صفحة 1 من 3 1 2 3 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 12 من 33

الموضوع: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص)

  1. #1 الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    يحيى حقي وجهاده في الفن:

    بقلم: أحمد فضل شبلول

    "جهاد في الفن" أحدث كتاب صدر من المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، عن الراحل الكبير يحيى حقي (1905 ـ 1992) إعداد الكاتب الصحفي مصطفى عبد الله الذي استثمر إحدى رحلاته مع يحيى حقي إلى روما، وقام بإعداد حوار مطول معه عن أعماله الإبداعية وآرائه النقدية ونظرته للكون والفن والحياة والناس والمجتمع، فضلا عن ملامح من سيرته الذاتية التي تضمنها هذا الكتاب الممتع حقا.
    ولعل الأسئلة الذكية التي سألها مصطفى عبد الله، فتحت شهية كاتبنا الكبير للإجابة والاسترسال والتذكر والخوض في بعض قضايا الأدب والفن والترجمة التي ربما لم تكن بهذا الاتساع والعمق في كتبه الأخرى.
    لقد تحدث حقي في هذا الحوار/الكتاب عن أسراره القصصية، وجهاده مع اللغة، وقاهرته، وتجربته مع الحياة، وذكرياته عندما كان رئيس تحرير مجلة "المجلة"، وعن الكتابة همسا، وصراع الكاتب مع اللغة، ونعمة الشعر، وبيضة الديك ويقصد بها "قنديل أم هاشم"، وغيرها من الموضوعات التي يمارس فيها يحيى حقي ثورته على كل لفظة أضيفت للمعنى بلا سبب، وفي هذا يقول للكتاب: "حينما تكتبون اقفلوا أفواهكم، واربطوا ألسنتكم، ولا تحركونها، لأن هناك كثيرا من الألفاظ ستخدعكم بموسيقاها".
    وعن أسراره أثناء الكتابة، يقول حقي: "لا أستطيع أن أكتب بقلم رصاص".
    وعن جهاده مع اللغة يقول: "إذا كان الزمن سيُنسي البعضَ آثاري ككاتب قصة وروائي، فلا أتصور أن يجور على جهادي مع اللغة، فقد خدمت العربية كثيرا، بمعنى أنني أخرجتها عن الميوعة والتشتت، واحترمتها أشد الاحترام، وقبلت يديها، وكأنها سيدتي الأولى، فهي صاحبة الفضل عليَّ".
    إن يحيى حقي يذهب إلى أن الفن فوق النظريات، وأن الشعر دائما هو الأبقى، لأن الرواية أو القصة في أحيان كثيرة تختلطان بدراسات اجتماعية، فتزول الرواية إذا ما تغير المجتمع. وأن وظيفة الأدب الأولى هي الإمتاع عن طريق إحداث نشوة روحية تنتقل من الكاتب إلى القارئ.
    ويعترف باعتزازه أنه قدم أربعة من شباب الأدباء في الإسكندرية، منهم محمد حافظ رجب الذي قدم له أولى مجموعاته القصصية "الكرة ورأس الرجل"، وفي الوقت نفسه يعترف أن نجيب محفوظ يعد من معالم مصر الأثرية، ويرى أنه مؤرخ الحياة المصرية في زمنه من خلال الثلاثية، واللص والكلاب وثرثرة فوق النيل.
    وعند إحالة يحيى حقي الكتَّاب (ص 103) إلى بعض أمهات كتب التراث العربي مثل "المخصَّص" ذكر أنه للمبرد، وفي الحقيقة فإن المخصص بأجزائه العشرين لابن سيده الأندلسي، وليس للمبرد، وإنما كتاب "الكامل" هو الذي للمبرد.
    إلى جانب ذلك ضمَّ الكتاب مجموعة مهمة من الشهادات لعدد كبير من المبدعين الذين عاصروا يحيى حقي من أمثال: نجيب محفوظ الذي يرى يحيى حقي أنه من شوامخ نهضتنا الأدبية، وفؤاد دواره الذي كان له الفضل الكبير في إعداد الكثير من أعمال حقي وإخراجها إلى النور، ود .لويس عوض، وإدوار الخراط، وفتحي غانم، وصبرى موسي الذي كتب سيناريو وحوار فيلم "البوسطجي" عن قصة "دماء وطين"، وجمال الغيطاني، وسعيد الكفراوي، وإبراهيم عبد المجيد، وعلاء الديب، وأشرف أبو اليزيد، ود. عبد الله عبد البديع، ومحمود عوض عبد العال، ومحمد روميش، إلى جانب قصيدة للشاعر د. أحمد تيمور كتبها عن يحيى حقي.
    بدأ الكتاب بمقدمة مصطفى عبد الله "من روما .. إلى روما"، وكتبت كلمته الأخيرة نهى يحيى حقي التي أوضحت أن الكاتب مصطفى عبد الله كان في مقدمة من قربهم والدها إليه في سنواته الأخيرة، ومن ثم فقد أفاض إليه بالكثير من أسراره الفنية والذاتية.
    وعلى ذلك فالكتاب يستعرض أهم وجوه يحيى حقي الإبداعية الثرية.
    أحمد فضل شبلول ـ الإسكندرية
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
    *المصدر: موقع ميدل إيست أون لاين
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    يحيى حقي وكتّاب زمانه

    بقلم: جهاد فاضل

    لم يكن يحيى حقي الذي تحتفل مصر في هذه الأيام بمرور مئة عام على ولادته، أديباً "مافياوياً" أو "شللياً" معنياً بتأليف قلوب المحررين الثقافيين حوله، أو زرع نفسه في وسائل الإعلام، على غرار الكثير من أدباء زماننا الراهن. ولعله كان في مثل هذا الزهد بزرع الذات، على مذهب أمين الريحاني الذي كان يتخذ من "قُلء كلمتك وامشِ" شعاراً له.. ومن ألطف ما سمعتُه عن يحيى حقي في الاحتفالية التي دعا إليها المجلس الأعلى للثقافة بمصر، أنه عندما كان رئيساً لتحرير مجلة (المجلة) التي كانت من منابر الثقافة الرفيعة، أنه كان يرفض نشر أية دراسة عنه أو عن أدبه في هذه المجلة، مع أنه كان باستطاعته أن يفعل العكس، وأن يكون رائداً لما هو سائد في المنابر الثقافية اللبنانية على سبيل المثال.. فلهذه الجهة كان يحيى حقي نموذجاً يُقتدى في إهمال الذات، كما في البحث عن خامات أدبية جديدة يقدّمها للناس. فمما أخذه عليه أساطين الأدب في عصره، أنه فتح صفحات (المجلة) لأدباء شبّان لا هم في العير ولا في النفير، بعضهم جاء إلى مكتبه "بالمجلة" من الصعيد وهو باللباس الصعيدي.. فنشر لهؤلاء، واعتنى بهم، وأرشدهم، حتى أصبحوا الآن أدباء معروفين. وعندما قيل له مرة: ولكنك كثيراً ما تُهمل أبحاث الأكاديميين لتنشر "لغيطاني" أو "الكفراوي"، كان جوابه أن مثل هذه الأبحاث الأكاديمية محلّها دوريات الجامعات، لا مجلات يفترض أن تكون مخصصة للثقافة العامة..
    ويبدو أن علاقاته بقسم كبير من أدباء زمانه لم تكن على ما يرام. فأهمل بعضهم ولم يكتب عنه أو يشير إليه، ولو بحرف واحد، مثل يوسف ادريس، في حين أنه كتب عن كثيرين آخرين بقسوة حيناً، أو بغير قسوة حيناً آخر. ذلك أن من جوانب شخصيته كان هناك جانب الناقد. فكما كتب القصة - وهو قبل كل شيء قاص - كتب النقد أيضاً، وله في الجانب التطبيقي منه الكتب التالية:
    - خطوات في النقد.
    - فجر القصة المصرية.
    - مطر الأحباب.
    - أنشودة البساطة.
    - هذا الشعر.
    - عشق الكلمة.
    - هموم ثقافية.
    وقد أهمل يوسف ادريس إهمالاً كاملاً، وكأنه لم يسمع به، أو يقرأ له. وتفصح كلمة قالها مرة عنه، عن ازدرائه له ولسيرته من أساسها.. فعندما بلغه ذات يوم أن يوسف ادريس يحتج على فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل لأنه يرى نفسه - أي يوسف ادريس - أفضل منه وأحقّ بالفوز، وأنه إذا فاز كان سيحوّل الجائزة إلى أداة لمحاربة الاستعمار.. علّق يحيى حقي على ذلك بقوله: "اسدلوا الستار"! أي أن في مثل هذه الثرثرة المؤذية، ليوسف ادريس أولاً، ما يستوجب منعه من الاسترسال في تعليقات غير سوّية لا تجلب له سوى السخط والغضب.
    وكما أهمل يوسف ادريس من ملاحظاته النقدية، أهمل قبله إبراهيم عبدالقادر المازني. مع أن للمازني جهوده في تحولات القصة القصيرة المصرية وما أضافه من أسلوب سلس، وتصوير حي للواقع المصري والإنساني وحسّ السخرية والتشاؤم اللذين تميزت بهما مجموعاته: "خيوط العنكبوت"، و"صندوق الدنيا" وسواهما. ولكنه تحدث مراراً عن رواية للمازني حققت شهرة عند صدورها، فقال إنها مأخوذة من رواية أوروبية. وهذا ما يفيد اشمئزازه منه..
    ويبدو أنه كان هناك "شيء" بينه وبين توفيق الحكيم، فقد أخذ عليه نزعة تقليد الأجانب في لباسه وقيافته، وجلوسه طيلة يومه في المقاهي ومعه عصاه وحماره.. لقد كان ينتقد ويرفض النزعة الغربية لدى معاصريه من الكتاب والفنانين، ويسميهم "المتمصرين". ولم تكن علاقته طيبة بطه حسين أو بتوفيق الحكيم الذي كان زميله في كلية الحقوق. فقد قال لكثيرين إن توفيق الحكيم كان فيه من الشذوذ في مظهره ولبسه ما يلفت النظر، حتى قبل أن يلبس البيريه الفرنسي، إذ كان له طربوش قصير جداً على غير المعتاد كان يثير عجب يحيى حقي وهو يتطلع إليه!
    كان نقد يحيى حقي الأساسي لهؤلاء الأدباء "المتمصرين" كما سمّاهم أو "المتفرنجين" كما يسمّون اليوم، ينصبّ على أن الأصالة مسألة جوهرية في الفن، وأن العمل الفني ينبغي أن ينتج من تراث وحياة الشعب الذي يعبِّر عنه، وبالتالي فإن أي استناد إلى فكرة أو موضوع من خارج هذا التراث يضعف العمل الفني ويجرده من قيمته. وبالنسبة له هو شخصياً، فقد كان حريصاً على الالتصاق بالجماهير الشعبية. وعندما تولّى إدارة مصلحة الفنون، عمد إلى إبراز الفنون الشعبية في المسرح والموسيقى.
    ويبدو أنه كان في مصر في زمانه تيار من الفنانين والمثقفين يمتلك نظرة عميقة إلى الأدب والفن الغربيين، ولكن في نفس الوقت كأن مدركاً لأهمية أن يفهم الكاتب أو الفنان مجتمعه وجذوره الشعبية، وأن يكتشف سمات هذه الروح ويستقرئ فيها عمله وفكره. وكان من هؤلاء الفنانين المهندس الشهير حسن فتحي. ولم يكن غريباً أن تكون صداقته وطيدة بيحيى حقي، وكان ينشر في مجلة (المجلة) بعض مقالاته.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
    *المصدر: صحيفة "الرياض".
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    مئوية يحيى حقي
    بقلم: وائل وجدي

    أقيم في المجلس الأعلى للثقافة ؛ على مدار ثلاثة أيام – من 10 يناير إلى 13 يناير - احتفالاً بمناسبة مرور مائه عام على مولد المبدع الكبير الراحل يحيى حقي ؛ والذي ترك بصمه واضحة في الإبداع القصصي والنقدي . ويعد من المبدعين العظام ومن معلمي الأجيال ، ويدخل في كوكبة العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم. وشارك فيه 47 من الأدباء والكتاب المصريين ، و22 من المثقفين العرب ، والباحثة ميريام كوك .
    وصدر على هامش الاحتفال : الأعمال الإبداعية في ثلاثة أجزاء ، وثلاثة كتب: "يحيى حقي تشريح مفكر مصري" لميريام كوك ، ترجمة خيري دومة ، "جهاد في الفن" لمصطفى عبد الله ، "عطر القناديل" لمجيد طوبيا .
    ولقد ولد الكاتب الكبير يحيى محمد إبراهيم حقي في 7 يناير 1905 ، بحارة الميضه بالسيدة زينب ، وكان تعلمه الأولي في كتاب "السيدة زينب" ، وفي مدرسة أم عباس الأول خديوي مصر . حصل على الثانوية من مدرسة الخديوي الثانوية عام 1921 ؛ ثم تخرج في مدرسة الحقوق المصرية – كلية الحقوق – عام 1925 ، وبعد ذلك عمل معاون نيابة في منفلوط ، وانتقل إلى السلك الدبلوماسي ؛ حتى أنشئت مصلحة الفنون ، وعين لها مديراً عاماً ؛ وبعد ما ألغيت أصبح رئيساً لتحرير مجلة "المجلة" ؛ حتى عام 1970 . منح جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1969 ، وكرمته جامعة المنيا ، ومنحته الدكتوراه الفخرية عام 1983. وفي عام 1989 حصل على جائزة الملك فيصل في الآداب .
    كتب الأديب الكبير : القصة ، الرواية ، النقد الأدبي ، وترجم عدة مؤلفات . أول قصة نشرت له ؛ كانت موسومة : "فله – مشمش – لولو" في صحيفة الفجر القاهرية في 15 /7/1926 ، تلا ذلك نشر ما كتب في الصحف والمجلات المختلفة ؛ وصدرت له : دماء وطين ، قنديل أم هاشم ، أم العواجز.. وتعتبر قصة : قنديل أم هاشم ؛ أشهر ما كتب ، ويقول الأديب الكبير يحيى حقي عنها : " .. القصة نفسها لا قيمة لها في نظري ، والحادثة ليست جديدة على المجتمع المصري ، وقد كتب عنها عبد الله النديم ، وموجودة منذ الحملة الفرنسية .. وقد يكون فيها افتعالاً .. ولكن الذي يهمني في قنديل أم هاشم أن يتنبه القارئ إلى وصفي لميدان السيدة زينب . فقد وصفته بعيون ثلاثة : عين محايدة ، وعين غاضبة ، وعين راضية ؛ فيجب أن يتأمل القارئ كيف انعكس هذا الشعور على الأسلوب ، ليس معقولاً أن نقرأ قصة أو رواية مكتوبة كلها بأسلوب واحد ونغمة واحدة مع أنها تنتقل من حالة إلى حالة ، ويجب أن يكون هناك أسلوب يتناسب مع كل حالة نفسية .. "
    وبخصوص الرواية : كتب البوسطجي ، وصح النوم ، ويقول عن رواية صح النوم : " أنها أحب أعمالي القصصية على نفسي ؛ لأنها تطبيق صارم للمبدأ الذي أنادي به بضرورة التزام الدقة والعمق في أسلوب الكتابة . وكدت في هذه الرواية أن أصل إلى حد القضاء على البحبحة وأحسست أن معي أستيكة وبدلاً من أن أمسح الكلمة أخرق الورقة ‍‍‍‍‍.."
    أما بالنسبة للنقد الأدبي ، فله عدة مؤلفات في هذا المجال ، منها : خطوات في النقد ، فجر القصة القصيرة ، عطر الأحباب ، هموم ثقافية .
    ومن ناحية المؤلفات ؛ التي ترجمها : ترجم المسرحية ، والرواية ، منها : "مسرحية الدكتور كنوك" لجول رومان ، ورواية "لاعب الشطرنج " لستيفان زفايج .
    وبحق ما دونته – في الأسطر السابقة – لا يعدو أن يكون قطرة في محيط .. وآثرنا أن نختم حديثنا بقول المبدع الكبير يحيى حقي – رحمه الله - : " وأنا أفضل وأحب أن ينسى عملي كقصصي ، ولكن لا بد أن يذكر لي أنني خدمت اللغة العربية كثيراً . بمعنى أخرجتها عن الميوعة والتشتت ، وعن المترادفات ، واحترامها أشد الاحترام ، وتقبيل يديها كأنها سيدتي الأولى ؛ فهي صاحبة الفضل علي" .
    الهوامش :
    1 – مجلة القصة – القاهرة – العدد 44 إبريل 1985 .
    2 – مجلة الهلال – عدد فبراير 1985 .
    3 – مجلة الشموع العدد الأول والثاني مارس وإبريل 1986
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *المصدر: عن موقع "أفق".
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    حيى حقي ( 1905 - 1992م)
    بقايا عطر الأحباب

    بقلم: نهى حقي

    لم يكن يحيى حقي أديبًا عاديًا, كان قارورة من عطر الأدب وشجن الكلمات. لمساته الإبداعية والنقدية والإنسانية عبقة. تبقى بعد أن يرحل كل شيء. لم يمارس فن الكتابة فقط ولكنه كشف كل أسرار موهبته وصناعته. وأمسك باللغة الدارجة التي نتحدث بها جميعًا وحوّلها فيضًا شعريًا بالغ الرقي. إن العالم العربي واليونسكو والعديد من المؤسسات الثقافية تتشارك هذا العام في الذكري المائة لمولد هذا الكاتب الكبير ولم يكن لـ (العربي) أن تتخلف عن هذه المناسبة.
    أبي.. ثمرة حب
    هذه الثمرة المليئة بالخبرات والذكريات, لها في نفسي شعور بالاعتزاز والفخر.
    أريد أن أقدم صورة لوالدي, ولكن كيف أقدمه, وبأيّ صورة أصوّره, ومن أين أبدأ? بالطبع ليست الصورة الظاهرية التي أعنيها, لكن الصورة العميقة التي رأيتها, الإنسان قبل الفنان, الأب قبل الصديق, المفكر قبل الأديب, إنها دائرة متصلة.
    فيحيى حقي يحسن استقبال ضيوفه ومريديه, يفتح لهم الباب على مصراعيه يستقبلهم بابتسامة وديعة مطمئنة, وفي ثوان معدودة يدخل قلبك ويصبح صديقًا يحتل مكانة عالية في حياتك, وهكذا كان يحيى حقي في كتاباته.
    فمنذ السطر الأول تنشأ علاقة وطيدة بينه وبين قارئه, وليس هذا غريبًا على رجل مثله أن تكون له هذه المنزلة الكريمة في قلوب الناس يستوي في ذلك الأدباء والبسطاء والكادحون الذين لا صلة لهم بالأدب.
    ويحيى حقي الأديب يواكب بشغف كل كلمة تخرج من محراب الفكر, بتأمل الأستاذ وحضوره في كل المحافل الأدبية والفكرية, حتى أنني لا أنسى آخر مشاركة له في مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم عام 1991 الذي أقيم ببورسعيد والذي أرسل لهم كلمته بقوله:
    (أصبحت قادرًا أن أجمع أجيالاً ثلاثة في تحية واحدة أناديكم أخوتي - أبنائي - أحفادي... ولعل بينكم أبناء الأحفاد لا أناديهم لأنهم مشغولون عنا بالامتحانات.
    لن يحجزني عنكم إلا الشديد القوي, والعجيب أن هذا الشديد القوي ما هو إلا وهن العمر, وعجزه, وهي يجب أن تتجمّل بالستر وترفض أن أجرجرها ورائي, وبخاصة إذا خرجت لأتفاصح وأتفلسف وأتمشدق وأبيّض الدرر, ولكني من بعيد أتمثلكم جميعًا كأنني بينكم وأقول, وهاقد وجدت أسرتك, ما أسعدك بلقائها ونحن أعضاؤها والذين يهيمون بالجذل الروحي وبالطرب للجمال!).
    (هذا النادي يجمع الأحياء بأبدانهم, والسابقين بأرواحهم, وأول الأعضاء هو أحبّ أجدادي إليّ, جدي ساكن الكهوف الذي عرف أعظم النعم نعمة تذوق لذة الكشف الأول التي حرمنا منها.
    فلا إبداع إلا إذا تلقى الفنان كل مافي الوجود حوله بدهشة.
    وجدنا الأول ترك لنا على جدران الكهوف, فعلمنا ما هي التجربة في الفن وكأنه هو أول من قال لنا: هذا الوجود كما أراه لا كما يبدو, إنني أتوهّم ولكنه وهم مفض إلى الحقيقة. إني أتصوّر أن جدي هذا هو أول من كتب القصة حين كذب أول كذبة, فمعنى الكذب هنا أنه كان يرى كل ما في الوجود من حوله يسير على وتيرة لا دخل له فيها, ولا تخضع لإرادته, ثابتة ثبوت الأزل, فقال لهذا الوجود تريّث لحظة أستطيع بها أن أغيّر الترتيب, فأزعم أن حادثة وقعت وهي لم تقع, وأن لها نتائج بدت وهي كاذبة كأنها حقيقة واقعة).
    هذا هو يحيى حقي من داخل عالمه التأملي والفكري ووجدانه نحو الوفاء الشديد للقلم.. والبحث الشديد للكلمة واحترامه لها مما يجعله يجتهد أشد الاجتهاد لكي يضعها في قالبها المطلوب فلا كلمة زائدة أو كلمة في غير مكانها, لأنه ينادي بضرورة الالتزام بالدقة والعمق في أسلوب الكتابة فلا يوجد لفظ واحد يتكرر في صفحات كاملة. هذا هو الثراء في المعاني والأحاسيس التي تتطلب ألفاظا لا تتكرر. ولأنه صاحب هذه المدرسة والتي أطلق عليها عنوان الأسلوب العلمي الحديث في الكتابة.. وبالإضافة إلى عشقه الجم للغة العربية الفصحى فهو لا ينكر العامية الرقيقة المتمثلة عنده في الأمثال والأغاني الشعبية, وعشقه الشديد لأصوات الباعة المتجولين الذين ينادون على بضاعتهم بكلمات يطرب لها بإعجاب شديد.
    وعن كتاباته فقد عالج معظم فنون القول من قصة قصيرة ورواية ونقد ودراسة أدبية وسيرة أدبية ومقال أدبي, كما ترجم عددا من القصص والمسرحيات.. لكن على ما أظن تظل القصة القصيرة هي حبه الأول لأنها تقوم, كما يقول, على تجارب ذاتية أو مشاهدة مباشرة, كما أن عنصر الخيال فيها قليل جدا.
    إعلاء الإرادة
    إن أهم ما تميزت به قصصه الإعلاء من شأن الإرادة وجعلها أساسا لجميع الفضائل, فالعالم في نظره معركة كبيرة والسلاح الأول الذي يستخدمه الإنسان في خوضها هو الإرادة.. ما أكثر ما وصف شخصية رجل طيب ولكنه ضعيف فتكون النتيجة الحتمية أنه يجزر جزرا.
    ثم الشغف الشديد بالدراسات والتحليلات النفسية وتراجم كبار الفنانين المصابين بتمزقات روحية ونفسية, ومن القصص التي يتضح فيها ذلك قصة (الفراش الشاغر) وقصة (سوسو) و(مرآة بغير زجاج), كما أنه دائما ينبهنا لمفارقات الحياة وأول هذه المفارقات جبروت الإنسان وضعفه في وقت واحد. من هنا تنشأ نغمة السخرية التي تسري في كثير من قصصه أما اهتمامه الجميل في نظري وأنا أقرأ له وصفه للحيوان (قصة (فلة مشمش) وقصة (عنتر وجولييت) ووصف الحمار في (خليها على الله) والجمل والبقرة في (صح النوم).
    هذا الكاتب الإنسان, أقول بفخر, هو أول من استخدم (الفلاش باك) أي البدء بالأحداث المتأخرة في القصة, وهذا ما حدث في مجموعة (دماء وطين), كما استخدم الشكل الدائري في قصته (السلحفاة تطير) فانتهت القصة حيث بدأت.
    أما المرأة عنده فقد كان رقيقا معها ويحترمها ويعاملها معاملة غاية في السمو, كما كان يحب أمه حبًا عظيمًا, ويصفها بأنها كانت المحرك الذي يحرك البيت والأم التي تعشش على الأبناء وتعمل كل ما في وسعها من أجلهم.. يحترم المرأة ويحترم فكرها ويحترم إنسانيتها.
    وختاما أذكر تأملاته وكلماته.. وأقواله.. وأحب الأقوال إلى نفسي الذي كان يردده:
    (أكره الأبواب الموصدة والنوافذ المغلقة والأدراج المعصلجة والشفاه المطبقة.
    أحب السحابة الرقيقة التي تقبل أن تذوب وهي تقول لشمس الصيف سأكفكف من جبروتك, أحب الأصابع السرحة في راحة اليد المنبسطة مخلوقة للبذل للعزف للتربيت بحنان.
    وأستمخ من نجم الحفلة من أجله ذهبت إليها وعدت مرتويا من فيضه ولكن قلبي مع الكومبارس الواقف إلى الوراء في الظل).
    وهكذا الأيام تأتي وتمر..
    وهكذا الدنيا تدور وتسير..
    وهكذا الأحلام تخفق وتتحقق..
    وهكذا الكلمات تبقى وتحيا..
    وهكذا المعاني تعيش دهرا وزمنا..
    وهكذا وهكذا وهكذا..
    وهكذا تكون أنت يحيى حقي..
    في خلجات النفس جالسا..
    وفي عيون الأدب نابضا..
    وفي قلب الفكر ساطعا..
    وفي روح المشاعر نبعا حانيا..
    وفي وجدان الراحلين حيا ذاكرا..
    وفي قلب نهى نبضا حانيا..
    وفي الرواية العربية فارسا مغوارا من فرسانها

    بقلم: نهى حقي
    .....................
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    يحيي حقي وصانع القباقيب‏!‏

    بقلم : رجاء النقاش
    .......................

    كانت ثوره‏1919‏ في مصر ثوره متميزه جدا‏,‏ فقد كانت ثوره شعبيه من الالف الي الياء‏,‏ وكانت هذه الثوره هي التي اوجدت زعماءها ولم يوجدها الزعماء‏,‏ فسعد زغلول ورفاقه ليسوا هم الذين صنعوا ثوره‏1919,‏ بل ان هذه الثوره هي التي صنعتهم‏,‏ لان صناعه الثوره اصلا كانت بيد الشعب‏,‏ وذلك علي العكس مما حدث في الثوره العرابيه سنه‏1882,‏ وفي ثوره يوليو سنه‏1952,‏ حيث ظهر الزعماء اولا ثم جاءت الثوره بعد ذلك‏.‏ وهذه الميزات الاساسيه لثوره‏1919‏ وعلي راسها الشعبيه والاجماع عليها بين طوائف المجتمع وطبقاته كلها والبعد التام علي اي عنصر رسمي فيها جعل لهذه الثوره الفريده انعكاسات واسعه جدا علي الاداب والفنون والافكار وحركات التجديد الاجتماعي‏.‏
    وهاهو توفيق الحكيم في كتابه فن الادب يحدثنا عن جانب من جوانب هذا التاثير الشامل لثوره‏1919‏ فيقول صفحه‏52:‏ لقد انكشفت لعيني وقلبي معجزه مصر عام‏1919‏ ورايت الثوره في كل مراحلها تسفر عن روح خفيه باقيه ابد الدهر‏,‏ نابضه تسعف مصر بين حين وحين‏.‏
    ظل هذا الشعور يلاحقني حتي سجلته في روايه عوده الروح فالمعروف ان الثورات لاينطبع اثرها الا علي قلب جديد ملتهب‏,‏ ولايملك هذا القلب الا الشباب في فوره شبابهم‏,‏ لهذا كان سيد درويش ابن الثوره هو قلبها الجديد الملتهب الذي تاثر بها‏,‏ واخرج فنا قاد به الموسيقي الشرقيه الي افق جديد‏.‏
    هذا بعض ما قاله توفيق الحكيم في تفسيره لعبقريه سيد درويش‏,‏ ويقدم هذا التفسير علي ان سيد درويش كان ابنا لثوره‏1919‏ وثمره من ثمارها‏,‏ والحقيقه ان هذه الثوره كان لها ابناء كثيرون من نفس قماشه سيد درويش منهم توفيق الحكيم نفسه‏,‏ خاصه في روايته الرائعه والرائده عوده الروح ومنهم نجيب محفوظ في هرمه الروائي الاكبر وهو الثلاثيه‏:‏بين القصرين قصرالشوق السكريه‏.‏وانا لا امل ابدامن قراءه عوده الروح والثلاثيه فهما قمتان عاليتان في الروايه العربيه لا تزيدها الايام الا نضاره وعذوبه وصفاء فنيا غير محدود‏,‏ وكثيرا ما ارجع الي قراءه هاتين الروايتين كلما احتجت الي بعض الشفاء لنفسي الوطنيه‏,‏ او لنفسي الاخري التي تحب ان تسمع الموسيقي الصافيه مرارا وتكرارا‏.‏ وفيعوده الروح والثلاثيه كثير من هذه الموسيقي الصافيه‏.‏
    ولقد كان من اكبر واعز ابناء ثوره‏1919‏ اديبنا الفنان الشاعر العازف المورخ المفكر الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده وهو يحيي حقي‏1905‏ ‏1992‏ فقد كان يحيي حقي في تكوينه الاصلي ثمره من ثمرات ثوره‏1919,‏ وهو احد عشاقها الذين عاشوا فيها‏,‏ وقد كان في الرابعه عشره من عمره عند اشتعلت هذه الثوره ولكنه كان يشارك في المظاهرات‏,‏ وكان شغوفا بان يعرف كل شئ عن هذه الثوره‏,‏ وعندما كتب عنها في الذكري الخمسين لها‏,‏ سنه‏1969,‏ وضع يده علي بطلها الاصلي الذي لا يفوقه شخص اخر في بطولته‏,‏ واعني به المواطن الشعبي العادي الفقير صاحب الاسم المجهول والذي دفع من دمه وحياته ثمن هذه الثوره بالكامل‏.‏ ولعلي لم اقرا صوره هزت قلبي هزا عنيفا عن ثوره‏1919‏ مثل هذه الصوره التي رسمها يحيي حقي لاحد الابطال الشعبيين الشهداء في ثوره‏1919,‏ حيث يكتب تحت عنوان ابن القباقيبي من كتابه الرائع صفحات من تاريخ مصر صفحه‏233.‏
    كانت ثوره‏1919‏ ثوره لان الناس بدات تالف لاول مره كلمه الشعب تنطقها بكسر الشين لاباس لم تكن ثوره مثقفين وحدهم او فلاحين وحدهم او عمال وحدهم‏,‏ بل ثوره الشعب كله اتحد في عجيه واحده زالت الفروق‏.‏
    لم تعد كلمه فلاح سبه مع انها كانت كذلك منذ قليل‏,‏ لذلك كان حنقنا شديدا ونحن نسير في المظاهرات ان نجد الصحف الاوروبيه‏,‏ وبالاخص الانجليزيه تصف هذا الشعب الثائر بانه من الغوغاء وانه طغمه من الرعاع‏,‏ هكذا بلا حياء الي اليوم لا ازال اذكر الوقع الاليم لهذه الكلمات في قلبي وانا صبي‏,‏ لاشك ان كل انسان كان حاله مثل حالي‏,‏ شعور متقد يطلب الشفاء‏,‏ يطلب بطلا يخرج من صفوف الشعب‏,‏ ولم يكن يدور بخلدي ان هذا البطل سوف يكون صبيا يقيم بالقرب من داري كان في مثل عمري‏14‏ سنه‏..‏ الفارق انني ببدله فوق قميص وهو بجلابيه علي اللحم‏,‏ وانا البس حذاء وهو حاف‏,‏ رغم ان مهنه ابيه هي صناعه القباقيب‏.‏ من صفوف الرعاع في نظر الصحف البريطانيه خرج البطل الشهيد الذي ثار لكرامتنا ورد الصفعه‏..‏ ردها ايضا عن خدي انا
    ثم يقول يحيي حقي عن هذا البطل الشعبي الصغير المجهول‏:‏ تعال نصل من منزلنا الي دكانه‏.‏ كنت اعرفه وامر به‏,‏ كلما ذهبت لزياره السيده سكينه والسيده نفيسه‏.‏ دكان مظلم طويل عريض‏.‏ هذا هو مصنع قباقيب الحي‏,‏ وسيله طائفه من فقراء المدينه لمقاومه الحفاء‏,‏ وبعض المتيسرين لدخول الحمام‏,‏ وينتقل يحيي حقي بعد ذلك الي لون عذب من الغزل في القبقات‏,‏ فهذا القبقاب هو تفصيله من التفاصيل الشعبيه التي كان يحيي حقي مغرما بها‏,‏ حريصا علي الوقوف امامها وتاملها والعنايه الشديده بوصفها‏.‏ وعن هذا القبقاب يقول يحيي حقي‏:‏ لا تستهن بهذا القبقاب‏..‏ لو لبسته فتاه معجبانيه اصبح في قدميها كالصاجات في يديها‏,‏ اذا مشت به كان لوقعه علي الارض نغمه كلها دلال انه ايضا يكشف الكعب المحني‏,‏ رباني لا اصطناعي‏,‏ ولصاحب الدكان ولد وحيد‏,‏ هو كل امله واعتماده اذا اعجزته الشيخوخه‏,‏ ولد تجمع نظرته بين الخوف والفرعنه‏,‏ بين الذل وحب المعابثه‏,‏ اذ ينتزع لهوه الفارغ من بين براثن وحوش مفترسه‏,‏ هي ابوه وحياه الشقاء والعناء‏.‏
    ثم يصل بنا يحيي حقي الي اللحظه الفاصله في حياه هذ النموذج الشعبي فيقول‏:‏ وقع الاختيار علي هذا الولد الوحيد‏.‏ سقط قتيلا برصاص الانجليز في مظاهره امام الدكان فسار معها يردد هتافاتها‏,‏ فخرجت له جنازه مشهوره في تاريخ الثوره بانها جنازه ابن القباقيبي سار فيها الشعب كله‏,‏ من مستشارين وقضاه ومحامين‏,‏ الي الطلبه الكبار والتلاميذ الصغار‏,‏ الي صفوف غفيره اخري من ابناء الشعب‏.‏ كنا نريد بهذه الجنازه ان نقول لصحافه الانجليز‏:‏ انظري الرعاع يشيعون بطل الرعاع‏.‏ وهذه الجنازه لم تشبهها جنازه اخري طوال الثوره‏.‏
    ثم يقدم الينا يحيي حقي ختام معزوفته الجميله فيقول‏:‏
    ماذا كان اسمه؟ اين قبره؟‏.‏ لا احد يدري‏.‏ كم عدد شهداء ثوره‏1919‏ ؟ لم يجر الي اليوم احصاوهم مع الاسف‏,‏ ولا تخليد اسمائهم في سجل شرف‏,‏ دع عنك اقامه نصب تذكاري يفي بحقهم علينا‏.‏ تمنيت ان يقام هذا التمثال‏,‏ وان يكون تمثالا لصبي بجلابيه يمسك في يده المرتفعه فرده قبقاب‏!‏
    ذلك ما نادي به يحيي حقي سنه‏1969,‏ بمناسبه الذكري الخمسين لثوره‏.1919‏ والان ونحن نحتفل بالذكري المئويه لميلاد يحيي حقي اكاد اسمعه ينادينا ويعرض علينا الفكره نفسها وهي اقامه تمثال في احد الميادين العامه لصبي بجلابيه يمسك في يده المرفوعه فرده قبقاب فهذا الصبي هو رمز حي لابن الشعب المجهول الغلبان الذي لايطلب مجدا ولا شهره ولاثروه‏,‏ ومع ذلك فهو لايتردد عن بذل روحه والتضحيه بنفسه اذا كانت هناك قضيه عادله تناديه وتحتاج اليه‏.‏ وفكره يحيي حقي رائعه‏,‏ وهي تستحق ان نويدها ونتمني تحقيقها علي يد فنان موهوب وطني من احفاد مختار‏1891‏ ‏1934‏ الذي جعل الحجاره ترقص وتغني وتعزف‏,‏ وذلك من خلال تماثيله الشعبيه التي هي سيمفونيات علي الحجاره‏,‏ وتمثال لصانع القباقيب الشهيد لايمكن ان يبدعه الا حفيد من احفاد مختار‏.‏ اليس مختار هو الذي جسد شخصيه مصر في صوره فلاحه تلبس الطرحه وتنظر بوجهها الباسم الصابر الجميل الي المستقبل؟ لو ابدع لنا فنان موهوب ذلك التمثال الذي كان يتمني يحيي حقي ان يراه‏,‏ فلن يكون عجيبا ان يظهر يحيي حقي نفسه بيننا مره اخري‏,‏ وكانه سقراط العربي الذي يحب الناس ويعشق الحوار الهادئ مع الجميع دون ان يفرض رايه عل
    ي احد‏.‏ يومها سوف ينظر يحيي حقي الي تمثال صانع القباقيب ويقول‏:‏ نعم‏..‏ هذا البطل المجهول والمواطن الغلبان هو الذي يمثل مصر فصانع القباقيب عند يحيي حقي هو الاصل‏,‏ والباقي كله عاله علي هذا البطل المجهول‏.‏
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ثروت عكاشه ينقذنا من فضيحه ثقافيه

    بقلم :رجاء النقاش

    هذه قصه وقعت تفاصيلها في اواخر الخمسينات من القرن الماضي وكان موضوعها هو يحيي حقي‏,‏ اديبنا الموهوب العظيم الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده سنه‏1905‏ وقد عرفنا يحيي حقي الذي رحل عنا سنه‏1992‏ رجلا مسالما لايعادي ولا يخاصم ولا يحب لنفسه ان يكون طرفا في اي صراعات او معارك‏,‏ كما انه كان رجلا حريصا علي استقلاله‏,‏ رافضا كل الرفض للاشتغال بالسياسه والدخول في امواجها الصعبه العاتيه‏,‏ وقد اتخذ هذا الفنان الكبير لنفسه ما يشبه الشعار لحياته كلها يقول فيه‏:‏ خليها علي الله‏,‏ وهو الشعار الذي جعله عنوانا لقصه حياته او سيرته الذاتيه‏.‏
    هذا الاديب الكبير المسالم‏,‏ صاحب الصدر الواسع والاخلاق المتحضره العاليه‏,‏ والنفس العفيفه التي ابتعدت به تماما عن اي منافسات من اي نوع‏,‏ لم يسلم من الاذي الذي اصابه في اواخر الخمسينات من القرن الماضي‏.‏ والقصه مولمه للنفس‏.‏ والذي يرويها وكان شاهدا عليها هو الدكتور ثروت عكاشه احد رجال الصف الاول في قياده ثوره يوليو‏1952,‏ وهو القائد الاكبر لهذه الثوره في ميدان الثقافه‏,‏ فقد كان وزيرا للثقافه في المره الاولي التي تولي فيها هذا المنصب من نوفمبر سنه‏1958‏ الي سبتمبر سنه‏1962,‏ ثم تولي نفس المنصب سنه‏1966‏ وحتي سنه‏1970.‏ والمنصفون جميعا يشهدون للدكتور ثروت بانه موسس ثقافي عظيم‏,‏ ويكفي ان اشير هنا الي عباره للشاعر والاديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي حيث يخاطب ثروت عكاشه فيقول عنه انه انسان رائع ومناضل جعل من ثقافتنا الوطنيه قلعه تحمي شرف الانسان وكبرياء القلب الذي يحلم بالمستقبل‏,‏ والذين عاشوا مثلي في العصر الثقافي لثروت عكاشه يصدقون عباره الشرقاوي حرفا حرفا وكلمه كلمه‏.‏ ولولا وجود ثروت عكاشه علي راس وزاره الثقافه في تلك الفتره‏,‏ من‏1958‏ الي‏1962,‏
    ولولا شجاعته ومعرفته بالواقع الثقافي وضميره الحي لوقعت فضيحه ثقافيه كان لابد ان يسجلها التاريخ بكثير من الاسف عليها والغضب منها‏,‏ وكان لابد لهذه الفضيحه ان يكون لها صداها العالمي فتصبح فضيحه ثقافيه دوليه ومحليه في وقت واحد‏.‏ وهذه القصه يسجلها الدكتور ثروت عكاشه في كتابه الشهير مذكراتي في السياسه والثقافه الطبعه الثالثه دار الشروق صفحه‏398‏ حيث يقول‏:‏ لم يكن مضي علي تعييني وزيرا اكثر من شهرين عندما اتصل بي سكرتير رئيس الجمهوريه يدعوني الي لقاء عاجل مع الرئيس عبدالناصر الذي ما ان لقيته حتي طلب مني الاستماع الي شريط صوتي مسجل لمجموعه من الاشخاص انهالوا علي شخص الرئيس بالشتائم البذيئه ناعتين اياه باحط الصفات‏,‏ وسالته مندهشا عمن يكونون‏,‏ فذكر لي اسم احد الوزراء واسم اديب رائد مرموق‏,‏ وانه استغني عن خدمات الوزير‏,‏ وامر باعتقال الاديب الشيخ‏.‏ ولما سالته عن الغرض من دعوتي للاستماع الي ذلك التسجيل‏,‏ قال ان يحيي حقي رئيس مصلحه الفنون كان موجودا معهما ويتعين احالته الي المعاش‏,‏ فبادرته بقولي‏:‏ لكن الواضح من الشريط الصوتي انه لم يشارك في هذا السباب‏,‏ وهو رجل مشهود له بعفه اللسان ودماثه الخلق‏,‏ فضلا عن انه اديب مرموق ومحبوب‏,‏ وتوقيع العقاب ظلما علي هذا النحو سوف يكون له اثر سييء في اوساط المثقفين وعامه الشعب علي السواء‏,‏ فقال‏:‏ ولكنه كان موجودا ولم يعترض‏,‏ وهذا يكفي‏,‏ فناشدته ان يترك الامر لي حتي اعالجه باسلوب مناسب‏,‏ فوافق‏,‏ مقتنعا‏,‏ بعد الحاح‏.‏
    وقد عالج الدكتور ثروت الموضوع بمنتهي الحكمه‏,‏ حيث يقول‏:‏ اسندت الي يحيي حقي الاشراف علي مركز تدريب العاملين بالوزاره‏,‏ كما اسندت اليه بجوار ذلك منصبا مهما بدار الكتب‏,‏ ثم رئاسه تحرير مجله المجله حتي لا يشعر بغربه عن عالمه في مجال الفكر والادب والفن‏,‏ فقبل مني ما عرضته عليه بدماثته المعهوده‏,‏ وطبعا كان ذلك كله بعد اعفائه من منصبه كمدير لمصلحه الفنون‏.‏
    ثم يعلق الدكتور ثروت عكاشه علي ما حدث تعليقا مهما يقول فيه‏:‏ اروي هذه الواقعه لاصل الي تاملي فيما وقع من مبدئه الي منتهاه‏,‏ وانا بطبيعه الحال ارفض بذاءه القول للتعبير عن الخلاف في الراي‏,‏ ولكني ادركت من ناحيه اخري ان التجسس علي الوزراء واحصاء تحركاتهم وسكناتهم واسرارهم الشخصيه كان امرا يتساوي مع التجسس علي المجرمين والخارجين علي القانون‏,‏ وكان هذا درسا وعيته كوزير حديث العهد بالمنصب‏.‏
    هذا ما قاله الدكتور ثروت عكاشه ويمكننا ان نعلق عليه بما يلي‏:‏
    اولا‏:‏ لاشك ان الدكتور ثروت عكاشه بموقفه المسئول والشجاع قد انقذ مصر من فضيحه ثقافيه مدويه‏,‏ وذلك لان يحيي حقي في تلك الفتره‏,‏ واعني بها اواخر الخمسينات من القرن الماضي قد بدا يحظي بشعبيه واسعه بين جماهير المثقفين في مصر والعالم العربي‏,‏ بل انني لا ابالغ اذا قلت انه كان قد بدا يصبح معروفا ولو بصوره بسيطه في الاوساط الثقافيه الاوروبيه وخاصه في فرنسا‏,‏ وكان طرد يحيي حقي من وزاره الثقافه في ذلك الوقت لا يمكن الا ان يكون فضيحه ثقافيه كبيره لمصر في الداخل والخارج‏.‏ وصاحب الفضل في انقاذنا من مثل هذه الفضيحه هو ثروت عكاشه‏.‏ وموقفه هنا جدير بالتامل فيه والاهتداء الدائم به‏.‏
    ثانيا‏:‏ المتهمان الاخران في هذه القصه هما الاديب العربي الكبير محمود شاكر‏,‏ وقد تم اعتقاله لمده تقرب من سنتين‏,‏ ولم يخرج من السجن الا برساله من شاعر السودان ورئيس وزرائها في ذلك الوقت محمد احمد محجوب‏.‏ اما المتهم الثاني فهو المفكر الاسلامي الكبير الشيخ احمد حسن الباقوري‏,‏ وقد تمت اقالته بعد هذه الحادثه من منصبه كوزير للاوقاف‏.‏
    ثالثا‏:‏ كان التسجيل الذي ادين عليه الجميع قد تم في بيت الاستاذ محمود شاكر‏,‏ وكان تسجيلا لجلسه شخصيه خاصه بين شاكر والباقوري ويحيي حقي‏.‏
    رابعا‏:‏ ان هذه الحادثه وامثالها‏,‏ اي التجسس علي الناس في حياتهم الخاصه دون سبب قوي‏,‏ ثم محاسبه الجميع علي ما قد يقولونه في بعض اوقات الاسترخاء والفضفضه‏,‏ وربما في اوقات الملل والضيق من بعض الاوضاع والمشاكل الشخصيه‏..‏ مثل هذه العمليات في التجسس علي الناس كان فيها اساءه لزعيم عظيم مثل عبدالناصر‏,‏ وكان فيها اساءه لثوره وطنيه هي ثوره يوليو‏,‏ وكان مثل هذا التجسس بهذه الطريقه من سلبيات الثوره التي يبقي لها ايجابيات اكثر بكثير من سلبياتها‏,‏ حتي لو كانت هذه السلبيات مولمه وجارحه‏.‏
    ‏*‏ اشرت في مقال سابق الي واحد من عظماء شيوخ الازهر الذين وقفوا في وجه الحاكم التركي الظالم منذ اكثر من مائتي سنه وهو الشيخ محمود البنوفري‏,‏ وقد سالت عن كلمه البنوفري فعرفت انها نسبه الي قريه بنوفر وتساءلت عن هذه القريه اين توجد وما هو معني اسمها‏.‏ وقد تلقيت رساله كريمه من الاستاذ الفاضل الدكتور عبدالوهاب حميده جاد استاذ الجراحه العامه والاورام في كليه طب طنطا وفي هذه الرساله يقول الاستاذ‏:‏ قريه بنوفر هي قريتي‏,‏ وتقع علي فرع رشيد‏,‏ وهي تابعه وقريبه من مركز كفر الزيات وعدد سكانها يتراوح بين سبعه وعشره الاف‏.‏ كل منزل فيها يضم رجلا من رجال الازهر او سيده ازهريه فاخي استاذ بكليه طب طنطا رغم ان والدنا كان عاملا بسيطا بشركه الملح والصودا‏,‏ ولكنه كان يحفظ القران كاملا‏,‏ حفظا وتجويدا‏,‏ وهذا يبين ان التعليم الازهري العام هو هم هذه القريه‏.‏ اما لماذا اسميت هذه القريه باسم بنوفر فانا اسمع ان بيوتها لقربها من النيل كان يغمرها الفيضان العالي فيفر الناس الي مكان امن‏,‏ ثم يعودون بعد انحسار الماء فسميت بنوا وفروا ثم تم تحويل الاسم الي بنوفر‏.‏
    شكرا للدكتور عبدالوهاب جاد‏,‏ وبارك الله فيه وفي قريته الكريمه الطيبه‏,‏ وقد سمعت من الاستاذ عبدالرحمن عوض ان بنوفر قد يكون اصلها بنوفهر‏,‏ ثم اصابها شيء من التخفيف‏,‏ وفهر لغويا معناها الحجر‏,‏ وهي ايضا اسم من اسماء احد اجداد العرب‏.‏
    ـ
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    لماذا غضب عبد الناصر علي يحيي حقي؟

    بقلم‏:‏رجاء النقاش

    تحدثت في الاسبوع الماضي عن غضب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر علي اديبنا الكبير يحيي حقي‏1905‏ ‏1992‏ الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده‏,‏ وقد اعتمدت في حديثي السابق علي روايه استاذنا الجليل الدكتور ثروت عكاشه‏,‏ نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافه الاسبق‏,‏ اطال الله عمره وبارك في حياته وصحته‏,‏ بقدر ما قدم لشعبه وبلاده من خدمات جليله تنحني امامها الرووس ولا تزال تفيض علينا بالخير والنور‏.‏
    وقد غضب عبد الناصر علي يحيي حقي بسبب حضوره لجلسه تعرض فيها عبد الناصر لهجوم شديد‏,‏ واستطاع ثروت عكاشه بجهد استثنائي كبير ان ينقذ يحيي حقي من الاستغناء عنه‏,‏ والاكتفاء بنقله من منصبه الكبير كمدير لما كان يسمي باسم مصلحه الفنون الي العمل كمستشار لدار الكتب‏,‏ ثم اصبح بعد ذلك رئيسا لتحرير مجله المجله وظل يراس تحريرها من سنه‏1962‏ الي ان اصدر الدكتور عبد القادر حاتم قرارا باغلاق هذه المجله فور توليه لمسئوليه الاعلام والثقافه في منتصف سنه‏1971.‏
    وقصه غضب عبد الناصر علي يحيي حقي التي يرويها الدكتور ثروت عكاشه في مذكراته لها روايه اخري يقدمها فضيله الشيخ الجليل احمد حسن الباقوري وذلك في كتابه بقايا ذكريات الصادر عن مركز الاهرام للترجمه والنشر في طبعته الاولي والوحيده فيما اظن سنه‏1988,‏ وفي هذه المذكرات يقول الشيخ الباقوري صفحه‏240:‏ كان من بين الندوات التي احرص علي حضورها والمشاركه فيها ندوه تجمع بين الحريصين علي المعارف والعلوم‏,‏ وخاصه ما يتعلق منها بتفسير القران العظيم‏,‏ وما يتعلق به من مباحث اللغه العربيه الشريفه‏,‏ وكان يصحبنا في هذه الندوه افاضل من ارباب الاقلام واهل البصر بشئون السياسه وشئون الدين‏,‏ ومنهم الدكتور ناصر الدين الاسد والسيد الفاضل عبد الله التل قائد معركه القدس الشريف في حرب فلسطين الاولي سنه‏1948‏ والاستاذ يحيي حقي وكانت الندوه تنعقد في بيت الاستاذ محمود شاكر‏,‏ وكنا في هذه الندوه كثيرا ما نجمع بين متعتين‏:‏ المتعه بالطعام الطيب والمتعه بالكلام الشريف‏.‏
    ثم يقول فضيله الشيخ الباقوري‏:‏
    لم يكن لمثلي في شده حرصه علي مجامله الناس ان يمتنع عن السعي لاغاثه ملهوف او العمل علي طمانه حيران‏,‏ بدليل ان الندوه مجتمعه رغبوا الي ذات يوم ان اعمل علي انقاذ الاستاذ يحيي حقي من اخراجه في حركه التطهير التي كانت تهدف الي تطهير السلك الدبلوماسي من كل من له زوجه غير مصريه‏,‏ وكان يحيي حقي سفيرا لمصر في ليبيا يومئذ وكانت زوجته فرنسيه‏.‏ واذكر انني ذهبت لمقابله اخي الفاضل الدكتور محمود فوزي ووزير الخارجيه في ذلك الوقت ورجوته ان يستثني يحيي حقي من هذا القانون‏,‏ فاجابني الرجل رحمه الله بانه لا يعدني بالاستثناء‏,‏ ولكنه يعدني بان ينقل يحيي حقي من السلك الدبلوماسي الي عمل يليق به في الوزارات التي تحتاج الي عمله‏,‏ وقد نفذ الدكتور محمود فوزي وعده وتم نقل يحيي حقي الي عمل في وزاره الثقافه لا يناسب كفايته في سعه علمه وقدرته علي صياغه القصص‏!.‏
    ويواصل الشيخ الباقوري روايته فيقول‏:‏ ذات يوم اجتمعنا في الندوه بدار محمود شاكر‏,‏ ورن جرس التليفون فاذا المتحدث هو يحيي حقي‏,‏ وكان يشكو اليه اي الي شاكر من انه قد نقل الي عمل لا يناسبه‏,‏ فقال شاكر في حماسه عمياء‏:‏ وما حيلتي يا اخ يحيي في هولاء العساكر الذين يحكمون البلد وعلي راسهم جمال عبد الناصر ابن‏.‏ وكانت كلمه مع الاسف تستوجب اقامه حد القذف لو كان القانون ياخذ بالتشريع الاسلامي‏.‏
    بعد هذه الندوه التي حدث فيها الهجوم علي عبد الناصر بالطريقه التي وصفها الشيخ الباقوري‏,‏ فان من الواضح ان تسجيلا كاملا لهذه الندوه وما جري فيها قد تم اعداده عن طريق اجهزه الامن وتقديمه الي عبد الناصر‏..‏ واستدعي الرئيس عبد الناصر الشيخ الباقوري الي لقائه‏,‏ وفي هذه الجلسه حسب روايه الباقوري‏,‏ قال عبد الناصر انه امتنع عن حضور حفل زفاف ليلي بنت الباقوري بسبب ما بلغه من ان الباقوري يحضر مجالس تنتقد الثوره‏,‏ كما علمت اي عبد الناصر من بعض التقارير ان بعض الاخوان المسلمين في سوريا‏,‏ وفي سائر الاقطار العربيه كانوا يبعثون اليك اموالا لتعين اسر الاخوان المسلمين‏,‏ فاجبته بان ذلك كان ايام محنه الاخوان قبل الثوره بثلاث سنوات علي الاقل‏,‏ وهذا صحيح‏..‏ ولكن ذلك شئ والتامر علي الثوره مع الاخوان شئ اخر‏,‏ ولم يجب عبد الناصر علي هذه الكلمات فرجوته ان ياذن لي بورقه اكتب فيها استقالتي من الوزاره‏,‏ ولكنه اجابني‏:‏ انت تعرف حد استقال عندي قبل كده؟‏!‏ وفي صباح يوم الاربعاء الحادي عشر من فبراير سنه‏1959‏ نشرت الصحف نبا قبول استقالتي‏.‏
    تلك هي روايه الشيخ الباقوري للقصه التي غضب فيها عبد الناصر علي يحيي حقي والتي نتج عنها اقاله الباقوري من الوزاره ودخول محمود شاكر الي السجن‏,‏ وركن يحيي حقي في هامش وظيفي محدود‏.‏ وفي التعليق علي هذه القصه يمكن تسجيل مجموعه من الملاحظات‏.‏
    اولا‏:‏ ان الشيخ الباقوري يعترف بان كلمات الهجوم علي الرئيس عبد الناصر علي لسان الاستاذ شاكر كانت بذيئه وكانت تستحق العقاب القانوني‏.‏
    ثانيا‏:‏ يقول الشيخ الباقوري انه لم يشترك في الهجوم‏,‏ او هذا ما يمكن فهمه بوضوح تام من روايه الباقوري للقصه‏,‏ وهذا ما يخالف روايه الدكتور ثروت عكاشه للقصه في مذكراته حيث يقول ان الباقوري قد اشترك بلسانه في الهجوم علي عبد الناصر‏,‏ وانه اي ثروت عكاشه سمع هذا التسجيل بنفسه في مكتب عبد الناصر‏,‏ مع ملاحظه ان ثروت عكاشه لم يذكر الشيخ الباقوري بالاسم‏,‏ ولكنه اشار اليه بانه احد الوزراء‏,‏ ولم يكن هناك وزير له علاقه بالقصه سوي الباقوري‏.‏ وحسب شهاده الدكتور ثروت عكاشه فان الباقوري قد شارك في الهجوم العنيف علي عبد الناصر‏.‏
    ثالثا‏:‏ من روايه الباقوري وروايه ثروت عكاشه نعلم ان يحيي حقي لم يشارك في الهجوم علي عبد الناصر ولكن علاقته القويه بصاحب الندوه محمود شاكر كانت تهمه له اوشكت ان تطيح به من عمله في وزاره الثقافه اواخر سنه‏1958‏ لولا تدخل الوزير ثروت عكاشه بحكمه وشجاعه لانقاذه‏.‏
    رابعا‏:‏ حسب روايه الشيخ الباقوري فان الندوه كانت منتظمه‏,‏ وكانت تضم شخصيات مهمه منها الباقوري نفسه وكان وزيرا للاوقاف‏,‏ ومنها قائد عسكري سابق في الاردن هو عبد الله التل‏,‏ ومنها شخصيه علميه وثقافيه معروفه هي الدكتور ناصر الدين الاسد الذي اصبح وزيرا للتعليم العالي في الاردن بعد ذلك‏.‏ ومثل هذا التجمع‏,‏ وخاصه في حاله تكراره لا يمكن‏,‏ كما اتصور‏,‏ ان يفلت من متابعه اجهزه الامن‏,‏ وخاصه في اجواء سنه‏1958,‏ وهي السنه الاولي لدوله الوحده المصريه السوريه‏,‏ وقد كانت هذه الدوله محاطه بكثير من الاعداء والمتربصين بها‏.‏ والتجسس بكل صوره ملعون‏,‏ ولكنه في حساب اجهزه الامن مشروع وخاصه في اوقات الازمات‏.‏
    ولاشك ان هناك عبره نهائيه في مثل هذه الاحداث التي تقوم علي الاصطدام بين الادباء والمفكرين واصحاب الراي من جهه وبين السلطه من جهه اخري‏,‏ والعبره هي ان المناخ الديمقراطي وحده يمكن ان يوفر الحمايه للجميع فيقول كل صاحب راي رايه علنا ولا تحتاج السلطه الي جواسيس او اجهزه تسجيل‏.‏
    رد مع اقتباس  
     

  8. #8 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    بين يحيي حقي وسيد قطب

    بقلم: رجاء النقاش
    .....................


    عندما سال الناقد الكبير الراحل فواد دواره‏1928‏ ‏1996‏ صديقه واستاذه يحيي حقي‏1905‏ ‏1992‏ عن تفسيره لاهتمام الناس اهتماما استثنائيا بروايته القصيره قنديل ام هاشم قال له يحيي حقي‏:‏ غريب حقا اهتمام الناس بهذه القصه علي هذا النحو‏.‏ كانني لم اكتب غيرها‏.‏ اتعرف لماذا؟‏..‏ لقد خرجت من قلبي مباشره كطلقه الرصاص‏,‏ فكان ان استقرت في قلوب الناس‏.‏ هكذا اجاب يحيي حقي علي سوال فواد دواره‏,‏ وكانت اجابته اقرب ما تكون الي العباره الشائعه التي كثيرا ما نرددها في احاديثنا اليوميه وهي ان ما يخرج من القلب يدخل الي القلب‏.‏
    والحقيقه ان قنديل ام هاشم كان يمكن ان تبقي في الظل لفتره طويله فلا يلتفت اليها احد‏,‏ لولا ان ناقدا كبيرا احس بقيمتها وادرك اهميتها وانفعل بما فيها من جمال وصدق وعمق وبساطه واسلوب جديد قائم علي الايجاز والتركيز‏.‏
    وقد احس الناقد الكبير بهذا كله بعد صدور القصه سنه‏1944‏ في سلسله اقرا التي تصدر عن دار المعارف‏.‏ وهذا الناقد الكبير الذي احس بقيمه قنديل ام هاشم هو سيد قطب‏1906‏ ‏1966‏ الذي كان في ذلك الوقت‏,‏ اي في اربعينيات القرن الماضي‏,‏ من اكبر نقاد الادب العربي‏,‏ وكانت كلمته مسموعه وموثوقا بها في صفوف الادباء وبين جماهير القراء علي السواء‏.‏ وقد ظل سيد قطب يحتل مكانه الرفيع في مجال النقد الادبي حتي سافر الي امريكا حوالي سنه‏1949‏ في بعثه دراسيه قصيره‏,‏ عاد بعدها لينفض يده من الادب والنقد ويدخل ميدان العمل السياسي والدعوه الدينيه‏,‏ وهي المرحله المليئه بالعواصف التي انتهت بمحاكمته واعدامه سنه‏1966‏ بتهمه الاشتراك في زعامه تنظيم عسكري يهدف الي قلب نظام الحكم في مصر بالقوه‏,‏ وفي هذه الفتره التي تمتد من سنه‏1950‏ الي نهايه حياته سنه‏1966‏ خرج سيد قطب تماما من عالم النقد الادبي الذي كان فيه احد النجوم اللامعه الساطعه في اربعينيات القرن الماضي‏.‏
    عندما صدرت قنديل ام هاشم سنه‏1944‏ كانت الحرب العالميه الثانيه قد اوشكت علي الانتهاء‏,‏ ومن الواضح ان يحيي حقي كتب قصته اثناء هذه الحرب‏,‏ اي في الفتره ما بين‏1939‏ و‏1944,‏ ورغم ان القصه ليس فيها اي اشاره الي اجواء الحرب العالميه‏,‏ الا انها كانت تحاول الاجابه علي سوال مهم جدا طرحته هذه الحرب علي وجدان الناس وتفكيرهم‏,‏ خاصه بين المتعلمين والمثقفين منهم‏,‏
    وهذا السوال هو ببساطه‏:‏ ماذا نفعل مع الحضاره الغربيه الجديده التي تدق ابوابنا بعنف؟ هل نلغي انفسنا لكي نكون نسخه طبق الاصل من هذه الحضاره؟ او ان واجبنا يفرض علينا شيئا اخر وتصورا للامور يختلف عن تصور الغربيين؟ ولقد قامت قصه يحيي حقي علي محاوله بديعه ورائعه للاجابه علي السوال الاساسي عن موقفنا من الغرب‏,‏ وما يتفرع عن هذا السوال من اسئله اخري عديده‏.‏
    وجاءت قنديل ام هاشم اجابه فنيه مليئه بالحياه والحراره‏,‏ خاليه من المناقشات الجافه والافكار المجرده‏,‏ وهي علي بساطتها قصه غنيه بالتلميحات والاشارات والايحاءات‏,‏ بقدر ما هي بعيده كل البعد عن الخطابه والوعظ والتعقيدات الفكريه‏.‏ انها قصه تاخذك بسحرها من يدك‏,‏ وتتحدث معك في همس جميل‏,‏ ولا تقول لك كل شيء بل تتركك وحدك مع نفسك لتتامل وتفكر وتصل الي ما تشاء من نتائج‏,‏ هي ثمره اجتهادك وليست ثمره املاء الفنان صاحب القصه عليك‏,‏ وهذا هو ما يضمن للفن قوته وجماله وتاثيره المستمر القوي علي الناس‏,‏
    لان فن الخطب والزعيق لا يعيش‏,‏ وانما يعيش الفن الهامس الذي يخرج من قلب الفنان وليس من حنجرته‏.‏
    عندما ظهرت قنديل ام هاشم سنه‏1944‏ لم يكن يحيي معروفا الا في دائره محدوده جدا من اصدقائه ومعارفه‏,‏ ولا شك ان من اهم اسباب ذلك انه كان يعمل لفتره طويله في السلك الدبلوماسي امتدت حوالي ربع قرن‏,‏ منذ سنه‏1928‏ تقريبا وحتي سنه‏1954,‏ وقد تنقل خلال هذه الفتره بين جده واستامبول وروما وطرابلس في ليبيا‏,‏ يضاف الي هذا الغياب الطويل عن مصر ما يقوله يحيي حقي عن نفسه من ميل الي الانطواء والعزله‏,‏ وهذا الميل لم يكن صفه شخصيه خاصه به وحده‏,‏ بل كان كما يقول هو نفسه صفه من صفات عائلتي التي كانت تميل الي الانطوائيه لاننا كنا اسره موظفين من اصل تركي وليس لنا املاك الا القليل‏.‏
    ولذلك كله كان من الطبيعي ان يجد يحيي حقي صعوبه في نشر كتابه الاول اي روايته القصيره قنديل ام هاشم‏.‏ وهو يشير الي ذلك في حديثه مع الناقد فواد دواره‏,‏ وهو الحديث الشامل المهم المنشور في كتاب دواره عشره ادباء يتحدثون طبعه كتاب الهلال‏,‏ وفي هذا الحديث يقول يحيي حقي صفحه‏109:‏ لقد تعبت جدا في العثور علي ناشر لقصه قنديل ام هاشم والفضل في نشرها في سلسله اقرا العدد‏18‏ في يونيو‏1944‏ يعود الي الاستاذ محمود شاكر‏,‏ الذي قدمها للمشرفين علي هذه السلسله في دار المعارف‏,‏ ثم يعود الي الدكتور طه حسين الذي قراها ورشحها للنشر‏.‏
    كان يحيي حقي عند ظهور قنديل ام هاشم في التاسعه والثلاثين من عمره‏,‏ وكان قد اصبح موظفا كبيرا في وزاره الخارجيه‏,‏ ولكنه في الحياه الادبيه كان مجهولا او شبه مجهول‏,‏ وكان من الممكن ان تبقي قنديل ام هاشم في الظل‏,‏ والا يلتفت اليها احد لولا موقف سيد قطب الذي اشرنا اليه‏,‏ فقد كتب عنها بعد ظهورها بقليل مقالا قويا مهما في مجله الرساله ثم نشر هذا المقال بعد ذلك في كتابه النقدي الشهير كتب وشخصيات الطبعه الاولي سنه‏1946‏ صفحه‏190,‏ وفي هذا المقال يكاد سيد قطب يصرخ اعجابا بيحيي حقي وتنبيها للراي الادبي العام بان هناك مولودا فنيا جديدا رائعا اسمه قنديل ام هاشم‏,‏ ويبدا سيد قطب حديثه عن يحيي حقي بمشاغبه ادبيه يحتفي فيها بيحيي حقي ويهاجم محمود تيمور فيقول‏:‏ اوه‏!‏ يحيي حقي‏!‏
    اين كانت هذه الغيبه الطويله؟ وفيم هذا الاختفاء العجيب؟ لست اذكر متي قرات له اول اقاصيصه‏.‏ انه عهد طويل‏.‏ حتي لقد نسيته لولا قنديل ام هاشم‏.‏ كل ما اذكره انه من زملاء محمود تيمور الاوائل في بناء الاقصوصه‏.‏
    وتيمور ويحيي حقي برهان علي ان النبوغ وحده لا يكفي‏,‏ ولا العبقريه ايضا‏.‏ لابد من الداب والثبات والمثابره ليكون الانسان شيئا مذكورا‏,‏ والا فاين فن تيمور من فن حقي‏!‏ ثم اين مكانه حقي من مكانه تيمور‏.‏ حقي رجل كسول‏.‏ مهمل‏.‏ يستحق اللوم علي تفريطه في موهبته الفذه‏.‏ وتيمور رجل دووب مجتهد‏.‏ يكتب‏.‏ ويكتب‏.‏ ويكتب‏.‏ ولابد ان يصادف في ذلك الكثير الذي يكتبه شيء ذو قيمه‏.‏ ثم يقول سيد قطب‏:‏ في قنديل ام هاشم ثمره حلوه ناضجه عبقريه‏.‏ كانت البذره في عوده الروح وفي عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم‏,‏ وهي هنا الثمره في قنديل ام هاشم‏.‏ الروح المصريه الصميمه العميقه تطل كما هي في اعماقها من قنديل ام هاشم‏.‏ وهي تطل من خلال اللمسات السريعه الرشيقه الموحيه‏,‏ ومعها الحيويه والفن والشاعريه والابداع‏.‏ وفي خلال اثنتين وخمسين صفحه فقط من حجم الجيب يتم تصوير الروح المصريه الكامنه العميقه العريقه‏,‏ ويتم صراع كامل بين روح الشرق والغرب‏,‏ ويتم انتصار الايمان المبصر علي العلم الجاحد‏.‏ ثم يقول سيد قطب عن اسلوب يحيي حقي‏:‏ انه اسلوب فذ مبتكر‏.‏
    تلك كانت صرخه الناقد سيد قطب عندما التقي لاول مره بعبقريه الفنان يحيي حقي‏,‏ فاعلن الناقد علي الناس في صوت قوي موثر ظهور فنان جديد في عمل رائع هو قنديل ام هاشم‏,‏ وتلك ولا شك وقفه نقديه تعطينا صوره عن واقع حياتنا الادبيه منذ ستين عاما عندما ظهرت قنديل ام هاشم‏.‏ والوقفه النقديه القويه الجريئه تستحق منا ان نذكرها للتاريخ بكل التقدير‏.‏ اما قنديل ام هاشم نفسها فانها تستحق حديثا اخر‏.‏

    رد مع اقتباس  
     

  9. #9 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    لماذا قال يحيي حقي عن نفسه‏:‏ انا‏..‏ قليل الادب؟‏!‏

    بقلم : رجاء النقاش

    قنديل ام هاشم كما هو معروف تقوم علي شخصيه اسماعيل ابن السيده زينب الذي تعلم في انجلترا‏,‏ وعاد بعد سبع سنوات ليعمل طبيبا للعيون‏,‏ واذا به يجد ابنه عمه فاطمه مريضه بعينيها ومهدده بان تفقد بصرها‏,‏ وكانت امها تعالجها بزيت ماخوذ من قنديل ام هاشم وام هاشم طبعا هي السيده زينب‏,‏ ويغضب اسماعيل‏,‏ وذهب الي مقام السيده‏,‏ ويحطم القنديل‏,‏ وينهال الناس علي اسماعيل ضربا واهانه عقابا له علي جريمته في حق مقام السيده‏,‏ ويستمر الصراع حتي يتنبه اسماعيل الي انه مخطيء‏,‏ وانه يريد ان يفرض علي ابناء بلده بالقوه طريقه الحياه والتفكير في الغرب‏,‏ وقد اكتشف طبيب العيون ان هذا لايجدي‏,‏ وان الذي يجدي حقا هو ان يتعاطف مع اهله‏,‏ وان يساعدهم علي الخروج من تخلفهم بالحسني‏,‏ والمحبه واحترام تراثهم الروحي والعقلي‏,‏ وبعد ان اهتدي اسماعيل الي ذلك استطاع ان يعالج فاطمه‏,‏ وان يرد اليها البصر‏,‏ لانها وثقت به واطمانت اليه واحست بما يحمله لها من تعاطف ومحبه‏,‏ وتنتهي القصه بان يتزوج اسماعيل من فاطمه وان يجد السعاده التي كان يبحث عنها‏,‏ ويحلم بها‏,‏ وان يتفاهم مع اهله وبيئته‏,‏ وان يحظي بالاحترام من جانب الجميع ورغبتهم في الانتفاع بعلمه كطبيب للعيون بعد ان اصبح انسانا حكيما يعرف كيف يتعامل مع الناس باخلاص وصدق ونيه طيبه‏.‏
    ذلك هو ملخص سريع للقصه المعروفه‏,‏ ونحن اذا اخذنا القصه علي وجهها الظاهر فسوف نراها قصه ساذجه‏,‏ وربما نراها ايضا قصه غير معقوله‏,‏ وان بينها وبين الواقع مسافه كبيره‏,‏ وقراءه القصه علي هذا الوجه الظاهر خطا‏,‏ والصواب هو قراءتها علي ان لها وجها اخر فيه اشارات رمزيه رقيقه شفافه‏,‏ وهنا سوف نسمع فيها صوتا عميقا موثرا يقول لنا‏:‏ ان التطور المفاجيء العنيف لابد ان ينتهي الي الاصطدام والانهيار‏,‏ اما التطور الذي اخذ الواقع بعين الاعتبار‏,‏ ويقترب منه في محبه وعاطفه صادقه وفهم انساني صحيح للنفوس‏,‏ فهو وحده التطور القادر علي ان ينهض بالناس ويفتح امامهم ابواب التقدم والقدره علي مواجهه الحياه‏,‏ وخلاصه هذه القصه البديعه هي ان الطبيب اذا كان كارها للمريض الذي يعالجه‏,‏ محتقرا له‏,‏ فانه من المستحيل ان يستطيع مساعده هذا المريض علي الشفاء‏,‏ والطبيب هنا هو رمز للسياسي والمفكر والاديب والفنان وكل من له دور في قياده المجتمع والناس‏.‏
    علي ان هناك قضيه حساسه جدا اثيرت ضد يحيي حقي وقصته قنديل ام هاشم فقد راي البعض ان في هذه القصه تعبيرا عن مشاعر عدائيه ضد شعب مصر‏,‏ مما يشير الي ان يحيي حقي يكره المصريين ولا يشعر نحوهم باي حب او تعاطف‏,‏ ومن المدهش حقا ان يحيي حقي تاثر بهذه الاراء فانتقد نفسه نقدا بالغ القسوه والعنف‏,‏ وجاء ذلك علي لسانه في حوار اذاعي طويل اجراه معه المذيع المثقف عادل النادي بتاريخ‏25‏ ابريل سنه‏1991,‏ اي قبل وفاه يحيي حقي بعام واحد وثمانيه شهور‏,‏ حيث انه توفي في‏10‏ ديسمبر سنه‏1992,‏ وهذا الحديث نشرته مجله الاذاعه والتليفزيون في عده حلقات بعد ذلك‏.‏
    وفي هذا الحديث يقول يحيي حقي عن نفسه‏:‏ انني الان عندما اعيد قراءه مقاطع مما كتبته في قنديل ام هاشم اقول انني كنت قليل الادب وكنت بذيئا لانني شتمت الشعب المصري شتائم فظيعه جدا‏,‏ وانا شديد الخجل بسبب ذلك‏,‏ فعندما اقول عن الشعب ان بوله فيه دم وديدان اي انه مصاب بالبلهارسيا والانكلستوما او اقول عن الناس انهم يسيرون كالقطيع‏,‏ فليس فيهم من يسال او يثور‏...‏ في مثل هذا الكلام بذاءه شديده ولابد من الاعتذار عنها‏.‏
    ذلك ما قاله يحيي حقي بلسانه عن نفسه‏.‏
    ونحن هنا نقف مع يحيي حقي ضد يحيي حقي‏,‏ ففي الادب الصادق الجميل فان الزعل مرفوع اي اننا لايجوز ان نزعل من اديب فنان قلبه علينا‏,‏ ومن حق اديب كبير‏,‏ موهوب وحساس ونبيل‏,‏ مثل يحيي حقي‏,‏ ان يقول ما قاله عن شعبه عندما وجد في هذا الشعب احوالا لاترضيه في النصف الاول من القرن العشرين والغاضب الناقد الناقم هنا وهو يحيي حقي‏,‏ يريد بشعبه خيرا ولايريد به السوء‏,‏ وقد كان الاديب الروسي انطون تشيكوف‏1860‏ ‏1904‏ يقول‏:‏ ان بلدنا روسيا بلد سخيف غليظ القلب ولم يتهمه احد بالبذاءه او قله الادب او انعدام الوطنيه بل ان الذين يفهمون معني الغضب المقدس عند الادباء والفنانين العظماء قد اعتبروا ما قاله تشيكوف صرخه من اجل نهضه شعبه وبلاده‏,‏ وهكذا نعتبر نحن كلمات يحيي حقي‏,‏ او يجب علينا ان نعتبرها كذلك‏,‏ فقد كانت كلها كلمات مبنيه علي حسن النيه والمشاعر الطيبه النبيله والرغبه في ان يتحرك اهل مصر من نومهم واستسلامهم لظروفهم الصعبه السيئه‏.‏
    تلقيت من الاستاذ الفاضل ابراهيم بدوي سكرتير الدكتور عبدالقادر حاتم برقيه هذا نصها‏:‏ لقد اسات الي الدكتور حاتم بقولك في مقال سابق لك ان الدكتور حاتم قد اغلق مجله‏,‏ المجله عندما كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للاعلام سنه‏1971‏ والحقيقه ان الدكتور حاتم لم يكن مسئولا عن مجله المجله التي كانت تابعه لوزير الثقافه ونرجو التصحيح‏.‏
    وردي علي الاستاذ الفاضل صاحب البرقيه هو ان اخر عدد صدر من مجله المجله كان عدد اكتوبر سنه‏1971,‏ كما هو ثابت في دار الكتب المصريه وبذلك يكون اغلاق المجله قد تقرر بعد صدور هذا العدد الاخير وبالرجوع الي كتاب الدكتور محمد الجوادي عن وزراء مصر بين‏1952‏ و‏1997‏ نجد ان الدكتور حاتم كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافه والاعلام في وزاره الدكتور محمود فوزي الرابعه والتي تم تشكيلها في‏19‏ سبتمبر سنه‏1971‏ وبعد اثني عشر يوما من تولي الدكتور حاتم لمنصبه صدر العدد الاخير من مجله المجله وبذلك تكون المجله قد تم اغلاقها في عهد الدكتور حاتم‏,‏ ونحن نكن للدكتور حاتم كل الاحترام والتقدير‏,‏ ونعترف له بفضله وبما له من انجازات كبيره لاينكرها احد‏,‏ ولكن هذا كله لايمنعنا من تسجيل الحقيقه التاريخيه التي لامهرب منها‏,‏ وهي ان اعلاق مجله المجله المهمه والمحترمه كان من القرارات الثقافيه الخاطئه‏.‏
    رد مع اقتباس  
     

  10. #10 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    يحيي حقي .. منارة لا مرآة

    بقلم: محمد شاهين

    ما زلت أذكر تلك الأيام _ عندما كنت طالبا في كلية الآداب، انتظر وزملائي موعد صدور الملحق الأدبي لجريدة المساء. وما زلت اذكر ما كان يدفعنا لملاحقة ذلك الملحق قبل أن ينفد من الأسواق. كان شوقنا إلي قراءة ما يكتبه يحيي حقي هو أكثر ما يدفعنا إلي السعي وراء ملحق المساء. لم نكن نعلم آنذاك بالضبط لماذا وكيف كانت كتابات يحيي حقي تجذبنا إليها جاذبية خاصة، وتشيع في نفوسنا نوعا من الرضا لا تشيعه كتابات أخري. كان يحيي حقي يشدنا إلي قراءته مباشرة بعد الأسطر الأولي ويظل هذا الرباط منيعا إلي ما بعد الإنتهاء من آخر كلمة في المقالة، وهذا ما كان يبعث الشوق فينا علي تجديد اللقاء به فيما بعد، ومن هنا نشأت صلة الوصل بيننا وبين زاد المساء علي مدي السنوات في بداية الستينات.
    كان يحيي حقي يطل علينا من صفحات المساء حاملا معه ما تشتهيه النفس من صدق وصراحة وبساطة _ كركائز ثابتة تنطلق منها رؤيته للواقع. ولاؤه كان للكلمة­ لحقٌها عليه وحقيقتها عنده. لم يكن منحازا لمؤسسة أو لشلة. لم يكن مهللا للفرنجة ولا متعصبا للتراث. لم يكن منغلقا علي نفسه في شرنقة الماضي، ولا مبهورا ¢بشيفون¢ الحاضر. كان رحمه الله لا يعادي من اختلفت مشاربهم عنه، ولا يباهي بمن اتفقت أهواؤهم معه. ومع كل هذا لم يتخذ موقفا وسطا أو وسطيا كوسيلة سهلة للحفاظ علي استقلاليته. كان يدخل للحق والحقيقة مدخل صدق يستشف القاريء منه إيمانه بما يقول وما يفكر وما يفعل، فتنساب الحجة إلي نفوسنا بتلقائيتها التي سرت في نفسه من قبل، فتعبر إلينا بيسر وأمان دون إجهاد أو إجهاض.
    غاب عنا يحيي حقي، لكن روحه ظلت حاضرة في فكره وأدبه، تطل علينا كلما عاودنا الشوق إلي تجسيم صورة الخلود التي كانت أبدا مصدر إلهامه واستمرار بقائه. وهذه كتاباته خير شاهد علي تخليد ذكريات الحياة فنا وفكرا.
    من بين الكتابات التي أذكرها بشوق خاص مقالة ظهرت في ذلك الملحق في شهر شباط عام 1961 بعنوان ¢أضواء علي القصة الحديثة¢. وقد سعدت عندما وجدت المقالة تنشر في المجلد الخامس عشر من أعمال يحيي حقي الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (1987) وعنوانه ¢أنشودة البساطة¢. وعندما عاودت قراءة المقالة تذكرت علي الفور كيف أن يحيي حقي انبري كعادته للدفاع عن قضية الأزل: قضية التراث والحداثة بسحر البساطة التي تتحول علي يديه إلي بيان أخٌاذ نفٌاذ.
    وتذكرت أيضا كيف أن يحيي حقي كان يواجه بتلك الأسطر القليلة المؤثرة معركة حامية الوطيس دون أن يكون نصيرا أو تابعا لطرف أو آخر. وقبل أن أبدأ بتقييم لموقف يحيي حقي، أود أن أوجز خلفية النزاع في ذلك الحين الذي سما يحيي حقي فوقه بأنشودته البسيطة.
    يذكر جيل الستينات، وطلاب كليتي الآداب في جامعة القاهرة وعين شمس علي الأقل الصراع الذي كانت تدور رحاه حول الحداثة. كان زعيم ذلك الصراع رشاد رشدي الذي أنشأ حول نفسه ما يسمي بالإنجليزية ¢cult¢، حيث التف حوله عدد من الأتباع والمؤازرين تزودوا من زاده الغربي الحديث الذي حماه عند رجوعه من بريطانيا إلي القاهرة في الخمسينات الأخيرة. واستطاع رشاد رشدي أن يحوز علي سلطة المؤسسة الثقافية مما ساهم في جعل صوته مسموعا من خلال أجهزة الثقافة والإعلام المختلفة. اذكر في يوم من الأيام عندما وصل الصراع مداه أنني سألت أستاذي عبد القادر القط عما كان يجري علي صفحات المساء من أخذ ورد بين رشاد وأنصاره من جهة، وبقية الخلق من جهة أخري، فأجاب الأستاذ القط ¢فلان طالع فيها¢، وعندما لاحظ أن التعبير ضل سبيله استطرد قائلا: بالمناسبة هذا التعبير المصري هو أدق ترجمة للكلمة الإنجليزية (snob)، وكان رحمه الله أستاذا بارعا في الترجمة. كان الأستاذ رشاد رشدي رحمه الله، كما ذكر الأستاذ القط، يحاضر في الصباح، ويذيع محاضرته أو محاضراته في المساء وينشرها في الصحف في اليوم التالي وما هي إلا أسابيع قليلة حتي تخرج المحاضرات في كتاب!
    علي كل حال لا تهمنا تفاصيل ذلك الصراع الذي أصبح تاريخا. لكن ما يعنينا هو أين كان يقف يحيي حقي من هذا الصراع؟ كان يحيي حقي بطبعه لا يميل إلي معاداة أحد ولا يغضب من اختلاف في الرأي بينه وبين غيره، ولكنه كان يغار علي الحق ولا يقبل الإنسحاب من معركة يري فيها جورا واضحا. لم يتخذ من التراث سورا يحتمي خلفه، بل آثر أن يجعل من نفسه سورا لحماية التراث. كل هذا مبعثه الإعتقاد الراسخ في نفسه أن الحقيقة أهم من الشخص الذي يسعي إلي تشويه الحقيقة، وأن الحق قوٌام حتي علي من يدافع عنه. أو لو نظرنا إلي المقالة المذكورة أعلاه لوجدناها توضح ما نعلم عن يحيي حقي من صمود وثبات أمام الحق والحقيقة. هكذا تبدأ المقالة:
    ¢ اشتركت أخيرا في ندوة أدبية بالإذاعة مع الصديقين العزيزين: أستاذي الدكتور محمد مندور والدكتور رشاد رشدي، فوجدتني في ختام الندوة _ وكأنما عن غير عمد أو تحضير مني _ أحاول أن أعبر عن ضيق يجثم علي في الأيام الأخيرة، مبعثه شعوري وسط معارك النقد المحتدمة في الوقت الحاضر ودورانها حول القصة وحدها أننا نحدث بترا فاصلا بين ماضي أدبنا وحاضره، فالمتتبع لهذه المعارك معذور إذا وقر في نفسه أن أدبنا لم يولد إلا قبيل الحرب العالمية الأولي _ يا له من تراث ضئيل.
    وحاولت في الندوة بإيجاز وتلجلج أن أتلمس الوسيلة لإيجاد ولو خيط يصل بين حاضرنا وماضينا.
    وبعد أيام قليلة _ لكأن هناك عفريتا يلاحقني ويعاتبني _ رجعت إلي داري ذات ليلة وأنا أشد ضيقا وحزنا، فقد حضرت مجلسا في قبو يتصدره شاب من أنبه كتاب القصة عندنا يتحلق حوله نفر من أصدقاء يحبونه ويعلقون عليه أكبر الآمال. قال لنا بملء فمه _ وكدأبه دائما _ بوثوق شديد بالنفس، وعزم لا يقبل أي اعتراض أو مناقشة ¢ أنه كقصصي لا يجد في الأدب العربي القديم كله أية ذرة من النفع له. ولم يدر أنه يزيد من هزئه بتراثنا حين أردف متفضلا علي هذا الأدب العربي القديم كله إن الكتاب الوحيد الذي قد يمده ببعض النفع هو كتاب ¢ألف ليلة وليلة¢ ثم رمي قفازه متحديا وقال: إنه في غني عن الأدب العربي القديم كله فلنشربه نحن حلالا علينا، أما هو فإنه يجد روحه عند تشيكوف وموبسان¢.
    ماذا يفعل يحيي حقي في بقية المقالة؟ إنه يدخل إلي الموضوع من ثلاثة محاور رئيسية بسيطة، ولكنها تكون بيت القصيد في أي معالجة ناجحة للموضوع. وقد دعاه تواضعه أو أسلوبه السهل الممتنع إلي عدم شرح هذه المحاور أو الإطناب في وصفها، فجاءت إشارات لماحة تستحق منا الشرح والتفصيل لذلك علي قدرة الكاتب في الإيجاز والتعبير.
    المحور الأول يتعلق باللغة، حيث يبين يحيي حقي للشباب المندفع وراء بريق الحداثة، أن المرتكز الأساسي للحداثة هو اللغة أو ما يسميه تشومسكي استعمال اللغة (competence) كنشاط يميز اللغة عن كونها مجرد معرفة أو أداة لتوصيل معرفة أو رسالة مقصودة، ويندرج هذا النشاط عند أشهر المحدثين الغربيين وخصوصا بارت تحت اسم بارول (Parole) وهو نشاط لغوي متجدد لا ينتهي عند حد في استعمالات مختلفة للغة في ظل نظام لغوي محكم يعرف بالفرنسية ب (Langue§)، وكلا النشاط والنظام فرعان لما يعرف اصلا باللغة (Language) أي أن يحيي حقي كان يعرف مصدر الحداثة دون التحدث عنها أو التشدق بمصطلحات غير مصطلحاتها، وهكذا نجد يحيي حقي يكتفي بموجز معبر عن كنه الموضوع عندما يقول ¢وأسألهم _ بل واستحلفهم _ وهم يقرأون في مادة النقد الغربي الحديث، هل رأوا ناقدا واحدا فصل بين الأدب واللغة؟ هل رأوا ناقدا واحدا لا يضني نفسه أولا بالتمكن من معرفة أسرار لغته، وبفضل هذه الأسرار يوزع نقده علي الكتاب؟ هل اقتصر نقد شكسبير علي فنه المسرحي أو كان عماده تأمل لغته ووسائل تعبيره؟¢
    ومن الجدير بالذكر أن اعتقاد يحيي حقي هذا الذي عبر عنه في أوائل الستينات ما زال يعتبر ركنا من أهم أركان الحداثة. ألم يقل فيرلين أن الثورة الأدبية في القرن العشرين ما هي إلا ثورة الكلمة، بمعني أن الحداثة لا تكمن في مضمون ولا في موتيف ولا تقنية؟ نحن نعلم أن الغرب طلع علينا بقصة قصيرة ورواية حديثتين في هذا القرن، ليس باعتماده علي التراث بل باستعمال جديد للغة، فيها اللحمة بين الكلمة والمعني، وفيها اللغة متجددة (generative) بتجدد المناسبة والموضوع. فالناظر إلي التراث الأدبي الغربي في القرن العشرين مقارنة مع تراث القرن التاسع عشر لا يجد في الحاضر ذلك الإمتداد أو الإعتماد علي الماضي. إن التراث كما يعتقد يحيي حقي والمحدثون يكمن في اللغة نفسها وفي تنشيطها لتعبر عن مكنوناتها التي تنتظر التفعيل علي يد الكاتب أولا ثم علي يد القاريء ثانيا. أما النقطة التي انتبه اليها يحيي حقي فهي أن اللغة تصل الينا عبر الزمن وهي محملة بالشحنات الحضارية والثقافية منتظرة الكاتب والقاريء ليقوم بتحريك هذه الشحنات وتفجير طاقاتها كما يقول باختين. أي أن الكاتب والقاريء لا يبدآن من فراغ عند حصول التماس بينهما وبين اللغة. وكأن يحيي حقي أراد أن يقول أن اللغة العربية ليست كأي لغة من آلاف اللغات الإفريقية أو مئات اللغات الهندية التي كتبت لها استمرارية معينة دون تراث. عندما آثر سينجور زعيم الصومال السابق أن يكتب بالفرنسية فأنه فعل ذلك بعد أن وجد أن اللغة الأفريقية التي يعرفها مفرٌغة من التراث.
    من الواضح أن يحيي حقي تنبه إلي حقيقة هامة هنا وهي أن الحداثة والتراث والأدب مصدرها واحد، ألا وهو اللغة التي تتفرع منها كل هذه الأشياء. فأدب شكسبير وعصره الاليزابيثي يختلف عن أدب القرنين السابع والثامن عشر. وأدب هذه العصور الثلاثة يختلف عن أدب القرن العشرين بكل ما فيه من حداثة. ومرجع هذا الإختلاف هو استعمال اللغة. لم يقدٌم جويس الحداثة من خلال استعمال أسطورة الاوديسا ولم يقدمها لأنه حفيد شكسبير ولكنه قدمها من خلال استعمال جديد للغة الإنجليزية التي نحت منها لغة جعلته من رواد الحداثة في هذا العصر.
    ونقطة أخري هامة فطن اليها يحيي حقي وهو المحور الثاني في حواره، وهي أن الحداثة أكبر من أن يحدها أو يحددها جنس أدبي كالقصة القصيرة أو الرواية مثلا. والمثل الذي يقتطفه من ديوان عمر بن ربيعه يوضح أن الفن القصصي يتخطي حدود الجنس الأدبي، ففي الشعر مثلا قصص لا يقل روعة عما هو في النثر. وربما لم يكن يحيي حقي علي وعي بأن حديثه هذا يصب في صلب الحداثة. فقد نادي النقاد الغربيون منذ أواخر الماضي بضرورة الغاء الحواجز بين الأجناس الأدبية (genre)، وفي العقود الأخيرة الماضية ظهرت دراسات بعنوان ¢القصة في مسرحيات شكسبير¢ وكتبت فيرجينيا وولف رواية (الأمواج) وكأنها قصيدة. وبعد أن يشير للشباب الغاضب علي التراث إلي وجود قصة قصيرة جميلة في شعر عمر بن أبي ربيعة الذي يبدأ بالبيت المشهور:
    أمن آل نجعم انت غاد فمبكر غداة غد أو رائح فمهجر
    بعد أن يفعل يحيي حقي ذلك يقول: ¢هذه القصيدة تصلح لأن تكون حكاية علي غرار حكايات بوكاشيو، لأن الشاعر يصف مغامرة غرامية سأرويها لكم..¢ ثم يخلص إلي القول: ¢ تنتهي الحكاية هنا بانتهاء المغامرة، عرض علينا عمر حوادثها بترتيب وتسلسل، لها بداية ووسط ونهاية، ونقل لنا صورة ذكية لطبع الرجال والنساء وحديثهن وجو الليل والترقب والحذر والحب والمتعة¢.
    من الواضح أن يحيي حقي اختار هذا المثل وفي ذهنه الضجة الكبري التي أقامها رشاد رشدي حول فن القصة القصيرة التي اعتبرها فنا غربيا لا مثيل له في التراث العربي وساق الأمثلة كلها من قصص غربية ترجمها لهذا الغرض، وهي في الواقع ليست بذات قيمة حتي في أدب القصة الغربية القصيرة. ومن بين القصص التي ركز عليها رشاد رشدي قصة موباسان ¢تحت ضوء القمر¢، ومن بين التقنيات التي تكرر ذكرها في حديث رشاد رشدي هي أن القصة القصيرة عمادها بداية ووسط ونهاية.
    ولا بد وأن طبع يحيي حقي السمح كان يمنعه من أن يقول صراحة لزميله وصديقه رشاد رشدي، إن كل سحر في قصة موباسان موجود في قصة عمر بن أبي ربيعة، بل وأكثر. وأنه لو صح العزم وخلصت النية لعثر علي مثل واحد علي الأقل من التراث العربي.
    كان طبعه رحمه الله يصرفه عن المواجهة الشخصية إيمانا أن المعالجة الحقيقية أهم من التصدي للمعتدي عليها. فبدلا من الصراحة التي كان يمكن أن تؤدي إلي خصومة راح يحيي حقي يوضح أن القصة القصيرة هي أكثر من بداية ووسط ونهاية. وبيٌن أن المشهد الأخير في قصة عمر بن أبي ربيعة يفوق التقنية ¢المتسلسلة¢ إن صح التعبير، وهي نهاية تفوق كل نهاية مرتبطة ببداية ووسط. وبهذا نصل إلي المحور الثالث الذي يدخل منه لمعالجة الموضوع. يقول يحيي حقي:¢ تعالوا معي إذن نري كيف أنهي عمر قصيدته، نعلم من الأبيات الأخيرة أن مغامراته لا تنسيه عناء مخلوق هو أول عون له علي قضاء مأربه وهي ناقته التي سخرها لأسفاره..¢ ثم يستشهد ببيت القصيد:
    فساقت وما عافت وما رد شربها عن الري مطروق من الماء اكدر
    إنها فعلا نهاية جميلة يلاحظها يحيي حقي، فهي توازي بين محنة عمر ومحنة ناقته موازاة فنية رائعة: كلاهما قسا عليه الظرف وتركه ظمآنا. وهكذا يتضح لنا الظمأ المحسوس وتتداخل أجزاء الصورة بعضا ببعض بشكل عفوي وعضوي يفوق تلك ¢البنية العضوية¢ التي سلطها رشاد رشدي سيفا هش به علي التراث الذي رآه خاليا منها.
    وأبلغ مثل علي عمق البساطة هذه هو قصته ¢قنديل أم هاشم¢ التي كتبها يحيي حقي بلغة تفوق الوصف في عباراتها المكثفة وايقاعها الذي يطرب الأذن وسردها الذي ينساب دون أي تكلف. تقرأ القصة وتشعر أنها قصيدة نثر جميلة من القصائد التي يتحدث عنها ملارميه أو بودلير، والتي ترصد الحركة الداخلية لتموجات العاطفة عند الشخصية. وينسحب هذا بشكل عام علي أعمال يحيي حقي التي يطوقها اسلوبه بكل هذه البساطة المؤثرة التي ينتقل سحرها إلي السامع والقاريء بتأثير بالغ.
    سألت جبرا مرة عن السبب الذي قاده إلي كتابة روايته الأولي باللغة الإنجليزية، فأجاب أنه أحجم عن الكتابة بالعربية لأنه اعتقد أن اللغة الخاصة التي تحتاجها الرواية لم تكن متوفرة بعد في لغتنا العربية، وأن نماذج النثر الفني عند العقاد والمنفلوطي وغيرهم لا تسعف الروائي علي اشتقاق لغة روائية. أي أن جبرا اشتكي من غياب الأنموذج الذي كان يمكن أن يقتدي به من أجل أن يستعين به قبل أن يشرع بكتابة الرواية. لست أدري كيف اختفي عنه نور ¢قنديل أم هاشم¢.
    لكن دهشتي من ملاحظة جبرا خفت قليلا بعد أن حضرت الندوة التي أقامها المجلس الأعلي للثقافة بالإشتراك مع منظمة اليونسكو في يناير من هذا العام احتفالا بمرور مئة عام علي مولد يحيي حقي. فقد لاحظت أن الندوة لم تول اللغة الروائية الإهتمام الذي تستحقه، بل إن ¢وجوه يحيي حقي¢ وهو عنوان الندوة لا يمكن أن يجستدل عليها بدون التنقيب عن اللغة الروائية في كتابات يحيي حقي.
    هذه أمثلة أسوقها لماما من ¢قنديل أم هاشم¢ تبيٌن بوضوح القدرة علي اشتقاق لغة روائية تفي بما هو مطلوب من السرد الروائي أن يحققه:
    ¢في هذا الزيت مورد رزق متسع للشيخ درديري، ومع ذلك لا تظهر عليه آثار النعمة. فجلبابه القذر هو هو، وعمامته الغبراء هي هي. وماذا يفعل بنقوده! هل يكنزها تحت بلاطة؟ يتهمه زملاؤه أنه يحرقها في الحشيش، بدليل سعاله الذي لا ينقطع وبدليل ما في طبعه من ميل (للقفش) والتنكيت، والحقيقة أنه مزواج لا يمر العام إلا ويبني ببكر جديدة. عرفه اسماعيل من تردده علي المقام واعتاد أن يمر عليه في أغلب الليالي بعد صلاة العشاء ليتندر بحديثه. ومال الرجل للفتي واختصه بحنانه، هذا الحنان هو الذي حمله ذات ليلة علي الإفضاء إليه بسر لم يفض به إلي أحد غيره.......
    نحس ونحن نقرأ هذا العرض أن الشيخ درديري يمثل أمامنا مظهرا ومخبرا. لو قال الراوي مثلا أن الشيخ درديري ينفق فلوسه في الحشيش لكان القول باهتا. لكنه آثر أن يقول أنه ¢يحرقها¢ في الحشيش، مما يعطي التشبيهية والحسية.
    أما المفارقة الرائعة في هذا المقتطف الذي يذكرنا علي الفور بتجربة اساسية في رواية جويس ¢صورة الفنان في شبابه¢ عندما يواجه ستيفان ديدالاس بنت الهوي ويدخل في تجربة جديدة في حياته. ومع أن اسماعيل كان غائب الذهن، يفكر في الفتاة السمراء التي تزم شفتيها إلا أنه كان غير غافل عن سحر الشيخ وقنديله، ومنذ تلك اللحظة التي تحدث إليه الشيخ التحم اسماعيل بالقنديل ليصبح جزءا هاما من تكوينه. كل هذا يحدث دون أن يدرك اسماعيل فعلا كنه الموضوع ¢ وانتفض اسماعيل، لا يدري ما هذا الذي سحر قلبه¢.
    وبهذه العبارة الموجزة نقف علي حالة اسماعيل ونحن مثله في حيرة لا ندري ما الذي مس قلبه، أهو القنديل أم الفتاة أم الإثنين معا. ومن الواضح أن كلمة ¢مس¢ تحمل أكثر من معني أقربها الجنون.
    وفي مشهد آخر مؤثر يصف اسماعيل الفتاة وهي تقبٌل سور المقام، وبعبارة سحرية يشفع لها أمام مقامات الصالحين، وأكثر من ذلك فإن هذه الشفاعة تتضمن أقصي درجات التعاطف الإنساني: ¢ ليست هذه القبلة من تجارتها¢، وكأن التجارة الضمنية قد تخلفت عن صاحبتها خلف السور. هكذا يتطهر الناس من ذنوبهم وهم يسعون إلي العتبات المقدسة. وكأن الراوي الذي يقف موقف الملاحظ يقول هنا ¢ إنما الأعمال بالنيات¢ وليس بالتجارة التي يراها الراوي ضمنيا مهنة عابرة في ظرف عابر يمكن أن يتحرر منها المرء وهو في حضرة مقام الصالحين. ولولا أن الراوي تخيل أن الفتاة تحررت فعلا من تجارتها لما بادر بالقول ¢ومن ذا الذي يجزم بأن أم هاشم لم تسع إلي السور، وقد هيأت شفتيها من ورائه لتبادلها قبلة بقبلة؟¢
    من التعليقات التي سمعتها في ندوة يحيي حقي عن ¢قنديل أم هاشم¢ أن الروائي يختزل الحوادث كثيرا لأنه يرغب في الوصول إلي هدفه بأقصي سرعة، بدليل أنه اختزل حياة اسماعيل في الغرب إلي أقصي درجات الإختزال، إذ ينتهي القسم الخامس من الرواية بعبارة ¢وسافرت الباخرة¢ ويبدأ القسم الذي يليه مباشرة بعبارة ¢ومرت سبع سنوات وعادت الباخرة¢.
    لكن يحيي حقي يستعيض عن العنصر الحكائي باللغة الروائية المكثفة التي تعطي القاريء مجالا يتخيل من خلاله ما حدث دون أن يسمع تتابع الأحداث من الراوي. وهنا نأتي إلي أهم مساهمة قدمها يحيي حقي للرواية، وهي المشاركة الفعلية للقاريء التي مردها إلي إيمان يحيي حقي بحرية القاريء ودوره الفعال في العملية الروائية برمتها. كل هذا بفضل الإستعمال الخاص للغة، الذي يغنينا عن تتبع الأحداث ويقلل من سلطة الراوي علي القاريء باختزال تعليقاته وتفسيراته وفرض وجهة نظره علي القاريء. كان يحيي حقي حداثيا قبل أوان الحداثة، علي الأقل في العالم العربي، إذ إنه اهتدي مبكرا إلي أن اللغة في الرواية عنصر أساسي، وأن الثورة الكبري في عالم الأدب الغربي كانت من خلال التطور الهائل الذي طرأ علي اللغة التي لم تعد مجرد اداة تنقل الحدث وتحكيه ثم تختفي بعد وصول الحدث الينا. ففي ¢قنديل أم هاشم¢ علي سبيل المثال نجد أن وعي اسماعيل في المراحل المختلفة من حياته بما يدور حوله هو الذي يشكل الحدث طوعا من خلال التعبير الذي يصل الينا، وكل ما في لغة السرد من ايقاع ينبع اصلا من تموجات الوعي المختلفة التي يحس بها اسماعيل، وهي تموجات يغلب فيها الإحساس (sensation) علي الإدراك (comprehension). ويظل الإحساس متحديا للإدراك لأنه لا يخضع لمنطقه ولا يمكن أن يكون التعبير عنه كافيا أو مرضيا علي الأقل.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *المصدر: أخبار الأدب، في 17/4/2005م
    رد مع اقتباس  
     

  11. #11 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ظاهرة أدبية فريدة:
    الرصاصة التي انطلقت من قلب يحيى حقي

    بقلم: فؤاد دوارة

    " لم يحدث في تاريخ الأدب العربي كله، وربما في تاريخ الأدب العالمي - في حدود علمي - أن استطاعت قصة في أقل من سبعين صفحة، أن تنتقل وحدها بمؤلفها من عالم المجهول إلى قمة الشهرة، ليصبح كاتبا معروفا، بعد ان كان نكرة لا يعرفه أحد، هذا هو ما حدث بالضبط مع رواية يحيى حقي القصيرة "قنديل أم هاشم" فقد ضمها أول كتاب نشر له في أبريل سنة 1994، مع أربع قصص قصيرة، ومجموعة من مقطوعات الشعر المنثور بعنوان "بيني وبينك"، وكلها رفيعة المستوى، وإن تفردت الرواية القصيرة التي عرف الكتاب باسمها بقوة التأثير الهائلة، التي حولت اسم كاتبها المجهول إلى علم يشار إليه بالبنان، ويحرص القراء على متابعة كل ما يكتب.
    "لقد احتفى النقاد والدارسون بهذه الرواية، فكتبوا عنها كثيرا، واجتهدوا في تحليلها وتعداد مزاياها، حتى ذاعت شهرتها، بدرجة كاد يضيق بها يحيى حقي، وصرح بذلك في حوار أجريته معه سنة 1964، قال فيه: "إن اسمي لا يكاد يذكر إلا ويذكر معه "قنديل أم هاشم"، كأني لم أكتب غيرها .. "
    "ما سر هذه الرواية القصيرة التي حققت لكاتبها ما لم تحققه عشرات الكتب لغيره من كبار المؤلفين؟
    "شغلني البحث عن السر وأنا أعيد قراءتها للمرة السابعة أو الثامنة - لا أذكر - وبينما أنا غارق في البحث والتأمل، تذكرت أن يحيى حقي نفسه وضع في أيدينا عدة مفاتيح مهمة قد تساعدنا في الاهتداء إلى هذا السر.
    "أول هذه المفاتيح يتمثل في قوله في نفس الحوار الذي أشرت إليه حالا:
    "حين أحاول البحث عن سبب قوة تأثير "قنديل أم هاشم" لا أجد ما أقوله سوى أنها خرجت من قلبي مباشرة كالرصاصة، وربما لهذا السبب استقرت في قلوب القراء بنفس الطريقة .." مؤكدا بذلك عنصر الصدق في الرواية ، الصدق الواقعي، والصدق الفني، صدق العاطفة، وصدق الانفعال، وهو ما فسره في سيرته الذاتية الموجزة التي أضيفت إلى مؤلفاته الكاملة، التي بدأ إصدارها عام 1975، فقال عن سنوات الاغتراب الخمس التي قضاها في روما: "طوال تلك السنوات لم أنقطع عن التفكير في بلادي وأهلها. كنت دائم الحنين إلى تلك الجموع الغفيرة من الغلابة والمساكين الذين يعيشون برزق يوم بيوم. وحين عدت إلى مصر سنة 1939 شعرت بجميع الأحاسيس التي عبرت عنها في "قنديل أم هاشم .." لم يكن من قبيل المصادفات إذن أن يحدثنا أيضا في سيرته الذاتية عن معايشته المستمرة حتى اليوم لشخصيات حي السيدة زينب التي عرفها في طفولته من أمثال "الست ما شاالله"، بائعة الطعمية، والأسطى حسن حلاق الحي، وبائع الدقة الذي لا يبيعك إلا إذا بدأته بالسلام وأقرأك وراءه الصيغة الشرعية للبيع والشراء، وجموع الشحاذين والدراويش الملتفين حول مقام "الست"...
    "وهي نفس الشخصيات التي يصفها على صفحات الرواية وبنفس أسمائها، وهو ما يجعلنا نقطع بأنه لم يكن يؤلف رواية خيالية بقدر ما يسجل جانبا من سيرته الذاتية، وحياته الواقعية في حي السيدة زينب، فإذا اختلفت بعض تفصيلات حياته كما نعرفها عما جاء في الرواية، فأهم من ذلك الموقف العام، والمشاعر والأحاسيس التي أكد أنه عاشها جميعا.
    لوثة عاطفية
    المفتاح الثاني الذي وضعه يحيى حقي في أيدينا ليساعدنا على الاقتراب من فهم سر هذه الرواية العبقرية يتمثل في قوله:
    "إنها قصة غريبة جدا كتبتها في حجرة صغيرة كنت أستأجرها في حي عابدين، وعشت فيها لوثة عاطفية مثيرة عبرت عنها في أناشيد "بيني وبينك" التي تجدها في نهاية كتاب "قنديل أم هاشم".."
    وحين نراجع تلك الأناشيد الغزلية، نلاحظ أنها تتحدث عن تجربة عاطفية انقضت، ويكفي أن نقرأ فقرة واحدة من فقراتها الثلاث والثلاثين - بعدد حبات المسبحة - لندرك مدى تعلقه بتلك الحبيبة الهاجرة، ومدى السعادة التي ذاقها معها، ولتكن تلك التي يقول فيها: "ماذا تظنين؟ أحسبت يوم اختفائك أنني سآوي إلى عشنا فأمكث أترقب ميعادك، فإذا مضى تشاغلت بكتاب أقرأه ولا أفهم منه شيئا، ونظرت إلى الساعة مرة وتثاءبت أخرى حتى إذا ما انتبهت إلى مشاغلي التي أهملتها من أجلك، هبطت الدرج سريعا، وانطلقت إلى الدروب والمسالك، واختلطت بالناس.. أو يدور بخلدك أنني عندئذ أنسى كل شيء؟
    هيهات لخيالك مهما سكر وعربد، أن يدرك ما فعلت .. لبثت انتظرك ساعة، ثم ليلة، ثم يوما ويومين، أسبوعا وأسبوعين، شهرا وشهورا .. وما زلت انتظرك وأنا أعلم أنك لن تعودي، ولكني أخشى - إذا لم أنتظرك وشاء القدر أن تعودي، أو أن ألقاك في الطريق - أخشى حينئذ أن تكون لهفتي على رؤيتك قد طواها النسيان، وأطفأ أوارها. ولست أريد إلا أن أقابلك مشبوب العاطفة، وإله القلب، ظامئ العين، فأنت - لو تعلمين - عزيزة علي، وهيهات لي أن ابتذل قدرك عندي .. فلأحتمل الألم طول الدهر خوفا من إساءتك في لحظة عابرة.. قد تأتي وقد لا تأتي ..". لعل هذه الفقرة تكفي وحدها للتعبير عن مدى السعادة التي عاشها مع تلك الحبيبة عقب عودته من أوربا عام 1939، وهو ما أسماه بعد ذلك بسنين طويلة "لوثة عاطفية" استمرت عاما وبعض عام، هي الفترة التي استغرقها في كتابة رائعته "قنديل أم هاشم" .. أي أنه كتبها وهو غارق في حالة توهج عاطفي نادر نكاد نلمسه في تأجج مشاعره وتوفز أعصابه في كل عبارة خطها في الرواية.
    "دواق" ليلة الدخلة
    على أن هذا التوهج العاطفي لا يرجع في الحقيقة إلى تلك "اللوثة العاطفية" وحدها، بل إلى لوثة أخرى أقوى وأشمل، عاشها يحيى حقي منذ طفولته المبكرة في بيت متواضع أرضعه التدين والوطنية وحب الأدب والقراءة، ازداد حبه لبلاده التهابا وتأججا خلال سنوات غربته، فلم ينقطع تفكيره فيها وفي أهلها، وحنينه الدائم إليهم، مما انعكس على تصويره لهم في الرواية، وفي غزله المشبوب ببلاده مثل:" .. في ذهنه مصر عروس الغابة التي لمستها ساحرة خبيثة بعصاها، فنامت عليها "دواق" ليلة الدخلة. لا رعى الله عينا لم تر جمالها، ولا أنفا لا يشم عطرها، متى تستيقظ؟ .."
    وقد أصاب يحيى حقي حين وصف بطله بأنه "شاب يريد أن يهز الشعب المصري هزا عنيفا ويقول له: اصح.. تحرك، فقد تحرك الجماد!"
    تستبد به تلك الرغبة الملحة في إيقاظ الشعب لدرجة تدعوه إلى هجائه بقسوة لم يجرؤ عليها أعدى أعدائه، لكأنه من فرط حبه ينخزه بلا رحمة لكي يخرجه من سباته:" .. هؤلاء المصريون جنس سمج ثرثار أقرع أمرد، عار حاف، بوله دم، وبرازه ديدان. يتلقى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه. ومصر؟ قطعة مبرطشة من الطين أسنت في الصحراء، تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض، ويغوص فيها إلى قوائمه قطيع من الجاموس نحيل.."
    وهذا الحب المتأجج ليس مشاعر مجردة أو عاطفة مثالية معلقة في الهواء، بل هو شديد الارتباط بالمكان والناس الذين نشأ بينهم يحيى حقي وبطله في حي السيدة زينب وأحس بآلامهم وشاركهم جدهم ولهوهم، وتعمق في تفهم نفسياتهم مما نلمس آثاره بوضوح في صفحات الرواية.
    تعمد يحيى حقي أن يدفع ببطله إلى السيدة في ثلاثة مواقف حاسمة في الرواية. في المرة الأولى قبل احتدام الأحداث، بل قبل بدايتها، وإسماعيل لا يزال صبيا يرى ويسجل أدق التفصيلات والأحاسيس دون أن يكون له موقف محدد إزاءها ".. هو خبير بكل ركن وشبر وحجر، لا يفاجئه نداء بائع، ولا ينبهم عليه مكانه. تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط. صور متكررة متشابهة اعتادها فلا تجد في روحه أقل مجاوبة لا يتطلع ولا يمل. لا يعرف الرضا ولا الغضب. إنه ليس منفصلا عن الجمع حتى تتبينه عينه. من يقول له إن كل ما يسمعه ولا يفطن له من الأصوات وكل ما تقع عليه عينه ولا يراه من الأشباح، لها كلها مقدرة عجيبة على التسلل إلى القلب، والنفوذ إليه خفية، والاستقرار فيه، والرسوب في أعماقه، فتصبح في كل يوم قوامه. أما الآن فلا تمتاز نظرته بأية حياة.. نظرة سليمة، كل عملها أن تبصر."
    القنبلة الأولى
    وسافر إسماعيل إلى إنجلترا وتفوق في دراسة طب العيون، وعاش قصة حب جارفة مع زميلة إنجليزية، عرفت كيف تخرجه "من الوخم والخمول إلى النشاط والوثوق"، ونجحت في تحريره من كثير من مشاعره الشرقية المسرفة الضارة، ومن بينها حبه المفرط لها. وعاد إلى بلاده واثقا من نفسه وعلمه مهيأ لخدمة بلده وأهله، فإذا به يواجه في أول ليلة له في بيته، بأمه، تعالج ابنة عمه وخطيبته "فاطمة النبوية" بسكب قطرات من زيت قنديل أم هاشم في عينيها المصابتين بالرمد، فتلهبها وتكويها بدلا من أن تشفيها. ثار وفقد أعصابه، وانتزع زجاجة الزيت من يد أمه "بشدة وعنف، وبحركة سريعة طوح بها من النافذة. وكان صوت تحطمها في الطريق كدوي القنبلة الأولى في المعركة".
    ها هي ذي الأحداث قد تتابعت وتأزمت وأوشكت أن تصل إلى قمتها، وها هو ذا المؤلف يدفع ببطله إلى ميدان السيدة مرة ثانية فكيف رآه؟ .. فلنقرأ: "أشرف على الميدان فإذا به يموج كدأبه بخلق غفير ضربت عليهم المسكنة، وثقلت بأقدامهم قيود الذل. ليست هذه كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد. هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب الأعمدة الخربة، ليس لها ما تفعله إلا أن تعثر بها أقدام السائر. ما هذا الصخب الحيواني؟ وما هذا الأكل الوضيع الذي تلتهمه الأفواه؟ يتطلع إلى الوجوه فلا يرى إلا آثار استغراق في النوم كأنهم جميعا صرعى أفيون. لم ينطق له وجه واحد بمعنى إنساني ..." ويندفع إسماعيل لمنازلة الخرافة في عقر دارها، فيحطم قنديل أم هاشم، فإذا بالجموع تكاد تفتك به. وحين يشفى من جراحه يندفع مرة ثانية في علاج "فاطمة النبوية" بالأساليب العلمية التي أتقنها في إنجلترا، وشفى بها مئات العيون المريضة. ولكنها في حالتنا هذه تفشل فشلا ذريعا، فينهار إسماعيل ويفقد ثقته في نفسه وفي علمه، ويعيش أزمة ضارية تكاد تقضي عليه، وتدفعه للهرب إلى أوربا، لولا ارتباطه الوثيق بميدان السيدة وبأهله، وتردده المستمر عليه، حتى استعاد سكينة نفسه، وبدأ يدرك فيما يشبه الكشف الصوفي أن العلم دون الإيمان لا يساوي شروي نقير، وأن فاطمة النبوية لم تشف لأنها فقدت إيمانها بإسماعيل وبأساليب علاجه.
    بهذه الروح الجديدة تغيرت نظرة إسماعيل للميدان ولناسه: "وجاء رمضان فما خطر له أن يصوم. ابتدأ يطيل وقفته في الميدان ويتدبر: في الجو، في الهواء، في المخلوقات، في الجمادات، كلها بها شيء جديد لم يكن فيها من قبل. كأن الوجود خلع ثوبه القديم واكتسى جديدا. علا الكون جو هدنة بعد قتال عنيف ... ودار بعينيه في الميدان، وتريثت نظرته على الجموع فاحتملتها، وابتدأ يبتسم لبعض النكات والضحكات التي تصل إلى سمعه، فتذكره هي والنداءات التي يسمعها بأيام صباه ... ما يظن أن هناك شعبا كالمصريين حافظ على طابعه وميزته رغم تقلب الحوادث وتغير الحاكمين. ابن البلد يمر أمامه كأنه خارج من صفحات الجبرتي.
    اطمأنت نفس اسماعيل وهو يشعر أن تحت قدميه أرضا صلبة"... إلخ إلخ...
    يؤمن يحيى حقي بأن "الأدب الصادق هو الأدب الذي - وإن سجل وحلل وكتب بأسلوب واقعي - لا يكتفي بذلك بل يرتفع إلى حد التبشير، وهذا ما وجدته في الأدب الروسي فسحرني.." وفي اعتقادي أن سرا من أهم أسرار قوة تأثير " قنديل أم هاشم" هو ارتفاعها إلى مستوى التبشير القوى للتصالح بين العلم والإيمان، من أجل النهوض بجموع الشعب المستكينة المستسلمة لمصيرها التعس، ويزيد من قيمة هذا التبشير وقوته أنه تحقق بأسلوب فني درامي ودون أي قدر من الخطابة والمباشرة، وقد تمثل في حرص إسماعيل بطل الرواية على شفاء ابنة عمه وخطيبته فاطمة النبوية، وحرصه كذلك على أن يتزوجها، بعد أن يعلمها كيف تأكل وتشرب وكيف تجلس وتلبس، ويجعلها بنى آدم. أحسن في هذه العلاقة وفاء المثقف المصري، الذي يمثله إسماعيل، لشعبه المريض الجاهل وقيامه بواجبه نحوه، ويرتبط به بهذا الرباط المقدس الذي لا ينفصم. يؤكد هذا الفهم ويزكيه ما فعله إسماعيل بعد ذلك حين افتتح عيادة بسيطة لعلاج مرضة العيون بحي البغالة، وجعل الزيارة بقرش واحد لا يزيد .. " استمسك من علمه بروحه وأساسه، وترك المبالغة في الآلات والوسائل. اعتمد على الله، ثم على علمه ويديه، فبارك الله في علمه ويديه. ما ابتغى الثروة ولا بناء العمارات وشراء الأطيان، وإنما قصد أن ينال مرضاه الفقراء شفاءهم على يديه." إنها رواية تتخذ موضوعها من حياة جموع الناس، وتدعو أبناءهم المثقفين إلى التفاني في خدمتهم وتجميل حياتهم، فهل يدهشنا بعد ذلك أن تستقر في قلوب الناس بنفس القوة التي خرجت بها من قلب مؤلفها؟
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *المصدر: مجلة "العربي" ـ أبريل 1996م.
    رد مع اقتباس  
     

  12. #12 رد: الكاتب المصري الكبير يحيى حقي (ملف خاص) 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    يحيى حقي.. الأديب والإنسان
    (في ذكرى مولده: 1 من ذي القعدة 1322هـ)

    سمير حلبي

    يعد الأديب المبدع يحيى حقي رائد فن القصة القصيرة العربية؛ فهو أحد الرواد الأوائل لهذا الفن الذي يدين له بالكثير مما وصل إليه من نضج، وما بلغه من انتشار واسع، وقد خرج من تحت عباءة ذلك الرائد المبدع الذي كان يعمل في صمت ويكتب في هدوء كثير من الكتاب والمبدعين في العصر الحديث، وكانت له بصمات واضحة في أدب وإبداع العديد من أدباء الأجيال التالية.
    المولد والنشأة
    ولد "يحيى محمد حقي" في [1 من ذي القعدة 1322هـ=7 من يناير 1905م]، ونشأ في "درب الميضة" بحي "السيدة زينب"، وكانت عائلته ذات جذور تركية قديمة، وقد استوطنت مصر نحو عام [ 1282هـ=1865م].
    وشب "يحيى حقي" في جو مشبع بالأدب والثقافة، فقد كان كل أفراد أسرته يهتمون بالأدب مولعين بالقراءة، فخاله "حمزة بك" كان يشغل وظيفة رئيس القلم العربي في ديوان الخديو إسماعيل، وله نماذج من الإنشاء حواها كتاب "جواهر الأدب"، وعمه هو "محمود طاهر حقي" الذي امتلك في شبابه مجلة "الجريدة الأسبوعية"، وكان أحد رواد فن الرواية، وقد كتب عدة روايات منها: "عذراء دنشواي"، و"غادة جمانا".
    أما والده "محمد حقي" فقد كان موظفًا بوزارة الأوقاف، وكان محبًا للقراءة والثقافة، وكان مشتركًا في عدد كبير من المجلات الأدبية والعلمية والثقافية، وكانت أمة كذلك حريصة على قراءة القرآن الكريم ومطالعة الكتب الدينية.
    في هذا الجو الديني الذي يظله الحب ويشع فيه التفاهم وترفرف فيه السعادة نشأ "يحيى حقي" لتتشبع روحه ووجدانه بالقيم الدينية الأصيلة، وتتشرب بالأخلاق الفاضلة، والقيم الإنسانية النبيلة والمثل العليا.
    أسماء الأنبياء
    وكان "يحيى حقي" ثالث سبعة إخوة: خمسة ذكور، وبنتان، وكان إخوته الذكور يحملون جميعًا أسماء أنبياء؛ فأكبرهم "إبراهيم" الذي بدأ حياته بالكتابة الأدبية في مجلة "السفور"، وثاني إخوته "إسماعيل" الذي عمل بالتدريس في بعض المعاهد المصرية وجامعة الملك سعود، وترجم كتبًا في الفلك والفضاء، ثم "زكريا" الذي عمل طبيبًا، و"موسى" الذي تخرج في كلية التجارة ثم حصل على ماجستير في السينما، أما الأختان فهما "فاطمة"، و"مريم".
    في هذا الجو نشأ "يحيى حقي" متأثرًا بالأدب القديم والحديث، فقرأ لعدد كبير من أدباء العرب القدامى كالجاحظ وأبي العلاء، كما تأثر بعدد من الكتاب الغربيين مثل "فرجينيا وولف"، و"أناتول فرانس".
    يحيى حقي في صعيد مصر
    عمل "يحيى حقي" معاونًا للنيابة في الصعيد لمدة عامين من [1346هـ=1927م] إلى [1347هـ=1928م]، وكانت تلك الفترة على قصرها أهم سنتين في حياته على الإطلاق، وهو يفسر ذلك بقوله: "أتيح لي أن أعرف بلادي وأهلها، وأخالط الفلاحين عن قرب، وأهمية هاتين السنتين ترجع إلى اتصالي المباشر بالطبيعة المصرية والحيوان والنبات، والاتصال المباشر بالفلاحين والتعرف على طباعهم وعاداتهم".
    وقد انعكس ذلك على أدبه، فكانت كتاباته تتسم بالواقعية الشديدة وتعبر عن قضايا ومشكلات مجتمع الريف في الصعيد بصدق ووضوح، وظهر ذلك في عدد من أعماله القصصية مثل: "البوسطجي"، و"قصة في سجن"، و"أبو فروة".
    كما كانت إقامته في الأحياء الشعبية من الأسباب التي جعلته يقترب من الحياة الشعبية البسيطة ويصورها ببراعة وإتقان، ويتفهم الروح المصرية ويصفها وصفًا دقيقًا وصادقًا في أعماله، وقد ظهر ذلك بوضوح في قصة "قنديل أم هاشم"، و"أم العواجز".
    في السلك الدبلوماسي
    والتحق "يحيى حقي" بعد ذلك بالسلك الدبلوماسي، وقضى نحو خمسة عشر عامًا خارج مصر، وقد بدأ عمله الدبلوماسي في جدة، ثم انتقل إلى تركيا، ثم إلى روما، وعندما عاد إلى مصر إبان الحرب العالمية الثانية عين سكرتيرًا ثالثًا في الإدارة الاقتصادية لوزارة الخارجية، وظل بها نحو عشر سنين.
    وفي تلك الفترة تزوج من السيدة "نبيلة" ابنة "عبد اللطيف بك سعودي" عضو مجلس النواب، وكان ذلك في [ذي الحجة 1362هـ=ديسمبر 1943م].
    وبدخوله هذه الأسرة وجد "يحيى حقي" نفسه في غمار التاريخ، يقول: "دخلت في هذه الأسرة فإذا بي أدخل في بحر خضم لا شاطئ له من تاريخ مصر وأجيال مصر منذ حكم إسماعيل إلى الفترة التي أعيش فيها، تروى لي بأدق التفاصيل وبأدق الأسرار من حمايا المرحوم الأستاذ عبد اللطيف سعودي.. فكان لهذا الرجل فضل كبير علي في أنه بصرني بأشياء كثيرة لا يعلمها إلا هو في تاريخ مصر الحديث".
    ميلاد ووفاة
    تعرضت السيدة "نبيلة" لمتاعب شديدة في شهور حملها الأخيرة، وكانت قد أصيبت في صغرها بحمى روماتيزمية، فأثرت عليها في شبابها، وقد نالت منها في شهور حملها؛ وهو ما أجهدها، خاصة وقد تبين إصابتها بالتهاب عضلة القلب الذي لم يكن له علاج، حتى ظهرت تباشير علاج جديد اسمه "البنسلين"، وكان علاجًا نادرًا يصعب الحصول عليه إلا عن طريق وزارة الخارجية أو قوات الحلفاء، كما أن سعره كان مرتفعًا للغاية، ولكن استطاع يحيى حقي –من خلال عمله بوزارة الخارجية- الحصول على هذا الدواء، ولكن بعد فوات الأوان، فقد وصلت حالة الزوجة إلى مرحلة حرجة خطيرة لا تستجيب معها للعلاج، وما لبثت الزوجة أن ماتت بعد أن وضعت مولودتها "نهى" بستة أشهر.
    وبالرغم من زواج "يحيى حقي" من السيدة "جان" الإنجليزية بعد وفاة زوجته الأولى بفترة طويلة فإنه ظل يذكر تلك السيدة التي عرف معها السعادة ولم تجنِ غير الألم، وكان كلما تذكرها بكى بحزن وتأثر، وكأنها لم تمت إلا في تلك اللحظة.
    بين يحيى وشاكر
    كان "يحيى حقي" متواضعًا أشد ما يكون التواضع، عطوفًا على أصدقائه مخلصًا في صداقته لهم، وقد ربطته صداقات وطيدة بعدد كبير من أعلام عصره، من أجيال مختلفة واتجاهات متعددة، ولكن كان الحب دائمًا هو الرباط الذي يجمع بينهم، والأدب هو الصلة التي تضمهم، ومن هؤلاء: محمود محمد شاكر، وعثمان عسل، ومحمد عصمت، وفؤاد دوارة، ومصطفى ماهر، وعطية أبو النجا، ونعيم عطية، وسامي فريد، وسمير وهبي، وأحمد تيمور وغيرهم.
    وكان شاكر من أكثرهم قربًا منه فقد عرفه منذ عام [1358هـ=1939م] واستمرت صداقتهما لأكثر من (53) عامًا.
    فقد كان لشاكر أكبر الأثر في الارتقاء بلغة يحيى حقي، وتحويله من رجل تتعثر يده لم يتعمق علمه بالعربية إلى ذلك الأديب المبدع الذي تشي كتاباته بأسرار العربية في تمكن واقتدار، ويكشف "يحيى حقي" بحب وتواضع عن جوانب خفية في علاقته بصديقه "شاكر" فيقول:
    "من سنة 1939 إلى الآن هذه الصداقة متصلة، بل له علي فضل كبير، فهو الذي يدفع لي فاتورة التليفون، وهو الذي يدفع عني كثيرًا من الديون، وإذا تعثرت في الفلوس يعطيني لوجه الله".
    ويقول عن تأثيره فيه وتأثره به:
    "أثناء عملي بديوان وزارة الخارجية توثقت صلتي بالمحقق البحاثة الأستاذ محمود شاكر، وقرأت معه عددًا من أمهات كتب الأدب العربي القديم ودواوين شعره. ومنذ ذلك الحين وأنا شديد الاهتمام باللغة العربية وأسرارها، وفي اعتقادي أنها لغة عبقرية في قدرتها على الاختصار الشديد مع الإيحاء القوي".
    وقد أشاد "شاكر" بموهبة حقي الأدبية وبراعته وحسه الأدبي المرهف "وتنبهه إلى جمال العبارة العربية، واكتشافه المبكر لأسرار بلاغة العرب، وقدرته الفائقة على اختزان كل ما يعرف وتمثله فيما يكتب بأسلوبه وعباراته بغير محاكاة أو تقليد، وإنما باقتدار وفن. براعة جعلته لا يقع فيما يقع فيه غيره من النقاد والأدباء، وهو ما أكسبه شخصية متميزة ومستقلة قائمة بذاتها.
    ريادة فن القصة القصيرة
    وبالرغم من قلة الأعمال القصصية ليحيى حقي فإنه يعد بحق هو الرائد الأول لفن القصة القصيرة، كما أثرى فن اللوحة الأدبية في مقالاته الأدبية العديدة التي لا تقل فنًا وبراعة عن القصة.
    وقد صدرت الأعمال الكاملة ليحيى حقي في (2 مجلدًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقام بإعدادها ومراجعتها الناقد "فؤاد دوارة".
    وقد ترجمت بعض قصصه إلى الفرنسية، فترجم "شارل فيال" قصة "قنديل أم هاشم"، وترجم "سيد عطية أبو النجا" قصة "البوسطجي"، وقدمت تلك القصة الأخيرة في السينما وفازت بعدد كبير من الجوائز.
    ومن أشهر أعمال "يحيى حقي": مجموعته القصصية "دماء وطين"، و"قنديل أم هاشم"، و"يا ليل يا عين"، و"أم العواجز"، و"خليها على الله"، و"عطر الأحباب"، و"تعالى معي إلى الكونسير"، و"كناسة الدكان".
    يحيى حقي.. نبض للحياة
    كان "يحيى حقي" أكثر أدباء جيله تأثيرًا على الأجيال اللاحقة من الكتاب، فقد كرَّس حياته لإرساء القيم الأدبية والفكرية والأخلاقية، وظل يرسي تلك المبادئ والقيم ويبثها في تلاميذه من خلال إبداعاته حتى آخر لحظة في حياته.
    ولقد كان "يحيى حقي" ذاكرة حية لواقع الحياة المصرية، وقد سجلت كتاباته نبض الحياة المصرية، وعكست أنماط الحياة والتقاليد الاجتماعية في صعيد مصر وريفها، كما حرص على نقد الواقع الاجتماعي للأمة.
    واستطاع كذلك أن يرسي أسس الدرس النقدي منذ وقت مبكر، فكان كتابه "فجر القصة المصرية" – على صغر حجمه – تأصيلاً مبكرًا للأسس الفنية للنقد الأدبي لفن القصة.
    وكان للإبداع الأدبي لدى "يحيى حقي" قيمة فنية وفكرية وجمالية، فقد كانت لديه قدرة عجيبة على استشراف آفاق المستقبل الأدبي، كما كان متمكنًا من الأداة اللغوية، عارفًا بتراث أمته وتاريخها، وهو ما أضفى على أدبه سحرًا فريدًا.
    فهو يجمع بين جمال الصياغة وروعة الفكرة والإحساس المرهف، مع الاهتمام بالقيم الدينية والأخلاق السامية وإعلاء المثل العليا.
    وقد خرجت كتاباته في لغة قصصية متميزة في إيقاعها وتراكيبها، متوهجة بالمشاعر والأحاسيس، متدفقة بالحركة، نابضة بالحياة، ذات قدرة فائقة على الإيحاء والتجسيد، والتأثير في المتلقي.
    وتأثير "يحيى حقي" واضح على القصة العربية ليس فقط في مصر وحدها، وإنما في الأدب العربي عامة، ودوره في إرساء تقاليد هذا الفن الأدبي وإنضاجه هام وكبير بالرغم من قلة أعماله، وذلك لا يعني ضيق عالمه أو محدوديته، وإنما على العكس فقد كان يحيى حقي مدرسة لكثير من الأدباء، وعالمًا رحبًا حلق فيه العديد من الأدباء ينهلون من فنه وأدبه.
    وتوفي "يحيى حقي" في [سنة 1412هـ=1992م] عن عمر بلغ سبعًا وثمانين سنة، بعد رحلة معاناة مع المرض، ولكنه كان دائمًا ثابت الجنان راضيًا مستسلمًا لقضاء الله.
    * من مصادر الدراسة:
    رسائل يحيى حقي إلى ابنته: نهى حقي – إبراهيم عبد العزيز، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة: [1422هـ=2001م].
    سيناريو فيلم البوسطجي: صبري موسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة: [1422هـ=2001م].
    كناسة الدكان: [كتاب الهلال]، يحيى حقي، دار الهلال – القاهرة.
    وصية صاحب القنديل: صلاح معاطي، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة: [1415هـ=1995م].
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    *المصدر: موقع "إسلام أون لاين.
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. رحيل الكاتب والناقد سامي خشبة
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26/06/2008, 01:11 PM
  2. «الحوار في المسرح الشعري» كتاب جديد للدكتورة نوال السويلم
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02/04/2008, 05:09 PM
  3. من شعر الكاتب الشاعر العملاق العقّاد ...
    بواسطة الدكتور مروان الظفيري في المنتدى الشعر
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 14/06/2006, 04:12 PM
  4. وفاة الكاتب السوري العجيلي
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 06/04/2006, 11:18 AM
  5. تعريف الكاتب الكبير: د. بديع حقي
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 15/10/2005, 07:07 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •