(15) حدائق الصوت

إلى صاحب «حياة محمد» و«الفاروق عمر» و«زينب» : د. محمد حسين هيكل ؛ فمنه وعنه كانت هذه الرؤية الشعرية) .

1-زينب:
يا زينبُ ،
يا صاحبةَ الصوتِ الحلوِ تعاليْ
في صوتِكِ أتنشَّقُ عطرَ الفجْرِ ،
ومازلتُ أُواجه قُبحَ زماني بالطُّهرِ ، وأحلُمُ :
هذي وجنتُكِ الحمراءُ
المرويّةُ بدماءِ الأبِ ،
هذي أذيالُ الشَّعْرِ المرويَّةِ بدمي ،
ذي دعَواتٌ تصعدُ من عينٍ
تستيقظُ فيها آياتُ الشوقِ الغامرِ
للمحبوبِ
أقولُ : تعاليْ ، يا صاحبةَ الصوتِ الدّافئِ بالوصْلِ ،
فهذي سنبلةُ القمْحِ أراها تمتدُّ بعرضِ الحقلِ
وألمسُ صوتَكِ ،
تنسابُ أفانينُ الرغبةِ في أن يُزهَقَ هذا الليلُ ،
وينتفضُ الجسدُ الميِّتُ ، ويؤوبُ ،
وآخذُ سمتي للبيْتْ
*
أقرأُ أسفارَ الوعْدِ ، أناديكِ:
ألا هُبي بالصَّحْنِ ، فإني ممتلئٌ بالرغبةِ
شوقاً وجراحا
أعرفُ أنك ستجيئين إليَّ صباحا
(قد فسدَ الناسُ ،
وضاقتْ أبوابُ مدينتِنا أن تتَّسعَ لحلمي)
خلفَ النافذةِ السوداءِ أُناديكِ :
تعاليْ ، ماذا يُشْجيكِ ؟
فإني لا أعرفُ أنغامَ المَلَقِ ،
وإني أركضُ في دربٍ
يتمدّدُ في آخرِهِ سيْفُ الصَّمْتْ !
*
زورقُنا الخشبيُّ تمزّقَ في اليمِّ الليلةَ
ـ هلْ أبكي مثلَ النسوةِ ؟
هلْ ألطِمُ خدَّيَّ صباحاً وعشيًّا ؟
تتلاشى أنفاسي ..
(مدّتْ زينبُ يدَها للنخلةِ ،
لمَسَتْ جذعاً أعجفَ
.. فتساقطَ رُطبٌ أشهى منْ أثمارِ الفردوْسِ
أكلتُ
شربتُ)
ولفَّتْ هذا القادمَ في الغيْمِ الأخضرِ
كيْ تستسلِمَ لعذوبةِ هذي اللحظةِ ،
تتلاحقُ أنفاسي ..
مرحى .. مرْحى .. بالموْتْ !

2-الرحلة:
العينُ الفسفوريَّةُ تتعلّقُ بكْ ،
ومواسمُ خصبِكَ
تجذبثني نحْوَكَ ،
والخيْلُ الليلةَ تفضحُ كلَّ صحائفِنا النوريَّةِ
قدْغِبتَ كثيراً عنِّي
قد غبتُ كثيراً عنكَْ
وقدْ وهَنَ الجسْمُ
اشتعلَتْ رأْسي شيْبا
(ماذا أفعلُ ؟
هلْ أُنشِدُ في هذا الصمتِ الكاسرِ من عذبِ الشعرِ
دموعَ الشوقِ الأخضرِ
للحبِّ النائي ..
بسمةَ حبٍّ للمحبوبةِ
حينَ تميلُ بأنداءِ السِّحْرْ ؟)
*
الجرحُ الفاغرُ فاهُ يُغذِّي آمادَ النفسِ ،
وتشتعلُ دمائي شوقاً
(كنتِ تعودينَ إليَّ نباتاً نورانيًّا في الفجرِ
ـ فمنْ أقصاكِ عنْ النهرْ ؟)
*
صمتَتْ "زينبُ" ، وانكسَرَ النهدُ ،
وسالتْ دمعاتُ الحسرةِ فوقَ الخدِّ ،
فسقطتْ عيني الفسفوريةُ فوقَ الأرضِ
تخضَّبَ ماءُ النيلِ : تجيئينَ لبابي
نسهرُ قُدّامَ الدّارِ ، ونلهو صُبحاً إذْ نرعى البهمَ
ـ لماذا أقصاني عنْ عتباتِكِ ليْلٌ ..
أبعدني عنْ هذا الجسَدِ الجنةِ ؟
هذي أنتِ تعودينَ الليلةَ قمراً
في بحرِ الدَّمْ
(معذرةً لا أحيا في الوهْمْ
هأنذا أُشهرُ سيْفي في وجْهِ العشاقِ الكذَّابينَ
وأخرجُ منْ قيْدِ الأسْرْ

3-الجرح:
هل لي أن أغسلَ هذا الجرحَ الغائرَ
في الماءِ ؟
أنا لمْ آكلْ لحمَ الخوفِ ،
أنا لمْ أشربْ مرقَ الإطراقِ ،
ويشتعلُ الجوفُ نهاراُ بالغضبِ الحارقِ
واللفْظِ الدفّاقِ
ويشتعلُ مساءً بحنينٍ للسيفْ
*
غابتْ زينبُ منذُ زمانٍ
قلبي يتحطّمُ يا "زينبُ"
(زينبُ تنأى عنِّي
وأنا أذوي شيئاً شيئاً)
أنتِ دوائي
والشمسُ اللاهبةُ تُزمْجرُ ،
وتُحطِّمُ أضلاعَ القلبِ ،
وقلبي عصفورٌ يفجؤهُ القيْظُ (.. فكيفَ تبخَّرَ
وعدُكِ خوفاً منْ والٍ أهدرَ في الظَّلماءِ دمي ..
يبتعدُ الموكبُ عني ..
والفرسُ الأبيضُ يركلُني ،
ما أقسى ما أُبصِرُ في هذا الليلِ المُعْتِمِ !
منْ يأخذُها مني ؟
منْ يأخذُها ؟
منْ أقصاني عنكِ الليلةَ ؟
منْ أبعدني عنكِ ؟
تموتينَ ؟
فكيفَ تجمَّدَ هذا المشهدُ في العيْنِ الفسفوريَّةِ
كيفَ يجفُّ على الشفتيْنِ الحرْفْ ؟)

4-محمد ـ الفاروق:
صَلَّيْتَ لصُبْحٍ يأتي في زغردةِ السَّيْفِ
وفي قعقعةِ سلاحٍ يتخفّى
في الشجرِ الأخضرِ
ولصوتِكَ غنَّتْ أطيارُ الحبِّ جميعاً
.. أُغنيةً خضراءَ الأحرُفِ ،
تأتي الأطيارُ تُقبِّلُ وجهَكِ ،
وتُباركُ خطْوَكَ ،
تعملُ "نيشاناً" منْ أغصانِ الزيتونِ ،
وفوقَ جفونِكَ ترقصُ أمنيةٌ وئدتْ ذاتَ صباحٍ ،
وبلالٌ وقفَ يؤذِّنُ للفجرِ الآتي ،
قالتْ أرضٌ هاجرَ صاحبُها:
ـ أين حبيبي ؟
فأجابَ العاشقُ : إني آتٍ يا أرضي
أحملُ خبزي وحنيني !
أحملُ في قلبي الحبَّ ، وأنتِ عروسي
(هيّا يا صحْبُ !
تعالوْا ، كيْ نرقُصَ ،
كيْ نفرحَ بالعوْدةِ للمحبوبةِ)
ـ لسنا نملِكُ غيرَ السيفِ
ونورُكَ يا أحمدُ ينسربُ إلى القلْبِ ،
فيملؤهُ دفئاً والبردُ شديدْ
*
الجوعُ الكاسرُ يقفُ فتيًّا قدّامَ البابِ
ـ فهل يهزمُنا الليلةَ ؟
(ـ لنْ يهزمَنا يا ابنَ الخطّابِ
فنحنُ نغنِّي لحنَ العيدْ !)

5-المحاكمة ـ الدخول:
قبلَ دخولي
بالقلبِ الممتلئِ يقيناً
أبصرْتُ الجلاّدَ ،
وأبصرتُ الحبلَ غليظاً
ينتظرُ العاشقُ ..
(هذي الأرضُ الطيبةُ
أتحياني بالوجْهِ الباسمِ
والقلبِ المشتاقِ
وبالحضنِ اللَّيِّنِ
ومواويلِ الرغبةِ والشوقِ ..
وجلاّدي يرقبُ رأْسي في طَبَقٍ فضِّيٍّ)
أذكرُ قصةَ حبٍّ تحيا في الذاكرةِ الصُّلبةِ منذُ زمانْ

أهواكِ بلادي ..
وأُغنِّي أغنيةً خضراءَ الحرفِ ..
لكنكِ مازلتِ تخافينَ ، وأرضُك بكْرٌ
(هلْ تُعطينا البدرَ الأخضرَ والأنجمَ ؟
هلْ تُعطينا في أزمنةِ القحْطِ رغيفاً ؟
هلْ هذي صرخاتُكَ ؟
ـ خنجرُكِ الدّامي يُغرسُ في لحْمِ القلبِ ،
وإني مكسورٌ

هلْ أُشعلُ جمرةَ غضبي ..
في هذي الأغصانِ الجافّةِ ،
والأجسادِ النتنةِ ،
وهشيمِ الحرمانْ ؟)

القاهرة 13/12/1977