ورد للمربد الرسالة التالية:


لائحة اللوائح قصة قصيرة

كثيرة هي الأمور التي تثير السخرية أو الغرابة أو العجب أو أي شيء يعجز المرء عن إدراكه ، يقف المرء حائرا أمام لوحات السورياليين ، فيعجز عن إدراك معناها ومغزاها ، وتذهب به الظنون في كل حدب وصوب فيستثمر كل طاقاته الذهنية وقدراته الفكرية يطوف يمينا وشمالا عله يدرك للمتاهة بابا ؛ مدخلا أو مخرجا فتأبى الالتواءات والتعرجات والمنعطفات والارتفاعات والانخفاضات ...أن تسنح له بأن يفهم في الأمر شيئا وأنى له أن يفهم ، ومن غرائب هذه الأمور طلاسم وألغاز ومتاهات لا تعد ولا تحصى ... تقف حاجزا... ولعل إحدى هذه الألغاز ، لغز لائحة اللوائح ، وملخصها : قال الراوي : يروى أنه في زمن من الأزمنة الحديثة وفي مدينة من المدن القريبة من حبل الوريد ، قال الحفيد لجده العجوز :
يا جدي العزيز ، على من ستصوت ؟ أجاب العجوز بنبرة تحمل غرابة : أن تصمت يا بني خير لك من أن تصدر صوتا ، والصمت حكمة كما يقول الأجداد .
رد الحفيد ، وقد ملأت الحيرة كيانه : يا جدي العزيز ، أنا لا أقصد بالتصويت أن تصدر صوتا ، وإنما أقصد بقولي هذا : لمن ستعطي صوتك في الانتخابات ، أجاب الجد بحكمة ووقار : لا أحد يا بني ، لا أحد...
ـ كيف تصنع ذلك يا جدي وتلك فرصتك في اختيار من سيمثلونك في البرلمان ، ومن سيبنون مستقبلك ومستقبل بلدك ... هكذا على الأقل شرح لنا أحد الأساتذة ...واسترسل الشاب الفتي في حديث طويل يلخص فيه درسا من الدروس التي حفظها عن ظهر قلب واستمتع بأن يلقيها على مسامع جده الأمي ، وكله اعتقاد بأنه أتى بكل شيء عجيب وبكل أمر غريب ...سكت فجأة ثم استرسل في حديثة متحدثا عن الموضوع ملما بكل جوانبه ... لم يجبه العجوز ... دام الصمت طويلا ...ألح الشاب المليء بالحيوية والنشاط على جده في الإجابة ، وبعد إلحاح وإصرار ...صدح الجد الحكيم بحكمته المعهودة : يا بني ، يا حفيدي العزيز ألو أقل لك إن الصمت خير من الصوت ، وبعض الصمت حكمة ، وبعض الصوت فتنة ... وقد لا تفهم هذا الأمر إلا بفهم لغز النعاج الأربع ، أسرع الفتى يسأل من جديد : ما هو لغز النعاج هذا يا جدي ؟ وما هي هذه الألغاز التي لا تنتهي ؟ وما علاقة الألغاز بالتصويت والترشيح ؟...
وبحكمة بالغة أجاب الجد ، والحسرة تملأ عليه كل أنفاسه : هذه مسألة تشرحها قصة الأب الذي جمع أبناءه الأربعة ، وقد أشرف على الموت ورغب في أن يطمئن عليهم قبل أن يرحل إلى مثواه الأبدي ...قال : يا أبنائي الأعزاء : خير الكلام ما قل ودل ...أختصر فأقول : لقد بذلت كل ما في وسعي من جهد وطاقة لتنشئوا تنشئة صالحة ... والآن وبعد أن بلغ بي الكبر ما ترون ، فإني أرغب في أن أترككم وقد أكملتم نصف دينكم . أجابوه بكلمة رجل واحد : السمع والطاعة يا أيها الأب الكريم ، اقترح ما شئت إننا منفذون ما تأمر به ... لا جدال ولا مراء ...
أفرج الأب عن أسارير وجهه وقال : هذه كما تلاحظون أربع نعاج ... مختلفة الأشكال والألوان والأحجام ... المطلوب منكم أن تنظروا وتبصروا وتتأملوا وتفكروا وتخططوا وتبرمجوا ـ إن شئتم برمجة عصبية ... وليختر كل واحد منكم من هذه النعاج زوجة تكون له عونا وسندا ... اضطرب الأبناء وتسللت الدهشة إلى وجوههم وقلوبهم ومشاعرهم وسدت كل كيانهم ... هتفوا بصوت رجل واحد : يا أبانا ...أمرت كل واحد ما أن يختار زوجة واقترحت عليه نعجة ، فكيف يستقيم الأمر ؟
أصر الأب على رأيه وأعنت الأبناء في رفضهم ، وبقي الأمر بينهم جدلا...
أردف الجد العجوز موضحا لحفيده : يا حفيدي العزيز ، قصة الأب مع أبنائه تشرح قصتي مع التصويت والترشيح ... وأرجو أن تكون قد فهمت عني ...
لكن الحفيد الذي كان قد استرسل مع جده في حسن إنصات واستماع ... في مسار الحديث الغامض ... عاد من جديد يتوسل جده أن يستمر في التوضيح والتفسير ...
لم يجد الجد سوى الرضوخ أمام إلحاح حفيده إلا أن يوضح بما وسعه التوضيح ... ومما قاله يومئذ أن لائحة اللوائح خلت ـ إلا قليلا ـ من المرشد والعفيف والناصح والأمين ... وامتلأت بمن خبرهم الناس واختبروهم ... ولم يجدوا في أكثرهم خيرا ... وحملوهم الأمانة فيما مضى ، فما صانوها وما رعوها حق رعايتها وما نظروا في وجوه من وثقوا بهم ... حتى إذا عادوا قالوا : جددوا فينا ثقتكم ، فقد تبنا إلى الله ربنا ... فقال الذين هم أمثالي : الصمت حكمة والصمت خير من الصوت أو التصويت ... فالأمران متساويان ... ولله المثل الأعلى ...
د . إبراهيم ياسين .