بالي للبيع
... وبعد أن أحكم يديه من موضع العقدة بقبض شديد، رفع الكيس وألقاه على ظهره، ثم أرسل قدميه المرهقتين تخطان حروف جولته الرتيبة على أديم أزقة اعتاد أن ينحت فيها ذات الحروف كل يوم، فأطلق نداءه المألوف والمميز من جديد بصوته المبحوح ...
لم يفارقه حمل ما خف من الأكياس وما ثقل منها منذ أعوام، ولم يخطئ مروره اليومي في أغلب الأحيان أزقة الحي الملتوية ذات اليمين وذات الشمال، كما لم تخطئ مسامع أهل الدور والمارة صوته الجهير، على الرغم من هزاله الشديد، وهو ينادي: "بالي للبيع"، كذلك لم يكن ليتأخر عن إعفاء ظهره مما أناخ عليه لثواني معدودة بين الفينة والأخرى لفتح الكيس ووضع ما تيسر له شراؤه من أواني وثياب قديمة، أو ما صادفه مرميا في طريقه من ورق مقوى، وقنينات زجاجية فارغة، بل إنه لم يكن يتردد في تخليص ظهره لدقائق معدودة من حمله الثقيل وانحناءته كلما بلغ ذات المكان، وإراحة قدميه وساقيه المتورمتين ...
ثم إنه ما إن ينزوي لأخذ قسط من الراحة، حتى يسحب الكيس من على ظهره برفق، فيضعه على الأرض، وبأصابع يديه المرتعشتين يحل العقدة، والعرق الشديد قد كسى وجهه، فيخرج قطعة طويلة من الورق المقوى ليفترشها، فإذا بالأعين تبصره منفردا بصمته وهدوئه، وقد استلقى بعد أن وضع نعليه جانبا، وتوسد كيسه متثائبا ...
د. أبو شامة المغربي
kalimates@maktoob.com
