يحِلُ الخريف فيُحَبِبُ إليَّ العودة إلى البيت سيرًا على الأقدام. ألتَقِي به من حين لآخر في طريق العودة . يَنْقَطِعُ حبل أفكاري، و كذلك شرودي ، كلما رأيته ، و شَرْخٌ يُمَزِقُ قلبي تألما لحاله. "نصْفُ جسد" يَرْتَكِزُ على يديه و يتنقل بسرعة مخافة أن تصدمه سيارة أو يُعَرْقِلَ سَيْرَ المارَّة. أتتبَعُهُ بنظراتي لكنه سرعان ما يختفي بين المارَّة.
أتابع بقية طريقي و الانكسار يملأ قلبي: يا لغفلتي و جحودي.....إنه يظهر في كل مرةٍ أسْتَسْلِمُ فيها للبؤس و التعاسة، يذكرني كيف أني في كل مرة أحْرِمُ نفسي من رؤية النعمة و تذوق النعمة و شكر النعمة. أي هموم هذه التي تَسْلُبُنِي و تُعْمِينِي ؟ و نِعَمُ ربي تغمرني، نعمة البصر و السمع و الجسد و الصحة...و........فلتَرْحَلِ الهموم بعيدا بعيدا......بعيدا.
وصلت إلى البيت و انقضى اليوم. مرت بضع أسابيع لم أره، افتقدته بعض الشيء، قلِقْتُ قليلا، ثم مر الوقت و خَفَّ القلق و انغَمَسْتُ في دوامة الحياة.
في يوم من الأيام، قادتني الخطوات إلى أحد المراكز التجارية، حديثة المنشأ، فَرُحْتُ أتجَوَلُ في أرجائها، إشباعا لفضولي ، وبينما أنا كذلك إذا بي ألْمَحُهُ من جديد. لم يكن على مسافة بعيدة، و لكن ماذا يفعل هناك؟ ...تقدَمْتُ بِضْعَ خطوات لأرى لكنني لم أزد بعدها خطوة تالية، تَصَلَّبْتُ في مكاني لِمَا رأيتُ....كان ينظف أرضية المتجر بنشاط و حيوية عجيبين، غَيْرَ آبهٍ بالزبائن الذين يتحركون يمينا و يسارا ، ذهابا و إيابا. منهم من يتأثر بالمشهد فيحاول تجنب المساحة التي ينظفها، منهم من يعطيه بعض النقود و منهم من يمر كالثور لا يلاحظ شيئا. دون تفكير وجدت نفسي أقترب منه و أعطِيهِ نقودا. شكرني بحرارة.
سِرْتُ بضع خطوات إلى الأمام لكنني سرعان ما عُدْتُ إليه، سألته: هل يمكنني التقرُّبُ منكَ و محادثتك ؟ أجابني و الدهشة ترتسم على محياه: يمكنك ذلك يا سيدي .ـ أين يمكنني أن أجِدَكَ؟ ـ ستجدني إن شاء الله مساء كل يوم أربعاء في المتنزه العمومي حيث بِرْكَةُ البطِّ.
كانت البداية لصداقة دامت 10 سنوات ، ثم كان بعدها الفراق الذي لا لقاء بعده في الدنيا. لكن روحَهُ ظلَّتْ تزورُنِي في منامي، من حين لآخر ، و تحدثني عن الجنة.