بأس من التفكير المخلص فى تجديد شباب اللغة وإعادة الحيوية والصبا والجمال إليها، مع العمل على تخفيف القيود عن الذين يحبونها ويريدون أن يقتربوا منها دون أن يجدوا في ذلك أي عسر أو تعقيد".
    ونقل النقاش عن المرحوم الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية السابق رسالة بعث بها إليه تعليقًا على الموضوع ذاته أشار فيها إلى كتاب له صدر بعنوان "تجديد النحو" وصفه بأنه يحمل "أسس النهوض بهذا النحو، مثل‏:‏ إلغاء الإعراب التقديري والمحلي، ووضع ضوابط جديدة تذلل صعوباته‏، مع حذف الأبواب التي تثقل النحو وتجهد الناشئة‏".
    واعتبر ضيف أنه "من المؤكد أن اللغة العربية لا تنتحر ولا تتراجع في هذه الأيام، بل تزدهي وتزدهر طوال قرنين من الزمان على أيدي أبنائها البررة العظام"‏.‏ومن جانبه وصف النقاش كتاب "تجديد النحو" بأنه "كتاب رائع يحمل مشروعًا كاملاً وجادًّا لتيسير النحو العربي، وتخليصه من تعقيداته وصعوباته وقواعده الزائدة التي يمكن،‏ بل يجب الاستغناء عنها".
    الملمح الثالث هو ان رجاء النقاش لم يمسك العصا من المنتصف فى المعارك الفكرية والأدبية الكثيرة التى خاضها، بل إنه انحاز دائماً – أو غالباً – إلى التجديد. وإن كان البعض – ومنهم الكاتب والناقد صبحى حديدى على سبيل المثال – قد أخذ عليه.
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  8. #32 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ‏ ولكنّه كان ــ وما يزال في الواقع ــ شديد الميل إلى إسقاط السياسة (بمعناها المباشر والعقائدي والحزبي) على الظواهر الإبداعية، وإلى شطب جزء كبير من حقوق الإبداع إذا أخلّت هذه بحقوق السياسة. وأن تأتي ممارسة كهذه من ناقد كبير ومتمرّس ورائد أمر يتجاوز حدود العثرة، لأنه في الواقع ينمّ عن استعداد للتضحية باستقلالية العملية الإبداعية لصالح تكريس السياسة. ولعلّ جوهر هذا الموقف تختصره الكلمة التي نُشرت على الغلاف الأخير لكتاب النقّاش "ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء"، حيث جاء فيها: "وقد وقف المؤلف بوضوح وصراحة مع حركات التجديد الأصيلة ورموزها المختلفة، كما وقف ضدّ حركات التجديد المبنية على عداء حضاري وقومي للأمّة العربية واللغة العربية وآدابها. ولم يتردّد المؤلف في معارضة حركات التجديد القائمة على سوء النيّة القومية، والاستهانة بالتراث الحضاري العربي بهدف تمزيق العرب فكرياً وثقافياً ووجدانياً".
    انتهت ملاحظة صبحى حديدى، لكنها ليست فوق مستوى الجدال، وعلى سبيل المثال فان ناقدا آخر مثل عادل الاسطه يطالبنا بالتوقف أمام بعض ما ورد فى مقدمة الطبعة الأولى (عام 1969) لكتاب رجاء النقاش " محمود درويش : شاعر الأرض المحتلة" إذ نقرأ ان النقاش لا يتعاطف مع شعر الأرض المحتلة كونه شعر مقاومة وإنما يرى فيه شعراً ناضجاً، كتبه شعراء موهوبون. وبكلمات رجاء النقاش ذاته فان "هناك حركة شعرية ناضجة ورائعة فى داخل الأراضى المحتلة، وان الحكم بنضجها وروعتها من الناحية الفنية والفكرية ليس ناجما عن تعاطفنا السياسى او النضالى مع هذه الحركة، بسبب ما يعانيه أصحابها من الشعراء الشباب فى ظروف حياتهم الصعبة داخل إسرائيل.
    .. إن التعاطف حقيقة لا شك فيه ، ولكن الحركة الشعرية الجديدة داخل الاراضى المحتلة تتمتع بقيمة فنية على اكبر قدر من النضج والاصالة، بصرف النظر عن جميع الاعتبارات السياسية والعاطفية الأخرى. ان الشعراء الشبان البارزين فى الاراضى المحتلة هم شعراء موهوبون".
    وهذا الجدل ينقلنا إلى ملمح رابع للمشروع النقدى لرجاء النقاش، حيث نجده قد قدم إلينا إضاءة لكنم هائل من الابداعات، ومن خلال هذه الاضاءة قام رجاء النقاش بتعريفنا بأجيال من المبدعين المصريين والعرب. وهذه ثروة حقيقية أغنت المكتبة المصرية والمكتبة العربية.
    وليست المسألة مجرد إضاءة نقدية لابداعات موجودة، بل تتعدى ذلك إلى ملمح مهم لرجاء النقاش هو اكتشافه للمواهب الجديدة.
    وكى لا أعيد اكتشاف القوانين المكتشفة اكتفى بهذا الصدد بإحالة القارئ إلى الأديب والناقد الشاب سفيان يوسف الذى تناول هذه الزاوية فى سياق مقال بديع بعنوان "دردشات ليلية مع إبراهيم أصلان" قال فيه :
    .. أنظر مثلا إلي رجاء النقاش.. إنه يمتلك خبرة اكتشاف المواهب، وتقديم الكتاب، وتسهيل الجسر الموصل بينهم وبين القراء، فهو أول من كتب عن الطيب صالح، ومحمود درويش، ازدهرت مجلة الهلال عندما كان يرأس تحريرها، وعندما كان يعد عددا خاصا عن القصة القصيرة في سنة 70 قلب علي الدنيا، وأرسل الناقد السينمائي فتحي فرج لي في الكيت كات وكنا ساعتها نقفل باب البيت بالجنزير عشان الغسيل كان مسروقاً.. وسمعت فتحي ينادي من الشارع، وعندما رآني، صرخ: رجاء النقاش قالب عليك الدنيا ياجدع، وهو مستنيك بكرة الساعة 11 علي قهوة ايزافيتش، وذهبت له في اليوم الثاني الساعة ..1 وكان منتظرا، وأعطيت له قصة (المستأجر).. وأعطاها للجمع بعدها مباشرة..، ويستطرد أصلان عن رجاء: هذا الرجل كبير النفس فعلا، زي يحيي حقي وعبدالفتاح الجمل وصلاح عبدالصبور، وكل هؤلاء العظام الذين لايلعب الغرض في نفوسهم إلا نبلا ونزاهة وجمالا.. رجاء مرة قابلني علي سلم دار الهلال، عندما كان رئيس تحرير مجلة (الدوحة) القطرية، وكان في زيارة للقاهرة، وقالي لي: معندكش كتابات جديدة يا إبراهيم، وكنت أيامها ياشعب باكتب في (عصافير النيل).. وكنت كاتب فعلا خمسة مشاهد، فقلتله: عندي خمس حاجات.. ممكن أبعتهم لك، بس تبعتلي فلوس قبل نشرهم.. وقد كان.. ويتساءل أصلان: من يفعل ذلك الآن؟ وسؤال إبراهيم بالطبع مشروع، لأن الواقع الثقافي فعلا يضن بأفعال من هذا النوع إلا قليلا، ولينظر كل منا إلي كل ما حولنا من مجاملات وتربيطات وأسفار وترجمات، ونشر، وان لم يسع المرء نحو كل ذلك بطرق غير مشروعة أو ملتوية، لن ينال ذلك، لذلك هناك من يطرقون الأبواب بقوة لدرجة الازعاج، وسنجد هؤلاء الطارقين يتصدرون كل قوائم التراحيل المعتادة، دون تقديم قيمة مرجوة، هذا لأن المناخ تنقصه الضمائر النبيلة، ومن ينطوون علي هذه الضمائر، بعيدون عن مواقع القرار، ومواقع السلطة..
    هذه الشهادة تنقلنا إلى ملمح أخير خلاصته أن رجاء النقاش أثناء رئاسته لتحرير "الهلال" و"كتاب الهلال" و "المصور" و "الكواكب" و"الدوحة" القطرية، ظل مخلصاً لقضايا التقدم ويكفى أن نشير إلى تجربته فى "الدوحة" القطرية التى كانت منبراً ثقافيا مهما عندما كان يتولى رئاسة تحريرها، وانتهى الأمر بإغلاقها على يد المحكمة الشرعية إثر نشرها مقالاً كتبه حسين أحمد أمين إن لم تخنى الذاكرة.
    نحن إذن أمام مشروع نقدى مهم لكاتب وناقد أدبى جاد .. ندين له باخذنا من أيدينا وإدخالنا إلى عالم الحق والخير والجمال .. الذى يصارع ثلاثية الباطل والشر والقبح منذ سنوات . ونخشى ان نقول أن الأول يخسر أرضا لصالح الأخير عاماً بعد آخر .
    لكن هذا ليس عيب رجاء النقاش .. الذى يستحق التكريم على عطائه الرائع.
    .................................
    *الحوار المتمدن. في 23/1/2007م.
    رد مع اقتباس  
     

  9. #33 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 30 ) من محمود درويش إلي رجاء النقاش: أنت الذي تكرمنا
    .................................................. ...................

    الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش لم يتمكن من حضور حفل تكريم الناقد الكبير رجاء النقاش.. وأرسل له هذه الرسالة
    عزيزي رجاء النقاش
    كنت ومازلت أخي الذي لم تلده أمي.. منذ جئت إلي مصر، باحثاً عن أفق، وجدت في كنفك حرارة البيت وحنان العائلة، أخذت بيدي، وأدخلتني في قلب القاهرة الإنساني والثقافي، فعلمتني كيف أأتلف وكيف أختلف وكيف أكون «أنا» وسواي في آن واحد.
    وكنت من قبل قد ساعدت جناحي علي الطيران التدريجي، فعرفت قراءك علي وعلي زملائي القابعين خلف الأسوار.
    لم يكن التعبير عن الامتنان وحده هو واجبنا الأخلاقي تجاهك، بل الاعتراف العلني بأنك عمقت إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربي إلي هذا الحد، وساعدتنا علي الإيمان بقدرة الشعر الخارج من القلب علي الدخول في القلوب وعدم الخروج منها.
    أي: أقنعتنا بأننا ذوو جدوي في زمن كاد أن يقتل المعني، وكاد أن يقيم حدّاً فاصلاً بين جمالية الشعر وفاعليته.
    منعني الحياء من أن أشكرك بما يليق بك.. لئلا يكون الشكر تعبيراً عن رضا مُبَطن عن النفس. لكني اجتهدت كثيراً لكي لا أسبب لرضاك عني خيبة الأمل والخذلان. نعم، كان لك دور في تطوير وعي المسؤولية، وفي تعميق العلاقة بين حرية الشعر وشعر الحرية.
    نحن مدينون لك، لأنك لم تكف عن التبشير النبيل بالمواهب الشابة وعن تحديث الحساسية الشعرية والدفاع عن الجديد الإبداعي في مناخ كان ممانعاً للحداثة الشعرية. ومدينون لك لأنك ابن مصر البار، وابن الثقافة العربية الذي لم تدفعه موجات النزعات الإقليمية الرائجة إلي الاعتذار عن عروبته الثقافية.
    عزيزي رجاء!
    كم يؤسفني ألا أتمكن من حضور حفل تكريمك هذا الذي تأخر بعض الوقت. لكن قلبي معك، أيها الكريم المكرَّم المكرِّم!

    لقد كرمت أجيالاً من الكتاب الشباب بصداقة النقد والإبداع وبمتابعتك المثابرة لتطورات الأدب العربي الجديد في كل مكان في المراكز وفي الهوامش. أنت الذي تكرمنا: تكرم أصدقاءك ومحبيك وقراءك الأوفياء لك.. ولإنتاجك الغزير المتعدد.
    أتمني لك العافية والمزيد من القدرة علي اختراع الأمل لنا ولك..
    ولك كل المحبة.
    محمود درويش
    ......................................
    *المصري اليوم ـ في 26/1/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  10. #34 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 31 ) عرف القارئ العربي بالأدب المصري المعاصر

    بقلم: يوسف الشاروني
    .............................

    علاقتي برجاء النقاش بدأت عندما قرأ لي مقالا عن طوق الحمامه لابن حزم‏,‏ ذلك الكتاب الذي كان يتنازعه الاسبان والعرب لروعته وكان يتحدث عن الحب وكيف يبدأ وكيف ينتهي‏,‏فطلب مني تأليف كتاب عن الحب والصداقة في التراث العربي والدراسات المعاصرة‏.‏ وطبع في الهلال ودار المعارف أربع طبعات‏,‏ وكان من أروع ماكتبت‏.‏ وعندما رأس تحرير مجلة الدوحة أرسل لي للمشاركة في المجلة ونشر لي مجموعة من الدراسات والمقالات‏.‏
    ورجاء يعد من النقاد المهمين والنشيطين‏,‏ وكتبت مؤخرا في مجلة الثقافة الجديدة عن كتابه في حب نجيب محفوظ وكتبت عنه باعتباره أفضل النقاد‏.‏
    وكان له الفضل في اكتشاف عدد كبير من الكتاب وإلقاء الضوء علي ابداعاتهم‏..‏ كما كان له الفضل في تعريف القارئ العربي بالأدب المصري المعاصر‏.‏
    --------------------------------------------
    *الأهرام ـ في 12/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  11. #35 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 32 ) ..‏ والموت مـــر

    بقلم: أحمد عبدالمعطي حجازي
    ......................................

    ‏الذي حدث لي قبل خمسين عاما مع أبي‏,‏ حدث لي منذ أيام مع رجاء النقاش‏.‏
    قبل خمسين عاما‏,‏ وبالتحديد في العاشر من أغسطس عام سبعة وخمسين وتسعمائة وألف دخلت دار روز اليوسف القديمة في شارع محمد سعيد باشا ـ حسين حجازي الآن ـ حيث كنت أعمل‏,‏ وجلست إلي مكتبي لأجد برقية ينبئني فيها شقيقي أن والدنا توفي اليوم‏.‏
    كان الوالد في نحو السبعين‏,‏ ولم يكن يشكو مرضا‏,‏ فلم يخطر لي ولا لغيري حين زرته قبل أقل من أسبوع أن النهاية قريبة إلي هذا الحد‏,‏ وأنها ستفاجئنا دون سابق إنذار‏.‏
    نهضت من مكتبي مهرولا متجها إلي مواقف سيارات الأجرة في أول شبرا لآخذ مكاني في أول سيارة متجهة إلي قريتنا التي لا تبعد كثيرا عن القاهرة‏,‏ مجتهدا في ألا أتأخر حتي ألقي عليه النظرة الأخيرة وأشيعه مع المشيعين إلي مثواه الأخير‏,‏ ووصلت السيارة بعد أقل من ساعتين لأتلقي المفاجأة الثانية‏,‏ وهي أن الوالد مات بالأمس ودفن بالأمس‏,‏ وأن البرقية التي تلقيتها صباح اليوم أرسلت بالأمس ووصلت بعد أن غادرت مكتبي في روز اليوسف‏,‏ وكنت في ذلك الوقت شابا أعزب لا يصبر كثيرا علي البقاء في منزله الذي لا يؤنسه فيه أحد‏,‏ ولا يملك فيه من وسائل الاتصال ما يمكن الآخرين من إبلاغه نبأ كهذا النبأ‏,‏ والنتيجة أني قرأت الخبر حين تسلمت البرقية فلم ألتفت بسبب الصدمة للتاريخ الذي أرسلت فيه‏.‏
    عدت إلي القاهرة وقد هالني ما حدث لأكتب في رثاء الوالد قصيدتي التي سميتها رسالة إلي مدينة مجهولة وفيها أقول‏:‏
    أبي
    وكان أن ذهبت دون أن أودعك
    حملت لحظة الفراق كلها معك
    حملت آلام النهاية احتبست أدمعك
    أخفيت موجعك
    ثم أتفجع مخاطبا أصدقائي‏:‏
    مات أبي يا أصدقاء
    الغرباء ودعوه بينما أنا هنا
    لمحتهم في الضفة الأخري
    ظلالا في غروب الشمس تنحني
    علي القبور‏,‏
    ما وجدت زورقا يقلني
    لم أستطع وداعه في يومه الأخير‏!‏
    ‏***‏
    من الذي احتضنني بعد عودتي إلي القاهرة يواسيني ويخفف من لوعتي الحارقة ويحيطني بدفئه وحنانه؟ رجاء النقاش‏!‏
    من الذي استمع إلي قصيدتي فور انتهائي من نظمها؟ رجاء النقاش‏!‏
    من هم الأصدقاء الذين وجهت لهم الخطاب في هذه القصيدة؟ أولهم رجاء النقاش‏!‏
    في تلك السنوات لم نكن نفترق‏,‏ وهاهي الفاجعة تتكرر‏,‏ ويكون بطلها الأول هذه المرة رجاء النقاش‏!‏
    ‏***‏
    في الأيام التي سبقت تكريم نقابة الصحفيين للفقيد منذ نحو شهر سقطت فريسة لنزلة حادة منعتني من المشاركة في تكريمه‏,‏ فلم أملك إلا أن أكتب كلمة عنه تشرح حالي ولا توفي رجاء حقه‏,‏ أرجو فيها أن يواصل المقاومة من أجل الكثيرين الذين يحبونه ويحتاجون إليه‏,‏ وقد دفعه نبله لأن يطلبني في التليفون ليشكرني علي ما قلته في هذه الكلمة بعد أن قرأها‏,‏ فلم يجد في المنزل إلا ابني الذي أخبره أني مسافر‏,‏ ثم أبلغني بالتليفون أن الفقيد اتصل‏..‏ كانت هذه آخر فرصة أسمع فيها صوته‏!‏
    وأنا متأكد من أن رجاء النقاش قاوم الموت بكل ما يملك من طاقة روحية وجسدية‏,‏ قاومه كما كان يقاوم الشر في كل صوره‏,‏ وكان في مقاومته للموت صبورا‏,‏ لأنه يعرف أن معركة الإنسان مع الشر معركة طويلة‏,‏ وكان شجاعا‏,‏ لأن أحدا لا يستطيع أن يقاوم الموت مع أحد‏,‏ وإنما يقاومه كل إنسان علي انفراد‏,‏ فمن النبل أن يكون شجاعا‏.‏ هذه الشجاعة ضرورية لنستنهض بها كل قوانا ونكسب معركتنا مع الموت‏,‏ فإن لم نكسبها فهي ضرورية لنتقبله إذا لم يكن منه بد‏.‏
    وأنا أعرف بعد ذلك أن رجاء النقاش لم يقاوم الموت وحده‏,‏ بل قاومه معه كل الذين أحبوه‏,‏ عرفوه أو لم يعرفوه‏,‏ وفي مقدمتهم زوجته وولداه وأشقاؤه وأصدقاؤه‏,‏ لكننا في النهاية نموت وحدنا‏!‏
    ثم إنني أعرف شيئا آخر‏,‏ هو أن أمثال رجاء النقاش قادرون علي مقاومة الموت حتي بعد رحيلهم‏,‏ لأنهم تركوا للحياة من نبضات قلوبهم وثمرات عقولهم ما لا يستطيع الموت أن يقربه أو يغلبه‏!‏
    ***‏
    أكتب هذه الكلمة وأنا لا أزال في الضفة الأخري‏,‏ في فرنسا التي حملتني علي الرحيل إليها والبقاء فيها إلي اليوم أسباب مختلفة لا يخلو بعضها من قسوة تزيدها إيلاما أنباء الرحيل التي أسمعها ولا أستطيع المشاركة في توديع الراحلين‏.‏
    يا أصدقاء
    لشد ما أخشي نهاية الطريق‏!‏
    وشد ما أخشي تحية المساء
    إلي اللقاء‏!‏
    أليمة إلي اللقاء‏,‏ و اصبحوا بخير
    وكل ألفاظ الوداع مرة‏,‏
    والموت مر
    وكل شيء يسرق الإنسان من إنسان‏!‏
    .........................
    *الأهرام ـ في 13/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  12. #36 رد: مع رجاء النقاش 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ( 33 ) رجاء النقاش ومحفوظ

    بقلم: محمد سلماوي
    ............................

    جمعتني بالكاتب الراحل رجاء النقاش روابط كثيرة لم يكن أقلها حبنا المشترك لأديبنا الأكبر نجيب محفوظ‏,‏ فقد كنت أعرف حب رجاء الجم لنجيب محفوظ‏,‏ كما كنت أعرف حب وتقدير محفوظ له وثقته الكاملة فيه‏.‏
    وربما كان في ذلك أحد أسباب القيمة الكبيرة التي كان يمثلها رجاء النقاش في مجال النقد الأدبي‏,‏ ولأحد كبار النقاد قول مأثور مؤداه أن المحب للأدب وحده هو الذي يصلح أن يكون ناقدا‏,‏ وقد كان رجاء النقاش مثالا فريدا للناقد المحب للأدب والأدباء في وقت كادت كلمة النقد عندنا تصبح مرادفة لكلمة الانتقاد‏.‏
    ولقد حدثتني الزميلة نوال المحلاوي ذات مرة بعد مرور نحو عام علي فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عن رغبتها في أن ينفرد مركز الأهرام للترجمة والنشر ـ والذي كانت ترأسه في ذلك الوقت ـ بنشر السيرة الذاتية لأديب نوبل الكبير‏,‏ فقلت لها علي الفور‏:‏ أريحي نفسك‏,‏ إن نجيب محفوظ ليس من الأدباء الذين يكتبون سيرتهم الذاتية‏,‏ فهو في تواضعه الجم يعتقد أن حياته ليست ذات أهمية‏,‏ وأن أحداثها لا تهم أحدا غيره‏,‏ كما أنه يفضل ألا يترك للناس إلا انتاجه الأدبي‏,‏ الذي هو أهم من تفاصيل حياته‏,‏ ومع ذلك فكل من اقترب من نجيب محفوظ يعرف جيدا أن حياته بها من الأحداث المهمة والشيقة ما يجعلها ذات مغزي كبير لكل من يهتم بأدب نجيب محفوظ أو بالحياة الثقافية والأدبية طوال سنوات القرن العشرين‏.‏
    ثم قلت لنوال المحلاوي‏:‏ أنا أعرف أن رجاء النقاش كان لديه مشروع قديم لكتابة حياة نجيب محفوظ‏,‏ وأعلم أن محفوظ لديه ثقة كبيرة في رجاء‏,‏ وأنه ـ إذا وافق علي المشروع ـ سيفتح له قلبه وذاكرته بالكامل‏.‏
    ولم تمض أيام حتي كانت نوال المحلاوي قد اتصلت برجاء النقاش الذي أكد لها أنه مازال يرغب في التأريخ لحياة الأديب الأكبر‏,‏ كما التقت بالأستاذ نجيب لتعرض عليه الموضوع فرحب به ترحيبا كبيرا‏,‏ ورحب أيضا بأن يكتبه رجاء النقاش‏.‏
    وقد أمضي رجاء النقاش وقتا طويلا يجمع مادة الكتاب من مصدر واحد فقط هو نجيب محفوظ نفسه‏,‏ الذي كان يجلس إليه مطولا ويسأله في كل الموضوعات التي تتصل بحياته وأعماله‏,‏ فكان محفوظ يجيب عليها بالكامل‏,‏ حيث كان رجاء النقاش يسجلها علي جهاز تسجيل صغير ليقوم بتفريغها بعد ذلك‏.‏
    وبعد مرور ما يزيد علي السنة‏,‏ كان رجاء النقاش قد انتهي من جمع مادته بصوت نجيب محفوظ‏,‏ لكن تلك كانت بداية المشقة الحقيقية ولم تكن نهايتها‏,‏ فماذا يفعل بهذه المادة وكيف يعالجها ومن أين يبدأ؟‏..‏ ولم تمض سنة أخري ولا اثنتان ولا ثلاث‏,‏ بل أربع سنوات ودخلنا في السنة الخامسة ورجاء النقاش يشعر بمسئولية كبيرة تجاه المادة الثمينة التي ائتمنه عليها نجيب محفوظ‏,‏ ومن ثم لا يستطيع أن يخرجها إلا في أفضل صورة دون أن يكون في لهفة كي يخرج أول كتاب من نوعه يؤرخ لحياة أديب نوبل الكبير‏,‏ بل كان الأهم أن يجد الطريقة المثلي للتعامل مع هذه المعلومات النادرة التي حصل عليها‏,‏ فهكذا كان رجاء النقاش‏,‏ وهكذا كان ضميره الأدبي الذي جعله أحد أهم نقادنا الأدبيين وأكثرهم حبا للأدب وإخلاصا له‏.‏
    وبعد أن مرت خمس سنوات‏,‏ اقتنع الجميع خلالها أن الكتاب لن يظهر أبدا‏,‏ وتوصل رجاء النقاش إلي أن قيمة المادة التي لديه تكمن في أنها صادرة من محفوظ شخصيا‏,‏ وأن عليه أن يحافظ علي هذه القيمة بأن يقدمها للقارئ كما هي‏,‏ دون أن يستخدمها في كتابة سيرة صاحبها‏.‏
    وهكذا كان كتاب نجيب محفوظ‏..‏ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته‏,‏ والذي أصدره مركز الأهرام للترجمة والنشر عام‏1998,‏ والذي أهداني رجاء النقاش واحدة من أول خمس نسخ وصلته من المطبعة وصدرها بهذه الكلمات‏:‏ إلي الصديق العزيز الكاتب الكبير الأستاذ محمد سلماوي الذي يعرف كل ما في هذا الكتاب‏..‏ وما خلفه‏..‏ مع خالص التقدير‏..‏ رجاء النقاش‏.‏
    وقد أصبح هذا الكتاب من أهم الكتب التي صدرت عن نجيب محفوظ واثار عند بداية نشره ضجة كبيرة‏,‏ حيث تعرض ـ ضمن ما تعرض ـ لجوانب شخصية من حياة أديبنا الأكبر‏,‏ كان البعض يتصور أنه لم يكن ينبغي الإفصاح عنها‏,‏ بل لقد ذهب البعض آنذاك للقول بأن نجيب محفوظ لم يكن من الممكن أن يقول مثل هذه الأشياء‏,‏ وكان البعض يسأل الأستاذ أمامي‏:‏ هل حقا قلت لرجاء النقاش كذا أو كيت؟‏..‏ ولم يكن الأستاذ في سنه المتقدمة يتذكر في عام‏1998‏ ما يمكن أن يكون قد قاله عام‏1990,‏ لكنه في ثقته الكاملة برجاء النقاش كان يقول لسائليه‏:‏ هل ورد هذا في كتاب رجاء؟‏..‏ فيقولون‏:‏ نعم‏,‏ فيرد بلا تردد‏:‏ إذن فقد قلته‏.‏
    أسرد هذه الواقعة لأن فيها دروسا مهمة وعبرا ذات دلالة لنقادنا من الشباب‏,‏ وفيها أيضا سر عظمة ذلك الناقد الأدبي العظيم رجاء النقاش الذي فقدناه هذا الأسبوع‏.‏
    ففيها أولا أمانة الناقد مع المادة التي تحت يديه وعدم لهفته لنشرها بأسرع وقت وكأنها سبق صحفي رخيص يمكن أن يصنع العناوين الساخنة اليوم ليكون بلا أهمية غدا‏,‏ فقد كانت عين رجاء النقاش علي التاريخ‏,‏ والتاريخ لا يقبل إلا الأمانة والصدق‏.‏
    وفيها ثانيا تفانيه في تقديم ما ائتمن عليه في أفضل صورة ممكنة‏,‏ حتي لو أخذ منه ذلك سنوات طوالا‏.‏

    وفيها ثالثا روح الإيثار التي تجعل الناقد ينحي نفسه جانبا مفضلا عمل الأديب وكلماته‏,‏ فقد كان من الممكن لرجاء النقاش أن يكتب كتابا لم يكتبه أحد من قبل عن حياة محفوظ‏,‏ ولكنه فضل أن يحتفظ لكلمات محفوظ كما نطق بها دون تدخل منه‏.‏
    وفيها قبل ذلك كله وبعده الثقة التي يحوزها مثل هذا الناقد عند الأديب والتي جعلت نجيب محفوظ يرد دون بحث ولا تدقيق‏,‏ بأن كل ما كتبه رجاء النقاش عنه أو عن لسانه لابد أن يكون صحيحا‏.‏
    لقد فقدنا برحيل رجاء النقاش قامة كبيرة في رواق النقد الأدبي يصعب أن نعوضها‏,‏ لكن ما نملكه هو أن ندرس كيف نهضت تلك القامة فصارت باسقة كنخيل القرية المصرية التي ولد بها ناقدنا الكبير رجاء النقاش الذي ترك لنا الساحة بعده صحراء جرداء‏.‏
    .........................
    *الأهرام ـ في 13/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. أنيس النقاش
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11/01/2014, 10:43 PM
  2. رجال واقفون
    بواسطة وردة قاسمي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 17/05/2010, 11:36 AM
  3. تأملات في الإنسان - من أعمال رجاء النقاش
    بواسطة وليد زين العابدين في المنتدى فسيفساء المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 24/07/2009, 10:58 AM
  4. وفاة الناقد المصري رجاء النقاش
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09/02/2008, 09:19 PM
  5. رجال واشباه رجال
    بواسطة وائل في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 01/01/2008, 03:31 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •