(5)

" إنسان بلا وراء جثة هامدة " ... قالها عباس المصرى وهو ينهض بعد أن قصصت عليه ماجرى بينى وبينها بالأمس . كنت جافَا معه لدرجة أدهشته . وقلت أرد عليه قبل أن يصل إلى الباب :
- لكن الوراء إذا كان سماً كله ، فيجب أن نجتثه ، كيلا يسرى فى أوصال الحاضر فيدمره تدميرا .
رمقنى ساخراً وقال :
_ ليس الفقر عيباً يشين الرجال ..
وأردف بأسى :
_ إذا كانوا رجالاً .
قلت :
_ لكن الفقر فى غيبة القانون ذل .
وتفصد جبينى بالعرق . عاد إلى مقعده وقد شبك يديه من وراء ظهره .. وأردفت :
- ذلك الوراء حولنى إلى شبح .. إلى كائن لا حياة له . كائن مسجون حتى بعد أن خرجت من السجن . وأوووه .. أنت لا تعرف .. فى وسع أى جندى حقير لم يقرأ فى حياته كلمة واحدة أن يجرك من قفاك ويسب أباك وأمك ، ويضربك بحذائه بل يجعلك تقبل حذاءه ..
- أنت الآن حر ..
صرخت فى وجهه :
- لا .. لست حراً .. لا أحد هنا حر حتى الطغاة هذه أرض العبيد .. أرض الرعب . أنا أدرك هذا .
وغبت لحظات عن الوعى لست أدرى ما كان يجول بخاطرى ، أما هو فأسند ذقنه العريض إلى قبضة يمناه ، وأردفت :
- أنت لا تدرك لأنك لم تجرب .. لم تقع تحت وطأة الظلم .. الظلم ..
وتوقف عقلى . وجعلت أردد كببغاء لفظ " الظلم " .. نعم .. جعلت أردد الكلمة حتى قام عباس وهزنى .. هزنى بعنف وهززت رأسى ، وتذكرت الكلب ، وتحسست وجهى بيدى ، وقلت :
- أنا درست القانون وأستطيع أن أخبرك بحق أننا نحيا فى بلد لا يعد للقانون مكاناً يليق به .. هنا .. القانون سيف فى يد سادتنا . هم صانعوه .. وهم يرفعونه شعاراً لهم فى وجه الدنيا وفى نفس الوقت يغمدونه فى صدورنا نحن ..
وتلون وجهى ، وجعل العرق يتصبب منى بغزارة ، وتمتم :
- اهدأ ..
لطمت الجدار بيمناى وزادت دقات قلبى , وقلت بصوت أقرب إلى العواء :
- ذلك القانون لم يأخذ بثأر أمى .. أمى المصابة بداء القلب حين سقطت فوق الأرض لما ضربها جندى حقير جاء إلينا باسم " القانون " .. لا .. لا .. لا أريد أن أنبش قبراً كم حاولت ردمه ونسيانه .
- لست وحدك ..
- ذلك أدعى للعذاب .
- ما وراءك بالضبط ؟
أشحت بوجهى عنه بينما أردف مُصراً على بعث الوراء :
- من أنت ؟
- كافر ..
وارتجف كمن لدغه عقرب ، وقام مشدوها وكأنما عقدت الدهشة لسانه .. تمتم بعد فترة صمت غلى فيها داخله كمرجل :
- ماذا تقول ؟!
- لقد كفرت بالإنسان ..
وكأنما عادت إليه الحياة ، فابتسم ابتسامة باهتة واحتضننى قائلاً :
- أنت ترعبنى حقاً ..
- قلت لك لا تسألنى عن الأمس . أنا ابن اليوم بل ابن اللحظة .. ليس لى أحلام وما ينبغى لى هذا .. القدرة على الحلم تعنى الحياة ، و لست حياً . ذلك مناخ غير صالح للحياة .
وأردفت بعد لحظة ثقلت على قلبينا :
- زواجى كان محاولة فاشلة للهرب من الأمس .. أردت أن أغرق نفسى فى عالم المرأة المحدود ،لأنسى .. آه .. أنسى .. لكنى أخطأت الطريق ..
- أخطأتَ الطريق !!
- كنت أريد السكن ..
ساخراً قال عباس المصرى :
- ولم تجده ..
- دعك من تلك النبرة الساخرة ..
- وماذا أقول لك ؟
- تنصحها بالصمت ..
- إنها لا تعرفك ..
- وتريد ذلك بعد أن تزوجتنى ..
- من حقها ..
- ومن حقى أن أسكت ، أن أبلع لسانى حتى الموت ..
وأردفت حانقاً :
- لم أكن أريد الزواج .. أنت السبب .. نعم .. أنت .. حتى بعد أن رأيتها كنت أتمنى أن ترفضني.
- لِمه !
- لن تفهمنى ..
- أنت تُعَقد الأمور وتـ ...
قاطعته بعصبية :
- هبنى أنجبت ..هه ..
وضرب عباس كفا بكف وقبل أن يتفوه بحرف أردفت :
- ما ذنب طفل يأتى حياة لا أمان فيها .. نعم .. أنا أمشى فى الطرقات خائفاً ، وعندما ألمح شرطياً أزوغ منه كفأر حقير .. ولِم لا وفى استطاعته أن يجرنى ويسحلنى .. بل فى استطاعة أى حقير أن يبلغ عنى ، لأنى لم أبتسم فى وجهه وأهلل له ، وساعتها سألقى من الهوان ما تهون معه الحياة ..
وطفح الوراء فتدفَّقَتْ الدماء إلى رأسى وارتعشت وتابعت أقول دون أن أرى عباس المصرى :
- وربما أخذوها .. زوجتى .. كما ضرب حقير أمى ولم يرحم أناتها
- . هنا لا ضمان لشئ .. هِه .. كيف بعد هذا أدفع بكائن إلى هذا العالم القذر !
- الغد فى يد الله ..
ها هى ذى الصورة عادت لكن .. متى يخرس ذلك الصوت .. وقلت :
- هذا العالم من صنعنا نحن ..
- لن يدوم حال مهما طال .
- لكننا سنطحن إلى أن يتغير شئ ..
- بتفكيرك هذا لن يتغير شئ ، لأن التغيير رهن بنيتنا نحن بالتغيير وعلى قدر ما نسعى لامتلاك الحياة توهب لنا الحياة .. لم أكن لأتصور أبداً بـ ..
قاطعته وأنا أشيح بوجهى عنه :
- لم أخبر أحداً بأننى المهدى المنتظر .
- ما آسف له أنه زواجك منها .
- وأنا أكثر منك أسفاً .
وخرج ساخطا يضرب كفاً بكف ، وتساءَلت شارداً :
- ترى ماذا كان يظننى ؟ .