استهلال
مدينتي مطلة علي رأس قناة السويس
ولدت مع أول ضربة معول بيد المهندس الفرنسي
فردينان دي لسبس
لقد صاح في الهواء صيحة مدوية
مازالت تتردد في الأفاق
" في عهد محمد سعيد باشا الجالس علي الأريكة المصرية
نفتح عصراً جديداً للتجارة بين الشرق والغرب "
كان ذلك ظهر يوم الأثنين الخامس والعشرين من أبريل عام 1859م .
ــــــــــــــــــ
سطور من حياة جدي العباسي الكبير
يسيرجدي بخطي متئدة ، كأنه يمشي علي مهل مزهواً بشبابه ، يصوب ناظريه جهة السماء ، والسماء صافية تبتسم له نقية من أي كدر أو غيوم ، زرقاء ناعمة ..
كان قلبه فرحاً، وكان يتمتم بآيات من الذكر الحكيم شاكراً المولي علي حسن عطائه ...
يجر شباك صيد التي علقت حبالها علي كتفه ، تنصاع الحبال من ورائه مثل ثعابين ذليلة تنفذ إرادته ، وترسم علي الشاطئ الرملي المبلل بالماء خطوطاً ملتوية ..
النوارس في صفحة السماء تلهو كما تشاء ، تعلو وتهبط في إنتشاء وتأتي بحركات بهلوانية كأنها تسري عنه ، ترتسم الخطوات المهلي علي الرمل ، الرمل رخو ناعم يضم بحنين بالغ تلك الأقدام الغليظة ، فتترك من خلفه آثاراً محفورة تبدو كالجرح الغائر ،سرعان ما يلتئم وتمحوه تلك المويجات الصغيرة ..
كاهلُ مثقل بعبء سنين عاشها ، لكنه يحب وجه الشمس ، ويتجه دائماً ناحية الشرق ، يشعر بدفء جميل يسري في أوردته ، ليلة الأمس هطلت الأمطار بغزارة ..
شتاء هذا العام البعيد جاء قاسياً ، والرياح لا تأتي فرادي ، كلها جاءت في موعد متوافق مع هبوب " النوات البحرية " التي توالت علي الشاطئ في وقت واحد ..
ثمة ديون يشغل أمرها باله حان الوقت لسدادها ، لكن البحر يبخل ولا يعطي ، ما باليد حيلة ..
الشمس دائماً هي الملاذ الوحيد ، تبعث فيه الإصرار علي مواصلة الحياة ، تلك الشمس التي لونت كل جسمه بلون برونزي ، وجعلته في لون أجساد الفراعين ..
أحبته نساء كثيرات، عشقنه عشقاً كبيراً، كثيراً ما زارهن الأرق والسهاد ، رحن يتوددن لأمه ، قالت واحدة :
ــ أحبه يا خالة ، لكنه لا يعبأ بي ..
ــ القلب وما يريد يا ابنتي ..
البحر كبير ، كبير ، الرمال في نعومة الحرير تحنو علي قدميه ، تداعبهما برقة ، تلثمهما في وداعة ، لا شئ يؤرقه سوي تلك القواقع المتكسرة ، تري من دهسها قبله ؟ ظل السؤال حائراً ، لهباً يتلظي داخل قلبه ، وتلك الأصداف والمحار الملقاة من أفسدها ، ربما .......
للبحر رائحة عجيبة ، يمتلئ بها صدره فيستعيد شبابه ، يغمغم ببعض كلمات ويلهو، يمسك بين يديه بقوقعة ، ينفخ فيها كصبي صغير فتخرج صفيراً يؤنس وحدته ، يغني ، يقربها من أذنه اليمني ، يسمع نداءً خفياً ، يلتفت من حوله فلا يجد أحداً ..
لا زال خطوه يمتد به جهة الشرق ، تذكر أن الرفاق سوف يأتون بعد قليل ليقوموا معه برتق الشباك التي أرهقها الصيد ومزقتها الأسماك ..
فجأة تسقط القوقعة من يده ، عاد ليلتقطها في سرعة ، وعادت أسراب النوارس تدور من حوله وفوق رأسه كأنها تلبي له النداء الخفي ..
دار جدي حول نفسه دورة كاملة ، حملق جيداً في نورس يقترب ، لكن النورس طار بعيداً ، ضحك وأشار له ، عرف أنه يقدم له تحية الصباح ، وعرف أنه صاحبه الأثير الذي لا يلبث أن يغيب ، فيرجع ..
شعر بشئ غريب يستعيد به زمن مفتقد لم يستمتع به ، حقاً لم يعش طفولته ، بل التهمته الحياة في جوفها وكأنها هي نار ألقي في أتونها طفلاً صغيراً يتيما لم ينعم بحضن الأب ..
يجلس جدي وحيداً ، يري الرجال علي مبعدة يأتون شبه كسالي ، أي رزق ينتظر هؤلاء الناس ، لا شئ ، سوف يردون لزوجاتهم بدون نقود أو طعام ...
قهقه كعادته وهو يسخر وحيداً ، مال علي حجر وأسند رأسه ونعم ببعض دفء لشمس تسقط عليه بعض شعاعها ،مدد ساقيه فخط بهما في الرمال خطين متوازيين ، ود لو يضطجع ، وتذكر امرأته ولون بياض وجهها وضحكة العينين ولون فمها القرمزي ، لقد تزوج مؤخراً امراة جميلة ..
سحابة عبرت فظللته ،أخرج من جيبه علبة الدخان ، أعد منها سيجارة بلل طرفها بريق من فمه ، ضم طرفيها ثم ألقمها فمه ، عود الثقاب كاد أن يخونه لولا أنه لحق به قبل أن تمتد ناره فتحرق شاربه ...
كان صوت صخبهم يأتي من بعيد إلي أذنيه ، تحمله الريح ، حتماً سيصب جام غضبه فوق رؤوسهم ، ربما يطردهم جميعاً ، لسوف يصرخ فيهم :
ــ الرزق لا ينتظر أحداً ، عودوا من حيث جئتم ...
كادت السيجارة أن تحرق سبابته والوسطي ، لن يعنفهم ، لا ، ولن يرد واحداً منهم ، لكن أين هم ؟
قهقه وحده ، جلجلت ضحكته في الفضاء الواسع ، وسأل نفسه :
ـ هل خيل لي ذلك أم أني ....
وراح يشغل نفسه بشئ لم يكن في الحسبان ..
فرد ذراعيه وتمطي كي يبعد عن نفسه كسلاً مفاجئاً اعتراه علي غير العادة ، ود لو يروي ظمأه ببعض ماء ، لكن وعاء الماء بعيد عنه ، تركه هناك عند حاجياته تحت ظل حجر ضخم يؤوب إليه كلما انتهي من عمله ..
البحر من أمامه يمتد في لون فيروزي ، الماء ناعم هادئ ،آه لو يستطيع أن يسبح في الماء مثل طفل ، والدلافين لاهية تحوم من حوله ..
"ساحل البحر طبيعة خام لم يمسسها بشر ، صياد طيور يسعي حاملاً بندقيته وراء الرزق وغيره يلقي بشباكه في البحر ليصيد أسماكه ، ثمة رعاة يسرحون بأغنام وخراف هزيلة يثيرون الغبار بحثاً عن الماء والكلأ ، في أرض صحراوية قفر ممتدة عبر بادية مترامية الأطراف ليس فيها إلا بعض الأعشاش المتناثرة ..
طبيعة موحشة ، هو يعشق الأسماك وهي تتقافز من حول شباكه ، الشاطئ سهل رملي ممتد ناعم ، شاطئ بلا انتهاء ، تتخلله قواقع ومحار..
استطلع جدي بعينيه الصغيرتين وجه ماء البحر، ونهل منه بكفه اليمني ، الماء مالح ولذيذ ، تلك هي عادته ..
* * *
ــــــــــــــــــــــ
سطور من رواية " بمحاذاة البحر الأبيض"
تصدر قريباً إن شاء الله