الأديب البولندي جوزيف كونراد اختار البحر .. واختارته الكتابة .
الكثير من الناس يختارون المهنة التي يعملون بها ، والقليل منهم فقط هم الذين تختارهم مهنهم ..
حدث هذا في حياة الأديب البولندي الشهير جوزيف كونراد واسمه بالكامل جوزيف تيودور كونراد نالكز كورزينبوسكي المولود في العام 1857 م في برويز تسيو ببولندا .
عاش حياة ملؤها الغرابة والصعاب ولكنه اخترق شعابها ولم يقف عاجزاً أمام صعابها وتحدياتها .
ولد كونراد لأب أديب وثوري وأم تنتمي لاحد الأسر الثرية في بولندا.
في تلك الأونة كانت بلاده تعاني من وطأة حكم القياصرة فناضل أهلها في سبيل الخلاص من هذا الحكم ، فما أن بلغ الطفل عامه الثالث حتي وجد نفسه ومعه أمه يسعيان للحاق بالأب الذي نفذ فيه حكم النفي إلي خارج البلاد عقاباً له علي نشاطه الثوري ، وفي المنفي عاشت تلك الأسرة ظروفاً حياتية قاسية مما كان له الأثر السيئ علي صحةالوالدين فماتت الأم وسرعان مالحق بها الأب ولم يكن الصبي قد بلغ عامه الثامن .
عاش الصغير في بيت خاله الثري وهو يعاني من مرارة الوحدة واليتم ، ولكن الكتب التي كانت جزءاُ لا يتجزأ من حياة صاحب البيت جعلت من الصبي شيئاً آخر فهو يقرأ وبنهم شديد كل مايقع تحت يده من كتب ، وليس ذلك بغريب عليه خاصة وأن الأب الراحل قد قام بترجمة أعمال أدبية لمشاهير من أمثال وليم شكسبير وجان جاك روسو .
وسنحت الفرصة لكونراد في تلك السن ليجوب القارة الأوربية بصحبة معلمه الخاص ، حتي إذا بلغ الصبي سن السادسة عشرة من العمر فأعلن عن رغبته في العمل بالبحر مما أثار حفيظة أهله فثاروا ضده بسبب استيائم من تلك الرغبة ، ولكنهم سرعان ما استسلموا للأمر الواقع ولم يجدوا بداً من الرضوخ فسافر إلي مارسيليا عام 1874 م وتدرب هناك ثم عمل بالبحرية التجارية الفرنسية .
واستطاع كونراد أن يعلم نفسه بنفسه اللغة الإنجليزية من خلال المعاملات مع البحارة علي ظهر السفن .
حصل كونراد علي الجنسية البريطانية في العام 1886 م وعمل بعدها علي السفن البريطانية وغيرها في رحلات إلي المستعمرات في الشرق ، استطاع في خلال تلك الرحلات عبر آسيا وأفريقيا كسب الكثير من الخبرات ورأي بعيني رأسه شعوب تلك البلاد ومستعمريها من البيض .
وبعد فترة تبدلت نظرته الرومانسية للبحر والعوامل الطبيعية التي يتسم بها وحلت محلها تلك الفلسفة الواقعية التي تري الخطر المحدق كامناً وغير مرئي في كل المظاهر الطبيعية من بخار وعواصف وأخطار مما جعله بالتالي يشفق علي حياة قباطنة وبحارة السفن وهم يصارعون الأنواء والعواصف في كفاح أقل ما يوصف به أنه صراع مرير من أجل الحفاظ علي سفنهم وحيواتهم .
ولعل أشد ما أثار انتباه كونراد في خلال تلك الرحلات هو الأطماع المادية والقسوة التي تتلقاها الشعوب المستعمرة علي أيدي المستعمرين ..
وهنا وجد كونراد نفسه يوجه قلمه للدفاع عنهم وليعلي من أصواتهم حيث كان يسميهم ( من لا صوت لهم ).
وقد كان من أسباب اعتزاله البحر هو مرضه الشديد بسبب هذا العمل الشاق ، ومن هنا وجد نفسه ممن اختارتهم الكتابة لأن يحترفوها وليصبح روائياًُ يشار عليه بالبنان .
ففي العام 1895 م كان كونراد قد قام بنشر أول رواية كتبها في أثناء رحلاته الأخيرة ، وبعدها تزوج من سيدة إنجليزية تصغره في السن وتقل عنه ثقافة وإدراكاًُ ليجد نفسه يعاني المزيد من العزلة رغم استقراره في بريطانيا .
ولم تنته معاناة كونراد في الكتابة بل ظل بسبب اختياره الكتابة باللغة الإنجليزية ـ التي لم تكن لغته الأم ـ أن يكتب بالبولندية ثم الفرنسية ليضع الكتابة في قالبها النهائي باللغة الإنجليزية ..
وقد شكل هذا الأمر الكثير من الصعوبات لهبالنسبة له خاصة وأنه في بداية حياته الأدبية ولكنه تخلص من ذلك وتميز أسلوبه بالقوة والثراء .
ولما كان من العسير علي أي كاتب أن يعتمد علي قلمه في كسب قوت يومه فقد عاني كونراد أيضاً من هذا الأمر خاصة وأنه ككاتب يجب عليه أن يرضي القارئ الإنجليزي الذي كان وقتها يعاني من محدودية الثقافة ولا تجذبه سوي الكتابة عن المغامرات المثيرة .
وقد استفاد كونراد من قراءاته المتنوعة لكبار الكتاب من أمثال شكسبير وديكنز ومن تجاربه المتنوعة في حياة البر والبحر سواء بسواء وشكل له ذلك زخماً كبيراً اعتمد عليه كمادة للكتابة ، كما شكلت له تجاربه السياسية وعمق فهمه لتلك الحياة وأسراراها منطقة ثراء في هذا المجال ساعده كثيراً .
كتب كونراد العديد من الروايات والأعمال القصصية والمقالات النثرية ورسائل لأهله وأصدقائه وناشريه دونما انقطاع في خلال رحلة حياته التي انتهت بوفاته في العام 1924 م فيما تزيد في عددها عن خمسة وعشرين كتاباً ، ومن أهم رواياته :
ـ زنجي السفينة نرجس ـ 1897م.
ـ لورد جيم ـ 1900 م .
ـ نوسترومو ـ 1904 م.
ـ العميل السري ـ 1907 م .
ـ تحت عيون الغرب ـ 1911 م .
ـ الصدفة ـ 1913 م .
ـ النصر ـ 1915 م .
ومن مجموعاته القصصية :
ـ الشباب وقصتان أخريان 1902 م.
ـ العاصفة وقصص أخري 1903م .
ومن أعماله النثرية :
ـ سجل شخصي 1912 م.
ـ مذكرات عن الحياة والأدب 1921م .
غي ما تركه من مجلدات مختلفة لرسائله .
ومات كونراد في العام 1924 بعد حياة حافلة بالعمل الجاد في آخر مقر أقام به في إنجلترا ( أوزوالدز ـ بيشو بزبورن ) قرب كانتربري وهو في سن السابعة والستين ، وكتب علي لوحة قبره بساحة كنيسة كانتربري العبارة الأخيرة التي خطها في آخر مؤلفاته :
" نوم بعد مشقة ، ومرفغأ بعد عاصفة ، ويسر بعد حرب ، وموت بعد حياة . تجلب أعظم السرور ".
وقد احتل كونراد مكانة كبيرة في تاريخ الأدب الإنجليزي بعد أن ضخ في القصص الإنجليزية دماً جديداً وقوياً ، وكان انتاجه أكبر دليل علي تعاطفه مع الإنسان وقضاياه في كل مكان فكان يدعو إلي التعايش والتعاطف بين شعوب الأرض جميعاًمن خلال أسلوب مرهف وبعد إنساني كببر .


elabbasy_story@yahoo.com