عادة ما كان يتجنب إشعال ذاكراته الخامدة لأنها تجرفه إلى ذكريات أليمة طالما أرقته وجعلته في سهد رغم محاولاته في وئدها وإهمالها في صحراء النسيان لكن المحاولات دائما ترسو إلى الفشل فيجد نفسه غارقا في اجترارها والتوقف عندها وتشريح صورتها بدقة فتسلب فكره وتستولي على خياله وتأسره وتهيم به تجرعه الألم فيظل في حسرة وكدر تخيم عليه الكآبة ويتسرب أليه اليأس .. ذات مره وهو منعزل في وحدته امتطى صهوة الذكريات وراح يعدو بشدة في المرور على الأحداث فتوقف عند حدث سطره التاريخ ووثقه فتح الصفحات والمرارة تعتصره انه الخامس من حزيران عام 1967م لقد كان يجوب الشوارع وهو يشعر بالفخر والعزة يرى الوجوه تعلوها الابتسامات .. المذياع يصدح هنا وهناك بالخطب الحماسية والأناشيد الوطنية غمرت جسده بالنشوة والسعادة ...

انتصرنا ... انتصرنا

عبارات ملتهبة لا تنقطع تملا الأجواء تردد على لسان الصغير والكبير .. هذا هو وطن الشموخ والمجد والتحدي والصمود عاد والفرحة تلازمه وتصاحبه وفي اليوم التالي ساد الصمت وجاء الخبر كسهم أنغرس في داخل جسده معلنا الحقيقة تشتت الذهن وعصفت الأفكار فلقد صار العدو قريبا وضاعت أجزاء من الوطن لقد تغيرت الصورة وجوه واجمة مصابة بالذهول والإحباط تقلب الخبر و تعيد مراجعته في تدقيق وتمحيص لعل وعسى أن يكون هناك التباس لكن الأمر أصبحا واقعا أميط اللثام فانكشفت النتيجة المرة ولم تعد تجدي محاولات الهروب من الحقيقة التي حولت الأحلام إلى أوهام والنصر إلى سراب .. قاوم اثر الحدث وفك قيده مطلقا فكره نحو المقاومة وإغلاق صورة تلك الصفحة السوداء إلا أن مشاهد الضعف و الانهزام جردته من تمرده وإعادته إلى حالته بعدما رأى تلك الجموع الغفيرة تخرج في غضب تردد عبارات نارية تدعوا إلى الأخذ بالثأر والانتقام من العدو جعلته يوقن إن الأمة تتجه إلى الاحتضار إذا كان هذا سلاحها الوحيد الذي تملكه ولن يعود بعد الآن هناك توثيق لنصر جديد بل سوف تبقى هناك مواسم الغضب التي نحصدها فيها السخط و الصياح بعبارات جديدة .