النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: مقدمة قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني

  1. #1 مقدمة قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    68
    معدل تقييم المستوى
    17
    مقدمة قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني


    بقلم الأستاذ عبدالرزاق المساوي


    كاتب وناقد من المغرب

    مدخل:
    لا يختلف اثنان – وحتى المعاند لا يجاحد - في أن القرآن الكريم كتاب دعوة دينية يتوخى هداية البشرية والحفاظ على فطرتها التي فطرت عليها وتعريفها بطبيعة ما هديت إليه من النجدين ﴿وهديناه النجدين(البلد:10).. فهو كتاب لتربية الإنسانية –وما أدراك ما التربية- على مبادئ عقيدية حياتية قبل وبعد كل شيء، ولكن ليس بالمفهوم القاصر للدين أي الطقوسي.. وليس بالمفهوم الضيق للعقيدة..
    وأنه كتاب استخدم لتحقيق هذا الغرض كل الوسائل التوضيحية وجميع الأساليب البيانية وشتى الطرق التصويرية التي تسعف الناس في فهم مقاصده ومراميه وإدراك مفاهيمه ومعانيه والوقوف على مضامينه ورؤاه والتعرف على بنائه ومكوناته.. ومن ثمة ندرك أن القصة فيه مكون من مكوناته، هي وسيلة من وسائله وأسلوب من أساليبه لا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال فنية خالصة أو ذات رؤية محض أدبية بمعنى أنها لم تصغ لهذا الغرض، ولكن هذا لا يعني أبدا أننا ننفي عنها ذلك إذ يمكن القول بأنها ليست محض فنية أو أنها ليست لها أغراض جمالية صرف، أو أنها لم تنزل لكي تعتبر ذات رؤية أدبية معينة.. إلا أنها تحمل في طياتها - من بدايتها إلى نهايتها- من القضايا الفنية والخصائص الأدبية والمقومات الجمالية والمكونات الأسلوبية والرؤى الإبداعية والإشارات البلاغية والعلامات الحبلى بالمؤثرات المشهدية والتصويرية والإيقاعية، ما يغري الباحث المسلم على سبر أغوارها والكشف عن أسرارها واستجلاء مكامنها واستقصاء معانيها وفهم مراميها والغوص في أعماقها للكشف عن كنوزها ونفائسها والخوض بكل الأدوات المتاحة في جميع جزئياتها والكشف عن طبيعتها وتفكيك مكوناتها وعناصرها وإعادة صياغتها في إطار الخطاب الرباني ككل.. ومن ثمة يدفعه كل هذا إلى التعامل معها من الناحية التحليلية بأي منهج من المناهج –ما دام قد اكتسب حصانة ربانية على مستوى الفكر والتحليل- التي يرى أنها تساعده على فهم بناء السرد القصصي في الخطاب القرآن سواء كانت مناهج تربوية أو أدبية أو علمية أو معرفية أو ثقافية أو نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو انتروبولوجية، الخ.. مع مراعاة ما لهذا النوع القصصي من الخصائص المميزة والمتميزة وكذلك مع الحذر والحيطة مما قد تحمله بعض المناهج النقدية أو التحليلية من تقصير في النظر أو إفراط في التنظير أو غوص في رؤى غير سليمة أو غير واضحة المعالم قد تؤدي إلى مزالق عقيدية أو تصورية..
    إن القصة في القرآن كانت وما تزال مثار اهتمام كثير من الدارسين والباحثين والمهتمين كل حسب منهجه في القراءة ورؤيته في التحليل وطريقته في التعامل مع الخطابات ككل، ومع الخطاب القرآني على الخصوص ومع المكون القصصي فيه على الأخص.. إلا أن بعضهم إن لم نقل جلهم لم ينج في تفكيره وطريقة عرضه من الشطط، أو لم يفلت من الإخلال بالمعاني الحقيقية أو قل من سوء الفهم ومن ثمة سوء التعامل حتى (بقصد أو بغير قصد).. وكان هذا نتيجة حتمية:
    1* إما للتعامل مع القصة القرآنية بالطرق العتيقة والمناهج البالية والقراءات القديمة التي لم تضف أي شيء يذكر لفهم بنيتها وأدراك معانيها وتحديد مغازيها وتقديمها للمتلقي على اعتبار أنها مكون أساس من مكونات الخطاب الرباني الذي يُتوخى منه رسم خريطة قوله تعالى: ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم( الأنعام:167).. ..
    2* وإما كان نتيجة الحماس المتهور الذي تدفعه السرعة والعجلة أو الطمأنينة الفكرية في الرد على بعض الشبهات التي نعت بها بعضهم الإسلام ككل في فترة من فترات تاريخه الحديث والمعاصر أو نعت بها بعض أو كل مكونات القصة في القرآن الكريم كأسطورية وخرافيته وعدم تاريخية ما جاء فيه من قصص الرسل والأنبياء، ونقله عن الكتب السابقة عنه بل وتحريفه للحقائق التاريخية.. إلى ما هنالك من شبهات طالت الكتب الورقية والإلكترونية.. فكان الرد ألعن من الشبهة نفسها، لأنه أوقع أصحابه فيما أراد الأعداء حينما استفزوهم بأسلوب ذكي واستدرجوهم بشبهات غير علمية فاستجابوا وأجابوا بغير هدى ولا علم، فاستطال الآخر وتمادى في الغي وبدأ يضرب الفكرة الإسلامية بأصحابها..
    3* وإما كان نتيجة للتطبيق الحرفي وغير المشروط للنظريات الفكرية والثقافية والأدبية والنقدية الجديدة الوافدة على عالمنا العربي والإسلامي تحت لواء العولمة الثقافية والفكرية وتأميم الأدوات الإجرائية النقدية والأدبية.. بشكل لا يلائم حقيقة وضع القصة القرآنية ولا يناسب طبيعة بعض قضاياها.. أو يتعارض مع هدف من أهدافها المسطرة في القرآن نفسه، والتي من أجلها ذكرت في هذا الكتاب العظيم..
    ولسنا نقصد بكلامنا هذا أن ما سيجيء في هذه الأسطر من قراءتنا المقترحة والمتواضعة سيكون معصوما من الزلل أو لن ينال منه الخطأ أو لن يعتريه الشطط، ولكن ما نرجوه من العلي القدير هو أن نكون من الموفقين في عرض أفكار جديدة وتأملات صائبة حول السرد القصصي في الخطاب القرآني العظيم بشكل أفضل وطريقة أحسن ومنهجية متكاملة تيسر فهم كثير من غوامض عالمها وتسهل استيعاب دلالاتها الحقيقية ومضامينها الهادفة وتبسط الطريق للعيش في أجوائها والتمتع الروحي بصورها وإيحاءاتها وكذا دفع بعض المشكلات العالقة بفهمها وتفسيراتها والتي تحول بين القارئ وبين الاستنارة بهداها وحكمها وأحكامها أو التنعم بأساليبها وبيانها، أو إقرار العين بأنسها وإمتاعها، أو التلذذ بجرسها وموسيقاها وإيقاعها، أو التمعن في تشخيصها ورسمها للعوالم المختلفة ظاهرها وباطنها قريبها وبعيدها صغيرها وكبيرها...

    وللبحث بقية بإذن الله تعالى..
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: مقدمة قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني..1+2 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    68
    معدل تقييم المستوى
    17
    مقدمة قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني

    بقلم الأستاذ عبدالرزاق المساوي
    كاتب وناقد من المغرب



    1* القصة القرآنية .. لماذا ؟ :
    لا أظن أن أحدا يمكنه أن ينكر أو أن يماري في أن القصة القرآنية قد حضيت بالاهتمام البالغ والعناية الشاملة والحفاوة الكبيرة من طرف المفسرين والشراح والمؤرخين، كما ظفرت بالقسط الوافر من مجهودات الدارسين والأدباء المهتمين، وفازت بعصارة فكر الباحثين المختصين في كثير من المجالات..
    فلقد كتب عنها الكثيرون أسفارا وكتبا ومجلدات، أو مقالات ضمن مجموعة دراسات، أو أبحاثا مستفيضة نشرت على صفحات المجلات الورقية والإليكترونية..
    وناقش العلماء الأجلاء خصائصها ومكوناتها وعناصرها ومقوماتها وتفسيراتها وأسسها وامتداداتها، وما أحاط بها من تأويلات المؤولين وأقوال المتقولين، كما تحدث بها وعنها الخطباء المفوهون في خطبهم وفندوا عنها إفك الأفاكين وآراء المستهترين.. ووعظ بها الوعاظ المبرزون في دروسهم، وأبرزوا فيها مواطن العبرة والعظة للمهتمين.. واستعملها المربون المحنكون في مدارسهم ومناهجهم التربوية والدراسية لتكون قدوة للأطفال والمتعلمين.. واستغل الكتاب والأدباء مضامينها ورؤاها وحتى أسلوبها وشكلها وقالبها وإطارها وطريقة عرضها وتصويرها للأحداث، وكيفية تعاملها مع الشخصيات في رصد مكوناتها النفسية وعاداتها الاجتماعية وطرق عيشها.. وكذا طريقة إدارتها للحوار والنقاش وتسجيلها للصراع والمشادات، وكيفية تعاملها مع الواقعي والخيالي في تركيب المعاني وضبط المفاهيم ورسم الرؤى وتصوير اللغة... وكذلك كيفية استغلالها للفضاء – الزمان والمكان -.. وقضايا أخرى كثيرة في العديد من الأبحاث وفي شتى ميادين المعرفة وخاصة أن النص القرآني يعتبر أغنى الآثار السردية العربية بأنواع السرد لما يتوفر له من مقومات ومرتكزات وخصائص السرد العبقري المعجز..
    إلا أن هناك سؤالا يتبادر إلى الذهن وينط على الفكر ويبقى عالقا يحتاج وحده إلى وقفة طويلة وهو: لماذا لم يتمكن الباحثون الإسلاميون في اللغويات والأدبيات والسرديات من استكشاف مستويات السردية وكثير من القضايا الأدبية المبثوثة في السرد القرآني ذي الطابع القصصي قبل الخوض في السرديات الحديثة من طرف ثلة من الغربيين ومن شايعهم من العرب العلمانيين؟
    وبعد: فلماذا يا ترى هذا الاهتمام المتزايد؟ ولماذا هذه العناية المتكررة؟
    لماذا هذا التهافت على قراءة القصة القرآنية ودراستها باستمرار؟
    لماذا التفكير في التعامل معها بكل المقاييس الأدبية والمستويات القرائية؟...
    لماذا اهتم بها العديد من المفكرين حتى أولائك الذين لا يؤمنون بوحييته؟..
    وبعبارة أوضح وأبلغ في تبيين ما نقصده:
    لماذا نريد أن نضيف توقيعنا وأن نكتب نحن في هذا الموضوع على الرغم من كثرة ما كتب فيه من الأسفار والمجلدات والأبحاث والدراسات والمقالات والمحاضرات والمواقع الإلكترونية المهتمة..؟.
    ألم تكن هذه القصص تتناسب مع عصر خلا وزمان مضى وبشر أجلهم انقضى.. والآن لم يعد هناك حاجة ملحة لمثل هذه المرويات والمحكيات في زمن العولمة السردية والاقتصاد الأدبي والهندسة الثقافية وهلم جرا من الأسماء والمسميات التي تزخر بها الساحة الثقافية في عصر الإليكترونيات..؟؟؟؟؟
    والإجابة عن السؤال العريض الوجيه الأول يسيرة إن شاء الله تعالى سنخصص له مقاما فيما بعد.. أما الرد على التساؤل الاستنكاري فهو أيسر لأن جل– إن لم نقل كل - واضعيه يتعاملون مع القرآن العظيم وقصصه انطلاقا من تبنيهم لبناء فكري عدائي لم يستطع أصحابه التخلص بعد من كثير من المشكلات الفكرية التي تعتمد السياسة الإقصائية والثقافة الاستئصالية... ولذلك لم يستطيعوا أن يصعدوا في سماء القرآن السامقة.. ولم يتمكنوا من التسامي إلى ذروته.. أو فهم الإعجاز اللغوي والأدبي والبلاغي والموضوعاتي الذي يزخر به..
    إننا نرى أن العمل لازال ضروريا وسيبقى مستمرا من أجل التمتع بمكنونات هذا الكتاب العظيم وذلك:
    أ* لاعتقادنا بأن القرآن الكريم- وليست القصة إلا جزء لا يتجزأ منه ومكونا أساسا لا ينفصم عنه – كائن حي ومنبع ثر لا ينضب معينه ولا تنتهي أسراره ولا تبلى ذخائره ولا تنقضي عجائبه ولا يبخل عمن يستزيده ولا يشبع منه من يتدارسه على مر الأوقات وتداول الأيام وتقادم الأزمان، فهو علامة فريدة على جبين الدهر لا تذبل ولا تبهت بل تزداد جمالا وبهاء وحسنا ورونقا، كما أنه دوحة غناء ملأت كل مكان بموسيقى تصويرية خاصة ومتميزة ومتغيرة ومختلفة لا تتفتق إلا عن جديد ولا تأتي إلا بمبتدع، كما أنها دوحة ملأت كل الأزمان والعصور نغمات طيورها وعصافيرها.. وإيقاعات طبيعته الرنانة والخلابة التي تأسر المتلقي وتملك عليه لبه إلا أن يكون من العميان..
    وهو قبل هذا وذاك عقيدة ومنهاج، وفكر وسلوك، ورؤية وتصور، وقواعد وأسس، ومنهج وشريعة تغمر حياة الإنسان بالفرحة والطمأنينة والنشوان في جميع الأزمان.. فهو لا يمل بأي حال من الأحوال على خلاف ما نلمسه فيما دونه.. " سئل الإمام الصادق رضي الله عنه : ما بال الخطب والرسائل والأشعار تمل سريعا والقرآن يعاد ولا يمل؟ فقال: لأن الحاجة تنقضي بانقضاء ذلك، والقرآن حجة لأهل كل وقت وزمان، فلذلك هو أبدا غض "(1)..
    فإذا كان القرآن الكريم على هذا الشكل وبهذه الخصائص وهذه الفرادة فإن القصة مكون أساس من مكوناته، وعنصر رئيس من عناصره وجزء كبير من أجزائه، ويتربع على القسط الأوفر بين دفته.. ومن ثمة فهي تحمل الخصائص نفسها والمقومات عينها والأسس ذاتها والأساليب القرآنية جميعها.. وتتميز بالميزات والمميزات التي يتحلى بها الخطاب القرآني ككل، ولا تنأى عن ذلك قيد أنملة..

    ب* لأن القصة القرآنية تفرض ذاتها على كل من له صلة بالقرآن الكريم قراءة أو مدارسة لكونها تمسك بتلابيب الحيز الأكبر من فضائه الكريم، وتأخذ بمجمع خيوطه السليم، وتسيطر على مساحة شاسعة فيه، وتحتل مكان الصدارة ضمن موضوعاته، وتمثل أعلى مراتب أسلوبه الدعوي والتصويري، وهي قريبة من كل الشرائح الاجتماعية فهما وإدراكا وتمثلا.. كما تتقدم بين يدي " القارئ أو السامع أو المشاهد " المتلقي بشكل من التصوير الرائع والتمثيل المثير والتجسيد الحي والتشويق الفائق والأحداث المباشرة والشخصيات الفاعلة والمنفعلة والمتحركة باستمرار في الزمان والمكان وفي قلب الحدث وتقلباته من بدايته إلى نهايته بأفراحه وأتراحه ومآسيه ومواساته، كما أنها تحتوي على خصائص فنية رائعة ومكونات أدبية معجزة ولمسات جمالية بديعة وقيم ذات فاعلية وجاذبية تحمل المتلقي إلى عالمها الحكائي والقصصي والسردي ليعيش لحظات في كنفها يتتبع آثارها الحقيقية، ويرصد حركاتها وزفراتها وسكناتها الطبعية وغير الطبعية، ويسترشد بشخصياتها ويعيش أجواء أبطالها النفسية والفكرية والاجتماعية.. ويرحل معها جميعها في أغوار الزمان وأبعاد المكان في كنف تصوراتها وطرق عيشها ويتمتع بجمال القصص وجماليتها، ويسبح في فنيتها ويرتع في أدبيتها ليستفيد من مضامينها ويمتح من رؤاها التقويمية للحياة البشرية عبر مسيرة زمانية طويلة آمادها وسلسلة مكانية مختلفة حلقاتها..

    ج* لأن أسلوب القصة في القرآن الكريم ونقصد بالأسلوب الشكل والطريقة: شكل عرض أحداث القصة وطريقة عرضها.. أسلوب يسير وبسيط ومقنع وقريب من الإفهام، وسهل على الإدراك ومعجز في التبليغ والإبلاغ.. أسلوب ممتع من جميع المناحي، مفيد من الناحية الإيقاعية والموسيقية ومن الناحية السردية والجمالية ومن الناحية الموضوعاتية والواقعية ومناحي أخرى عدة تتجلى من داخل القصة ذاتها.. وبما أن القصة تتناول تقريبا كل مواضيع القرآن وتجمع بين محتويات مواضيعه، وتحتوي على جل أو أكثر مراميه وأغراضه، وتستطيع بما تتمتع به من أسلوب القص وطريقة الحكي أن تحقق كل أهدافه.. فإن الاهتمام المتجدد بها والعناية بعناصرها وتحليل مضامينها والغوص في كشف مكنوناتها وتجلية أسرارها ورصد بنياتها.. ما هو إلا عناية بذلك التصوير الدقيق لمعاني القرآن الكريم وموضوعاته ومحتوياته ومفاهيمه وما يريد عرضه.. فهي تشخصها وتمثلها وتحييها في زمان ومكان وأحداث ووقائع وشخوص، وتفرغ عليها حركية منقطعة النظير يتمثلها المتلقي البصير، ويعيش معها أحسن اللحظات العارف المتذوق، ويستشعرها المؤمن الصادق، ويحتج بها الدارس الخبير، ويفخر بها الأديب الملتزم والقاص المفنان..

    د* لأن القصة الأدبية الآدمية في بعض نماذجها استطاعت أن ترتقي إلى مستويات عالية فنيا وجماليا وموضوعاتيا حتى أضحت مسيطرة على عقول الناس وأنفسهم، وعلى الخصوص منهم الشباب الذين أصبحت القصة الأدبية متمكنة منهم ومن أحاسيسهم ومتوغلة في وجداناتهم، توجه شعورهم وفكرهم بعد أن أسرت عقولهم، وتتلاعب بعواطفهم وأحاسيسهم بعد أن ملكت عليهم قلوبهم، وتستغل شبابهم وفتوتهم لتذهب بهم في متاهات الحياة كل مذهب وتسلك كل مسلك وتهيم في كل واد حتى حق فيهم ما حق في الشعراء قبلهم في مثل قوله تعالى: ﴿والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون *( الشعراء:225).. ولقد زَهِدوا في القصة القرآنية أو زُهِّدوا فيها وأفهِموا على أنها قصص دينية غير مجدية أو أساطير يعتمدها الدين تحمل أفكارا خيالية، وفي أحسن الأحوال فهي – في تقديمهم لها - لا تتمتع بالفنية والجمالية والأدبية والموضوعية التي تتمتع بها القصة البشرية كما أنها لا يمكن أن تؤثر في الحياة العصرية ولا تجدي فيها نفعا، ولا تبعث على النشاط والحيوية والدعة ولا تلبي مطالب المرحلة الحضارية، ولا تتوفر على عناصر التشويق والمرح والتسلية، ولا تملك في طياتها ما وصلت إليه القصة الأدبية من مستويات تقنية وأسلوبية - ألا ساء ما يزعمون-...
    لا ندري لماذا أصحاب مثل هذه الأحكام الجاهزة الجائرة لا يتجشمون عناء البحث والدرس والتنقيب ليتمكنوا من معرفة صدق أو كذب ما يشاع بينهم دون تمحيص أو دليل يذكر.. ولهذا يمكن أن نعتبر هذه القراءة الجديدة للقصة القرآنية بمثابة حافز ومثير يرغب الباحث عن الحقيقة في استكناه الخطاب القرآني بشكل عام ومدارسته وفي جانبه القصصي بشكل خاص..

    هـ* لأن القصة القرآنية تعرضت – قديما - لكثير من التفسيرات المشبوهة التي ذاعت في المجتمع الإسلامي عن طريق دخول كثير من الأمم والأقوام إلى الإسلام فرادى وجماعات برواسب فكرهم وثقافاتهم وبقايا دياناتهم.. كما تعرضت لكثير من التأويلات المشوهة والتي كانت في الأصل مبنية على المفاهيم الإسرائيلية والأخبار الكتابية في نسختها المزورة.. كما أوغل بعض المفسرين في تفسيرها لما استعصى عليهم فهمها، وافترضوا افتراضات غير منطقية ولا تناسب القواعد الشرعية.. وذلك للربط بين أحداثها، أو تأويل ما سكت عنه الخطاب القرآني من وقائعها.. أو ملأ الفراغ الذي بين حلقاتها حين جمعها..
    كما تعرضت القصة القرآنية – حديثا - لقراءات مختلفة المشارب ومتعددة الاتجاهات.. منها ما هو نفسي ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو ثقافي ومنها ما هو حضاري وما هو أسطوري وما هو انتروبولوجي، وما هو خليط من كل ذلك.. كما حاول بعضهم الآخر مجاراة العصر في مناهجه التحليلية وطرقه الدراسية دون اعتبار للخصوصية فنالت منها – أي من القصة القرآنية - تحليلات الأصدقاء المغلوطة وأقلام الأعداء المتسلطة وأفكار المغرضين المسمومة..
    لقد أحاط بالقصة القرآنية جو رهيب ومخيف ملئ بما لا يرضى عنه الشرع ومسيج بما ينافي أصلا أو أكثر من أصول الدين، أو ما لا يجوز في حق أحد من المرسلين الذين يعتبرون بلغة الأدب أبطال القصص القرآني، أو ما يخالف الحكمة من قص هذه القصص أو ما يخدش الروح الإسلامية أو ما يبعث على الاستهزاء والاستهتار بأمور الدين، كل هذا حصل قديما وحديثا فقد استغل بعض المعاصرين ما ورد من إسرائيليات وتفسيرات قديمة شاذة وما جاء عند أصحاب بعض الكتب من شطحات صوفية ليؤولوا هم بدورهم القص القرآني حسب هواهم.. أو أولئك الذين اعتمدوا منهج التحليل النفسي المعاصر.. أو المنهج الأنتروبولوجي.. أو المنهج التاريخي المادي..
    فإذا كان شيء من القرآن الكريم تعرض لمشكلات كثيرة بسبب إقحام المفسرين للرأي الأسطوري.. أو مسته شطحات المؤولين من القدامى والمعاصرين فإنه سيكون القصص القرآني..
    إن هناك ممارسات تعسفية لحظناها في بعض كتب التفسير والتاريخ والأدب والدراسات المختصة تلوي عنق الخطاب القصصي في القرآن الكريم.. شوهت الصورة الحقيقية له كخطاب هادف ليساير وضعا فكريا وإيديولوجيا معينا، وحجبت النظرة المتوخاة من وروده، وحالت بيننا وبين الحكم والأهداف التي صيغ من أجلها لنتيه كمتلقين – قراء أو مستمعين أو مشاهدين - في نقاشات فارغة وحوارات جوفاء وكلام لا طائل تحته ولا وراءه، ونضيع في بحر أساطير الأمم الغابرة وحكايات المفسرين التائهة وروايات إسرائيلية تافهة ما أنزل الله بها من سلطان.. ومن ثمة ندخل في فراغ روحي رهيب وضلال عقيدي غريب ومتاهات سلوكية وانحرافات أخلاقية ضل فيها أكثر من كان قبلنا ويعيش فيها أغلب من معنا..
    نعتقد أن هذه الأسباب – دون كثير غيرها - كافية للتدليل على أن القصة القرآنية في حاجة ماسة وأكثر من أي وقت مضى وبشكل مستمر إلى مزيد تأمل وإمعان نظر وإنعامه وإعادة قراءة مفيدة ومستفيدة من كل العلوم المتاحة التي تعتبر جادة في طرحاتها ومتعمقة في تحليلاتها ومتزنة في منطلقاتها ومتماسكة في أسسها ووسطية في رؤيتها ومنطقية مع نفسها ومتوازنة في معطياتها وحكيمة في نتائجها.. وذلك على خلفية الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم]الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدهافهوأحق بها [ (رواه الترمذي وابن ماجة) وذلك من أجل العمل على ملإ فراغات كثيرة تحدثها القراءة العادية أو البسيطة في عقل ووجدان وتصور المتلقي، وكذا على إفراغ تلك المليئة بما ينافي أو لا يلائم.. كما أنها في حاجة ماسة إلى أقلام جادة تعمل على استخراج مجموعة من المعادن النفيسة المكنونة في موضوعاتها، والأسرار الربانية الموجودة في أحداثها، والمعجزات التاريخية المصاحبة لشخصياتها، ومصائر الشخوص فرادى وجماعات من خلال سلوكياتها، وتعمل أيضا على توضيح مزايا بديعة متخفية في أسلوبها وإعجاز كبير في لغتها بمفرداتها وألفاظها وتراكيبها، وتسمو بها وبكل مكوناتها ومشتملاتها إلى المكانة التي هي عليها في أصلها الوحيي (إن صح هذا التعبير) والتي نزلت من فوق سبع سماوات وهي متبوئة لها، وكذلك تعمل هذه الأقلام الجادة على إبعاد كل ما طرأ عليها من التفسيرات الدخيلة قديمها وحديثها، وعلى دفع كل ما شابها من شوائب التحليلات المعاصرة المحلية والمستوردة..
    ونحن لا ننكر أن من علمائنا الكبار وشيوخنا الأفاضل وفوارس هذه الأمة الأشاوس في هذا الباب من تصدى لهذا الأمر وأعطى فيه ما تيسر له من العلم والمعرفة كل حسب موقعه وتخصصه أو الجانب الذي أثاره وحرك فضوله.. لكن أمر القص القرآني لا يقف عند هذا، فمن طبيعته التي يمتحها من الطبيعة القرآنية ككل أنه يدفع للمزيد من كشف خبايا هذا الموضوع الذي تتجلى فيه أسرار كثيرة من حين لآخر.. وهذا كما أشرنا من قبل وكما هو مؤكد طبع القرآن وطبيعته..

    ***يتبع***
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: مقدمة قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    68
    معدل تقييم المستوى
    17

    2* مكانة القصة في الخطاب القرآني:

    للقصة القرآنية مكانة متميزة ومنزلة متفردة في الخطاب القرآني ككل من حيث الكم ومن حيث الكيف، من حيث الموضوع ومن حيث العرض، من حيث المضمون ومن حيث الشكل، من حيث المعنى ومن حيث المبنى، فهي ذات خصائص ومميزات على المستويين الكمي والكيفي..
    * أما من حيث الكم فإنه يظهر جليا شغلها لمكان شاسع على خريطة النص القرآني، واستيلاؤها على مساحة واسعة وأكثر من غيرها من المواضيع التي يزخر بها الكتاب العظيم.. فهي تتربع على أكبر عدد من آياته لا يوجد موضوع آخر بعينه استطاع أن يأخذ الحيز نفسه الذي شغلته هي.. إذ يمكن القول بأن القصة القرآنية استطاعت أن تحصل على ما يقرب من ربع القرآن الكريم.. وهذا لا يخفى على أي متلق لكلام الله جل جلاله فنظرة إحصائية تحليلية مختصرة جدا تكفي للتدليل على أن عدد القصص تجاوز العشرين قصة دون احتساب قصص السيرة النبوية المحمدية وما له ارتباط بزمن نزول الوحي، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الاهتمام الذي أولاها إياه رب العالمين، وعلى المكانة التي حضيت بها، والمرتبة التي تبوأتها لتعبر أحسن تعبير بالمشهد والصورة أولا عن مجموع الوظائف والأغراض التي من أجلها أنزل القرآن الكريم بشكل عام.. ولتؤدي ثانيا الدور الذي من أجله سيقت هي نفسها في كتاب الله عز وجل على أحسن الوجوه، فهي مبثوثة في كل مكان من القرآن الكريم، ومنتشرة تقريبا في أكثر سوره وبشكل يجعل المتلقي على اتصال مباشر ومستمر ومتواصل بما تحمله من رؤى ونظرات إسلامية، وبما تطرحه من مفاهيم ربانية حول مجموعة من المنظومات المتجلية في الكون والحياة والوجود والإنسان والغيب والشهادة، إن لهذا الوجود القصصي الكبير أهدافا توجيهية وغايات تربوية ومرامي تعليمية وإشارات ثقافية ووقفات علمية وقبسات معرفية ولمحات تاريخية وومضات إيمانية.. فهي قصص ليست للتسلية كما أنها ليست للتحلية وليست لملإ الفراغ أو شغل الوقت وتضييعه وليست لمجرد الحكي والقص والرواية.. كما أنها ليست قصصا للتاريخ الجاف من ماء الحقيقة الممتلئ بماء الخيال، الفارغ من محتوى العبرة والعظة والخالي من الأهداف الجليلة، كما أنها ليست تسجيلا للأحداث الماضية، وما قدمت الأمم الغابرة في حياتها، وما أسلفت الشعوب المندثرة في دنياها، وما قامت به البشرية في مسيرة وجودها على وجه هذه الأرض المديدة وفي هذا العالم العريض وفي تلك الأزمنة الطويلة المتلاحقة..
    إنها قصص تشخص أهداف الرسالة المحمدية في مجملها إن لم نقل بأكملها، لذا جاءت بتلك الحدة وتلك الكثرة وإن كانت كثرتها تعتمد في الأصل على التكرار في مفهومه الإيجابي، وليس كما تداوله بعضهم.. فإن في التكرار حكمة وإقرارا فالشيء إذا تكرر تقرر، وخصوصا إذا كان يتحلى بالفنية العالية ويكتسي الجمالية الرائعة.. فها هي قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل أطول قصة على الإطلاق تداولا من ناحية، وتوزعا على ما يزيد على ثلاثين سورة في القرآن الكريم من جهة ثانية، وتبادلا لعرض مشاهدها الكثيرة في كل مرة وفي كل سورة بما يقتضيه السياق وما تحتاجه الرسالة المحمدية من تركيز، وما يفيد المتلقي ﴿ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ﴾ (سورة ).. ومع هذا فهي لا تمل وتسأم بل تحافظ على الخصائص التواصلية في علاقة المتلقي بها وذلك لما تتمتع به من جمالية أدبية وسحرية فكرية.. وسوف تكون لنا وقفات مع البناء الفني والبنية الجمالية في القصة القرآنية لاحقا إن شاء الله تعالى...
    * وأما من حيث الموضوع فإن القصة القرآنية تحتوي على الخطوط العريضة والمهمة بل والأساس لجميع مواضيع القرآن وأهدافه ومغازيه، وأكثر من ذلك إنها تعتبر الدليل الحي والتعبير الفعلي والمكون الحركي التشخيصي الرئيس للمجال النظري الذي يزخر به الخطاب القرآني ، أي أن الأوامر والنواهي الإلهية الموجودة في كتاب الله تعالى بشكل مباشر ووعظي يمكن أن نجد مصداقا لها في حياة تلك الشخصيات التي سجل القرآن بعض مآثرها وخاصة ما يخدم الهدف القرآني كما قلنا.. ومن هنا جاءت المكانة المتميزة للقصة، فهي تعبر تعبيرا صادقا وحركيا وواقعيا وتصويريا عن كل ما أتى القرآن لتبليغه للناس.. انطلاقا من تصوير حلقات حياة تلك الكوكبة المباركة من الأنبياء والرسل ومن تبعهم من الناس، وأولئك الأقوام الذين عصوهم ولم يتبعوا أمرهم ولم يمتثلوه، أو ما سار في مسار القصة والحكاية والرواية والتمثيلية..
    إن القصة بمثابة التشخيص الإنساني والتجسيد الواقعي والتصوير السينمائي لكل معاني ومضامين ومحتويات النصوص القرآنية..
    فمثلا نجد القرآن الكريم جاء جملة وتفصيلا لتحقيق هدف أسمى وغاية أزكى وهي الدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإفراده سبحانه بالعبودية على قاعدة ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ (الذاريات:56 )، فتأتي القصة بشخصياتها إنسانية كانت أو حيوانية.. وأحداثها ووقائعها ومساراتها، بقصها وحكيها وحوارها وصراعها وحبكتها وعقدتها وتأثيراتها التقنية والفنية واللغوية والأسلوبية ولمساتها الجمالية.. تأتي بكاملها أو مفرقة مرة أو معادة ومكررة قصيرة أو طويلة صغيرة أو كبيرة، تأتي لقطة أو لقطات.. تأتي محملة بالمفاجئات لتخدم هدفا رئيسا هو بناء ذلك المبدإ، مبدإ التوحيد على أسس واقعية، وتعمل على إبرازه وإيضاحه وتبيانه والتأكيد عليه من خلال تصوير حركي وسلوك عملي ومعطى واقعي، فما من نبي أو رسول على سبيل المثال – وهم شخصيات وأبطال أغلب القصص القرآني – إلا وجاء يدعو قومه ومن خلفهم إلى إفراد الله تعالى بالوحدانية وتخليص العبادة له وحده سبحانه من كل الشوائب التي تعلق بها بين الحين والحين على مر التاريخ، وتداول الأيام وتعاقب الأقوام.. بل حتى تلك القصة القصيرة التي بطلها شخصية حيوانية "الطائر الهدهد" تصور هذا الهدف وتعمل على تحقيقه في صياغة بديعة وأسلوب جمالي رائع يكون سببا في نجاته من وعيد سليمان عليه السلام كما سيكون التوحيد نجاة لصاحبه من النار.. جاء على لسان الهدهد الطائر الجميل ﴿إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم* وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون* ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون* الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم﴾ (النمل: 26)
    * ومن المواضيع التي تناولتها القصة في القرآن موضوع الإيمان بالرسل والأنبياء والعمل بمقتضى ما بعثوا به وما أوحي إليهم من عند الله تعالى.. وهذا الأمر موجود بطبيعة الحال في ثنايا الخطاب القرآني ككل من غير القصص.. كما يصور الخطاب القرآني مصير المعاندين للرسل والجاحدين بدين الله تعالى والمتطاولين على خلقه سبحانه والواقفين عقبة كأداء في وجه الدعوة إلى الله عز وجل.. إن مصير هؤلاء كما في القرآن الكريم نراه مجموعة من المشاهد والأحداث في قصصه، نعيش في أجوائها ونتصورها ونتصور فيها ومن خلالها ذلك المصير وهو يتحرك بكل ثقله وأشكاله وبكل ألوانه وأنواعه في حياة نماذج من البشر يقصها علينا الكتاب العظيم قصا لنجمع في وعينا وإحساسنا بين الوعظ المباشر المعتمد على الترغيب والترهيب أو الإرشاد الرباني المبني على أسلوب الأمر في شقيه الإثباتي والنفيي "افعل أو لا تفعل".. وبين أحداث الواقع المعيش والحركة الحية التي مثلتها تلك الكوكبة المباركة من خيرة خلق الله عز وجل، والأقوام المختلفة التي عاصرتها، وذلك في كل ما جاء به الإسلام..
    إذن فالقصة أسلوب تصويري وتشخيصي وتمثيلي وتوضيحي يمتلئ حيوية وحركية وواقعية يعرض معاني القرآن الكريم ومواضيعه ومضامينه ومحتوياته في شكل سرد أو حوار أو جدال أو صراع أو عقدة أو حبكة أو حركات وسكنات أو أحداث ووقائع أو حكي أو روي بطريقة تجمع بعض ذلك أو كله أو جله.. تقوم به مجموعة من الشخصيات أفرادا أو جماعات من جميع الأصناف في فضاءات مختلفة وظروف مغايرة وبأشكال متعددة وعقليات متنوعة..
    * أما من حيث الشكل الذي به يتم العرض أو الطريقة التي تم بها طرح القضايا السابق ذكرها فإن أسلوب القرآن موحد من أوله إلى آخره وفريد في وحدته، ولكن هذه الوحدة تتكون من مجموعة من المختلفات، أي أن وحدة الأسلوب التي نلحظها في كتاب الله عز وجل تنبني على تعددية تزيدها فصاحة وبلاغة ونضارة وحلاوة وطلاوة وماء زلالا ورونقا وجمالا وتنسيقا.. فهذه الوحدة لم تتجل ولم تتأكد لو لم تكن تلك التعددية في مستويات الخطاب القرآني الكريم..
    إن الأسلوب القرآني يعتمد التصوير أساسا له في تبليغ رسالته وتربية الناس على مبادئه، وهذا التصوير يقوم على أسس لغوية متينة.. فبالمفردة الصحيحة الفصيحة والجملة القوية المتينة والتركيب العالي البليغ والسرد الشيق المعجز يصور المعاني الرائعة التي يريدها ومن ثمة يرسمها بريشة بديعة راقية ورائقة مستخدما كل ألوان الطيف اللغوية والأسلوبية وكل الألوان الكائنة والممكنة التي تزخر بالحياة وتتميز بالحيوية وتتفنن في التنسيق بين ذلك مع تسليط الأضواء الكاشفة لجمالية الصور تلك، حتى إنك لتجد نفسك أمام إن لم نقل في قلب لوحات فنية رائعة ومدهشة، وتسبح في إطار فني واسع وتتمتع بجمالية مثيرة ومذهلة ولغة أخاذة معجزة.. تأخذ الألباب وتأسر العقول وتملك القلوب وتسيطر على الجوارح وتمسك بالإحساس وتذهب بالوجدان وتشد إليها المتلقي شدا، فلا يسعه إلا أن يعترف بالانبهار أمام تناسقها وبالخضوع أمام نظمها وبالخشوع أمام نظامها وبالعجز أمام سلطان فنيتها وجماليتها.. ويتمثل الإعجاز القرآني فيها ويبرز التحدي الإلهي من خلالها كما يتجلى ضعف الخلق أجمعين أمامها وعدم القدرة على الاستجابة للتحدي القائم في الزمان والمكان المستمرين المتواصلين بدون انقطاع.. وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا * ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا * ﴾ )الإسراء:89(.. وصدق سبحانه إذ يقول أيضا:﴿.. قل فآتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * (يونس: 38).. ويقول أيضا: ﴿.. أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (هود: 13)..
    هذا هو التحدي القرآني بشكل عام، وتأتي القصة لتأخذ النصيب الأوفر من هذا التحدي، ومن ثمة فإنك واجد فيها التصوير في أعلى مراتبه وأبهى صوره وأحلى مواده وأرقى أدواته وأزكى أهدافه، إنه أسلوب قصصي يعتمد عدسة لغوية متمكنة من أدواتها تنقل أحداثا ووقائع تاريخية حقة وصادقة تصهرها في بوتقة لفظية رائعة وتسبكها بتراكيب بلاغية زاهية وتبعث فيها الحياة بمائها العذب الزلال وتزرع فيها روحا تشع بالأنوار الربانية وتزدهي بالأضواء القدسية وتوحي بالجمالية الطاهرة وتومض بالفنية الخالصة وتعبق بالمعاني السامية، كما تنشر فيها حيوية ولطفا تجعل المتلقي (قارئا أو مستمعا أو مشاهدا) يتصور وقع كل لفظة بعد أن يحس بها الإحساس الكامل، ويتأمل جرس كل كلمة بعد أن يستشعرها كل الاستشعار، ويتمثل فحوى كل جملة بعد أن يتصورها التصور التام، ويستحضر كل التعابير في مخيلته حركات تنبعث فيها ومنها الحياة فينفعل وكأنه هو نفسه جزء من المشاهد التي تعبر عنها القصة وتصورها، وذلك لكي يعيش بروحه ونفسه وعقله ووجدانه وبكل كيانه مع الأحداث المقصوصة، ويتحرك في كنفها ويشارك في تطورها، ويمشي في ظلالها، ويتفاعل معها ومع كل الشخصيات الرئيسة أو الثانوية وهي تتحرك في الزمان والمكان والإطار الذي رسمه القرآن الكريم بريشته المعجزة الرائعة عبر سوره وآياته وجمله وألفاظه.. أي عبر نصوصه فـإن ((( كل بنية إشارية تنقل معنى محددا ومكتملا هي نص ))) (2).. بل قد يحمل ذلك الزمان الغابر إلى زمانه الحاضر فكأنه لحظة من لحظات حياته المعيشة حتى لقد يتم بذلك نوع من التماهي..
    يظهر إذن مما سلف أن القصة في القرآن الكريم تتمتع بمكانة خاصة، فهي من جهة الكم كثيرة الورود ومتفرقته على مستوى الفضاء القرآني وإن كان مبدأ التذكير بالتكرار وارد.. ومن جهة العرض والتقديم فقد جمعت القصة طرائق الكتاب العظيم في الدعوة و منهجه في التبليغ ومنهاجه في التواصل كما احتوت على فنية معجزة بينة وتحلت بأدبية رائعة زاهية واكتست جمالية إبداعية بديعة وامتازت بطريقة تربوية فريدة.. ومن جهة الموضوع فإنها تكاد تطرق أبواب كل المواضيع التي جاء الإسلام من أجلها وإن كانت لم تفصل فيها ولم تسهب، واكتفت بالإشارة أو التلميح في أغلبها..

    //**++.. يــــتـــــبــــع ..++**//
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: مقدمة قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    68
    معدل تقييم المستوى
    17
    //**++.. التتمة ..++**//

    * تشخيص القصة لموضوعات القرآن العظيم :
    إن القرآن كما سبقت الإشارة إلى ذلك تناول كل ما تحتاج إليه البشرية في حياتها الخاصة والعامة، الدينية والدنيوية والأخروية، وما يربط بينها من روابط.. وطرق مجموعة من المواضيع المختلفة أجمل في بعضها إجمالا وفصل في أخرى تفصيلا حتى إنه لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وأوضحها وبين كل ما يمت إليها بصلة وشرح مكوناتها وخصائصها وكشف عن إيجابياتها وأبرز سلبياتها أو أشار إلى ذلك وأومأ، وسكت عن ثالثة ليس سهوا ولا نسيانا ولكن رحمة بالمتلقي ومراعاة لظروفه المختلفة وأحواله المتقلبة وبيئاته المتعددة وأزمنته المتعاقبة ومحيطه وعلاقاته المتشابكة وارتباطاته المتغيرة ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء (الأنعام: 39)..
    وقد جمع العلماء كل موضوعات القرآن العظيم عند دراستها و تقنينها وتيسيرها للتلقي تحت مصطلحات رئيسة جعلوها عناوين يروجونها فيما بينهم ويعتمدونها في أبحاثهم ومؤلفاتهم، وأشهرها ما اصطلح على تسميته بـ" العقيدة " و" العبادات" و"المعاملات ".. ولقد فصلت الآيات القرآنية وكذا السنة النبوية الشريفة هذه الأمور وأعادت بشتى الأساليب والطرق.. وتأتي القصة لتؤكد ذلك ولتكون نوعا من أساليب القرآن الكريم في التبليغ والدعوة وبسط الموضوعات التي يتناولها.. وتكفينا - تمثيلا لما نقصد إليه - إطلالة رزينة على مجموع القصص التي وردت في سورة "الأعراف" فقط لنستحضر جل الموضوعات - كما سبقت الإشارة - المنطوية تحت العناوين الثلاث الرئيسة السالفة الذكر" العقيدة والعبادات والمعاملات"..
    فلقد انتقلت الآيات الكريمات في السورة المباركة من الحديث عن قدرة الله سبحانه وتعالى على الخلق والتكوين والإنشاء وتكريم بني آدم وتفضيلهم والترهيب من اتخاذ الشيطان وليا من دون الله والتركيز على قيمة الإنسان في علاقته مع ربه من خلال قصة آدم عليه السلام.. إلى الحديث عن الكفر المعلن بالخالق سبحانه والاستهزاء المستمر برسله وعاقبة الفاعلين لذلك في قصتي نوح وهود عليهما السلام.. إلى الحديث عن عدم توقير آيات الله عز وجل وعدم احترام الوصايا الإلهية وعدم شكر النعم مع نشر الفساد وتأييد الترويج له في الأرض في قصة صالح عليه السلام مع ثمود.. إلى الحديث عن الفاحشة الكبرى والمعصية العظمى إتيان الرجال شهوة من دون النساء مع الإصرار والإسراف والإعلان والجهر في قصة لوط عليه السلام.. إلى الحديث عن النقص في المكيال والتلاعب في الميزان وبخس الناس أشياءهم والإفساد في الأرض بعد إصلاحها والصد عن العبادة، والعمل على نشر الرذيلة ومهاجمة الحق في قصة شعيب عليه السلام.. إلى الحديث عن التطاول على حقوق الله والاعتداء على خلق الله والتسلط على المستضعفين، وظلم النساء والأطفال والمعوزين، والوقوف في وجه الناهين والتآمر عليهم في قصة موسى عليه السلام وأخيه هارون عليه السلام مع الطاغية فرعون ومن سلك مسلكه كهامان واتبع خطاه كقارون، إلى الحديث عن التلاعب بأحكام الحق سبحانه و انتشار السذاجة والجهل وتفشي المكر والخداع واستفحال التهور والعصيان واتباع الشهوات في قصتهما عليهما السلام مع قومهما الأجلاف من بني إسرائيل..
    هكذا جاءت هذه المجموعة من القصص التي اخترناها - على سبيل المثال فقط والاقتضاب - لتحكي عن كوكبة من الرسل الكرام مع أقوامها مبينة مجموعة من الأمور والقضايا التي تنتمي إما إلى العقيدة وإما إلى العبادات وإما إلى المعاملات، أي تدخل في إطار العلاقة بين الخالق والمخلوق من حيث الإيمان به وتوحيده وعبادته والاعتقاد في ما يأمر به، وإما في إطار العلاقات بين الخلق والخلق على جميع المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية وفي جميع أبعادها..
    وكما تمت الإشارة سابقا فإن القصة في القرآن الكريم كانت بمثابة تشخيص أنموذجي لكل مواضيعه أو بمثابة نقل حي وحركي لكل موضوعاته، وإن كانت لا تفصل في ذلك ولا تفيض، فلأنها ليست للتشريع بقدر ما هي للعبرة والحكمة والعظة والتدبر والتذكر وإزالة الغفلة.. فهي قص لنماذج من المخلوقات - سواء كانت بشرية أو كانت حيوانية أو خلقا آخر.. - تحمل مبادئ وأفكارا ونظرات ومفاهيم ورؤى تختلف باختلاف العقول والطبيعة والانتماءات وتتحرك في حياتها أو تفعل وتنفعل انطلاقا من قناعتها الفكرية والأيديولوجية راسمة بذلك كل ما جاء به النص القرآني العريض من أوامر أو نواه ومن تأييد أو اعتراض.. فالرسل والأنبياء والصالحون يمثلون نماذج الفئة المطبقة لأوامر الحق سبحانه والمنتهية بنواهيه ومن ثمة فهي الفئة المحمودة والمقبولة والمحبوبة عند المولى عز وجل.. أما الأفراد والجماعات المعارضة للرسل هم نماذج البشر الممقوتين والمغضوب عليهم والمعرضين لعذاب الله تعالى وزجره لكونهم يسلكون المسالك المنهي عنها..
    وسنزيد الأمر وضوحا بتناول موضوع واحد مثالا يتوزعه أسلوب الوعظ وأسلوب القص ينير لنا فهمنا لهذه القضية القرآنية، فلنتأمل هذا الأمر بكل جلاء في قوله تعالى من سورة التوبة في الآية 39: ﴿ يا أيها الذين أمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا من الآخرة إلا قليل *إلا تنفروا يعذبكم عذاباأليماويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير *.. إن هذه الآياتالكريمة تعتبر رسالة واضحة وهادفة وخطابا مباشرا وحديثا مقصودا موجها بأسلوب النداء المركز والمؤكد لفئة معينة متلق محدد، معالمه واضحة قارئا أنموذجيا يعلم الله تعالى أنه مستجيب لندائه العلوي لا محالة، ولله المثل الأعلى (((يتوقع المؤلف قارئا أنموذجيا يستطيع أن يتعاون من أجل تحقيق النص بالطريقة التي يفكر بها المؤلف نفسه، ويستطيع أن يتحرك تأويليا بالطريقة التي تحرك بها المؤلف توليديا))) (3).. فكان هذا الأسلوب حاملا في طياته المقت والذم الذي تفوح رائحته من أسلوب النداء في بداية الآية إلى أسلوب تأكيد قدرة الله عز وجل في نهايتها.. كما يحمل هذا الخطاب دلالات التنفير من الركون إلى الأرض وترك الجهاد رهبة من الموت وخوفا من القتل، أو طمعا في العيش ورغبة في الحياة الدنيا التي لا تساوي أي شيء أمام ما أعده الله سبحانه في الحياة الأخرى للمؤمنين المجاهدين في سبيله.. والمهم عندنا في هذا هو الصياغة أو الطريقة التي تم بها عرض الآيات لهذه القضية/الموضوع، والمسلك الذي سلكه القرآن فيها من أجل الوصول إلى توضيح هذه الفكرة وتبيين هذا المقصد.. إنه أسلوب وعظي إرشادي مباشر يحث على الخروج في سبيل الله ويرغب في حمل أعباء الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيل ذلك.. كما يرهب من الركون إلى الأرض والطمع في متاع الحياة الدنيا ودعتها والاغترار بخضرتها الزائلة.. ويعبر عن ذلك بلفظة بليغة جمعت معاني التنفير بطبعها هي كلفظة/مونيم.. وطبيعتها كمجموعة من الأصوات/الفونيمات:"اثاقلتم" وهي لفظة دالة على معناها من خلال تكوينها الداخلي نفسه فهي ثقيلة حتى على نفسها في أدائها اللغوي عند النطق بها، لأنها تتكون من حروف تتميز بثقلها اللفظي الذي يؤدي بالضرورة إلى ثقل معنوي لتعبر عن ثقل مادي واقعي ومرئي.. فالحرف اللثوي "الثاء المعجمة" المشددة والممدودة، والقاف من حروف القلقلة وما أدراك ما حروف القلقلة وكذا اللام الساكنة، ثم الحرف المهموس والميم التي تفرض على الشفتين الانطباق ليتسلل صوتها خفية من الأنف.. وكأن هذه اللفظة القرآنية المختارة بعناية بالغة تجمع بين الثقل والسكون وبين البطء والركون وبين التهاوي والتهاون حتى في تكوينها كطبيعة مستقلة عن السياق الذي لم يزدها إلا نفورا.. ومن كانت حاله على هذا الشكل حتى في التعبير عن فعله لغويا فإن الله تعالى يزجره، ويوعده بالعذاب الأليم والاستبدال بقوم آخرين.. وهي قمة الهوان والذل والخزي والصغار والخذلان.. أن لا يبقى للإنسان أي قيمة حتى إنه ليمحى من الوجود ويشطب عليه من لائحة الكائنات وتذهب آثاره بعد أن كان يحب الخلود والالتصاق بالأرض ويرغب في المكوث والبقاء بها دون مقاومة أو معاناة أو إثبات ما يؤمن به والدفاع عما يعتقده في حياته الخاصة والعامة.. هذا عذاب الدنيا أما الآخرة فقد أعد الله فيها العذاب الأليم الذي لا يعلم مداه إلا الله الذي هو على كل شيء قدير..
    إن هذا الأسلوب بهذا الشكل خطابي محض وتقريري قح ومباشر ووعظي وإرشادي يقرر فيه القرآن عاقبة من لم يمتثل أوامر الله تعالى في مسألة الجهاد في سبيله سبحانه في حين نجد في جانب آخر من القرآن الكريم ما يشخص الموضوع ذاته ويبرز القضية نفسها ويبينها ولكن بشكل غير مباشر إذ يتوسل في ذلك الأسلوب القصصي المرتكز على الأحداث التاريخية والتعبير التصويري المعتمد على الحركة الإنسانية.. كما في قصة طالوت وجنوده التي تعرض للموضوع نفسه عرضا مخالفا من الناحية الشكلية للآيات السابقة، وذلك بإفراغه في قالب من الأحداث الواقعية والمشاهد التاريخية والشخصيات الحية التي تحث على الجهاد وتنفر من الركون إلى الدنيا ولكن كما أشرنا بطريقة أخرى وبأسلوب مختلف هو الأسلوب الذي يعتمد السرد القصصي الذي يحلل المسألة ويتناولها دون اللجوء إلى المنطق الشرعي المباشر المعتمد على الترغيب والترهيب بشكل مباشر متوسلا القاعدة المعروفة "اِفعل أو لا تفعل"..
    يقول الله تعالى: ﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا في سبيل الله قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين * وقال لهم نبييهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم * وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين * فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين* ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء. (البقرة : 246)
    إن الذين اغترفوا من النهر كما شاءوا وشربوا منه كما أرادوا وقاموا بما أملته عليهم أنفسهم، وليس كما أمرهم نبيهم ولا كما حدد لهم قائدهم.. والذين قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ولا قدرة لنا على محاربتهم ونزالهم، هؤلاء وهؤلاء هم أنموذج المتثاقلين إلى الأرض الراغبين في العيش المريح والحياة السهلة، والزاهدين في الجهاد والمتقاعدين عن الخروج في سبيل الله ونصرة أنفسهم قبل نصرة دينهم.. ولذلك ذكروا في بداية القصة للإشارة لفعلهم ثم أنكرهم النص القرآني على مستوى الحكي كما أنكر وجودهم ضمن الطائفة المؤمنة، فهم كما قال لهم طالوت " فليس مني" وكذلك كان الأمر سرديا لأن الآية ذهبت مباشرة لسرد الأحداث المتعلقة بمن اتبع أوامر طالوت، فجاء قوله تعالى نفيا لوجودهم " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه." ثم أعقب ذلك حديث الفئة الأخرى التي قالت " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " جاء الحديث عن الفئة التي قالت ﴿ربنا أفرغ علينا صبراوثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرينوانكر الآخرين وكأنهم لا وجود لهم وجاء السياق مباشرة على الشكل التالي " ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " وخاضوا غمار المعركة،ولم يتخل الله عنهم ولم يدعهم لأنفسهم، فذكروا على مستوى النص وعلى مستوى الواقع.. ولم يتركهم لعدوهم الذي يفوقهم عدة وعتادا بل كان معهم فهزموا جالوت وجنوده وكان نصر الله كبيرا.. هذه الفئة في القصة تمثل الأنموذج الواقعي والحي للخطاب الإلهي المباشر في قوله تعالى: ﴿إلا تنصروه فقد نصره اللهإذن فطريقة العرض في آيات سورة البقرة تشخيصية وتصويرية تقوم على نحث لغوي لشخصيات حية من الواقع المشهود، وتبرز مواقف وأحداث ملموسة في لغة سهلة تعبيرية وتصويرية مفعمة بالحياة والحيوية.. إنها طريقة الأسلوب التوجيهي والتربوي التي تجعل للأحداث التاريخية مسلكا إلى القلوب وطريقا إلى الأفئدة ومعبرا إلى العقول ومن ثمة جسرا إلى الأعضاء المتحركة/المنفذة.. وتجعل من المشاهد الحية سبيلا إلى شرح وبسط الفكرة المتوخاة.. إنها أسلوب يعتمد السرد والحوار ويعدد مستوياته ويخالف بينه.. ثميعطي لكل محاور نتيجته النهائية دون أن نلمس منه المباشرة..
    إن هذه القصة قد تظهر للمتلقي البسيط أو الذي لا يعير اهتماما وكأنها قصة لا يعني موضوعها أحدا ممن يتلقاها، وإنما هي في ظنه مجرد حكاية أو قصة تروي أحداثا عن قوم أو عن اختلاف قوم عن نبيهم أو تحكي عن حرب بين قوم وقوم.. فهي بالنسبة له مجرد أحداث تاريخية ليس إلا.. نتعرف عليها ولا تعنينا وقد نتسامر حول موضوعها ولا تغنينا.. أما الذين يفهمون الأسلوب القرآني، ويتمعنون في كيفية أدائه اللغوي وطرائق تبليغه ومستويات تناوله لدين الله تعالى فإنهم يعلمون حق العلم أن القصة في القرآن جاءت أساسا لتشخيص آيات كثيرة أخرى وردت في شكل وعظي يحمل الترغيب والترهيب المباشرين..
    وبعد هاتين الوقفتين بين يدي آيات سورة التوبة وآيات سورة البقرة يمكن أن نلحظ في الخطاب القرآني ما هو أدل على ما نقصده ونريده في شكل جمع بين الوعظ المباشر وغير المباشر، وذلك حين نقف مبهورين أمام آيات سورة الصف التي تجمع بين أسلوب آيات سورة التوبة وبين طريقة آيات سورة البقرة أي بين السرد القصصي والسرد غير القصصي في مثل قوله عز من قائل:﴿يا أيها الذين أمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فأمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فأصبحواظاهرين(الصف:13)فالأمر ليس قصة أو حكاية أو رواية لوقائع وأحداث تاريخية، وإنما هي طريقة وأسلوب في عرض الموضوعات يوظفان من أجل الحصول على ما أراد القرآن أن يعرفه المؤمنون به في مسألة معينة من مسائله الكثيرة التي تناولها كهذه المسألة التي وقفنا عندها وهي " الجهاد ونصرة الدين "..
    إذن فما أوجبه القرآن الكريم بصريح العبارة وعن طريق الأسلوب الوعظي المباشر الموجه عن قصد نجده مبثوثا أو متضمنا أو موحى به أو مشارا إليه في الحكي بأسلوب قصصي بديع..
    لذلك لو أردنا أن نقف عند هذا الأمر بتفصيل لوجدنا أنفسنا أمام القرآن الكريم كله لأن - كما أوضحنا سلفا - الأغراض القرآنية جميعها متجلية في قصصه بشكل من الأشكال وليس من الضروري أن يأتي ذلك بالتفصيل.. ثم إنه ليمكن القول وبكل تأكيد إن القصة في القرآن الكريم تتواشج تواشجا لا مثيل له في غيره من الكتب، وتمتزج امتزاجا بينا واضحا لا مرية فيه بموضوعات السور التي ترد فيها، بله إنه يعتبر في رأينا امتزاجا عضويا لا يستطيع أي متلق كيف ما كان أن يفصل بين السرد القصصي وبين ما جاء في السورة التي احتوته بأكمله من موضوعات طرقتها، حتى إننا لو حذفنا القصة، بل جزء منها أو فصلا من فصولها أو مشهدا من مشاهدها، من موقعها من السورة التي وردت فيها لأضعنا المعنى المراد والفهم المطلوب ولاختل المقصود.. ولألفينا أنفسنا أمام نص مبهمة مقاصده أو لا يكاد يبين...
    *******
    الهوامش والمراجع:
    (1) كتاب "القرآن كتاب حياة" لكاظم السباعي مؤسسة الوفاء بيروت/لبنان الطبعة الأولى 1404هـ الصفحة:13
    (2) النص القرآني من الجملة إلى العالم.. وليد منير.. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.. الطبعة الأولى/1997.. الصفحة: 24..
    (3) القارئ النموذجي.. أمبرتو إيكو.. ترجمة أحمد بو حسن وهو ضمن كتاب " طرائق تحليل السرد الأدبي" اتحاد كتاب المغرب-الرباط..الطبعة الأولى/1992.. الصفحة:160


    الأستاذ عبدالرزاق المساوي
    74 درب الكوبة م.ق
    الرمز البريدي: 20000
    الدارالبيضاء / أنفا
    المغرب
    lmoussaoui@maktoob.com


    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. قراءة في معالم الخطاب النقدي للدكتور محمد بن سعد بن حسين
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 31/07/2018, 12:49 PM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 17/09/2011, 08:16 PM
  3. قراءة جديدة لسرداب التاجوري
    بواسطة يوسف أبوسالم في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 30
    آخر مشاركة: 15/12/2008, 10:21 AM
  4. مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 23/05/2007, 11:55 PM
  5. من حكايات الحيوان في التراث القصصي العربي.
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05/06/2006, 09:26 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •