تقدم صاحبي ولمس جرس الباب لمسة حانية ، وانتظرنا عدة دقائق ننتظر أثر هذه اللمسة ، لكن دون جدوى ، قلت : (( وكفى الله المؤمنين القتال )) صاحبنا خارج الدار ، هلمَّ بنا نقفل راجعين .. لم يكترث لكلامي واتجه نحو الباب ليودع الجرس لمسة أخرى ورمقني بنظرة استياء مما قلت وتمتم : من السنة : قرع الباب ثلاثاً ، تبسمت لفقه أبي فضيل ، ونظرت إلى الباب متمنياً أن تبوء اللمسات كلها بالفشل .
انبعث من خلف الباب صوت نسائي : من الطارق ؟ وعلى الفور قال صاحبي : مروان .. قلت : ويحك ، لم ذكرت اسمي ولم تذكر اسمك ؟ قال : هذه هي واحدة من خطة الهجوم ، فأنت لست من أبناء حينا ، ولم تقم بزيارته قيل اليوم ، وهذا يعطيه الأمان ويسارع لفتح الباب على اعتقاد منه بأنك أتيته لأمر طارئ يسهل عليه الفكاك منه ، وغاب الصوت دقائق أخرى ثم سمعنا حسيس نعل قادم ، فقال رفيقي : لقد وقعت الفريسة في المصيدة .
فتح غياث الباب مبتسماً مرحباً ثم ما لبثت الابتسامة أن تلاشت عندما وقع نظره على المهاجم العتيد ، واصطنع البهجة والسرور ، ورحب بنا وسأل عن أحوالنا وأخبارنا وأمورنا و.. ونحن نقول له : بخير والحمد لله . واسترسل في أسئلته الباردة لبضع دقائق ولم يدعنا لدخول البيت ، ولما نفذ صبر المحارب الصنديد ، قال له : يا رجل ، أهكذا تستقبلون ضيوفكم على عتبات الدار ؟ أين الشهامة العربية ، والنخوة الحاتمية ؟ إن كنت لا تستحي مني لأنني جارك وابن حيك ، فاحترم هذا – وأشار إلي – فإنه أول مرة يزورك فيها .. تلعثم قليلاً وقال : أتنوون الدخول ؟ حاولت أن أجيب لكن أبا فضيل كان أسرع مني فقال : فما الذي جاء بنا إذن ؟ فقال : لحظات وأعود إليكم .
ومرت اللحظات الطوال ، ولم يرجع إلينا ، فقلت : يا صاحبي لا تكن ثقيلاً ، هيا بنا نقفل راجعين ، فالخصم رفع الراية البيضاء ، وفرَّ من ساحة المعركة و.. قال : الصبر مفتاح الفرج ، تريَّثْ قليلاً لنرى ..
فُتح لنا الباب بعد هذا الصبر المرير ، وسُمح لنا بالدخول فدخلنا فإذا الدار شبيهة بقصور السلاطين .. في غرفة من غرف القصر جلسنا ، وغاب غياث دقائق ليبدل ملابسه حسب قوانين وأعراف هذه الأسر .
سألني القنَّاصة الساحب : أرأيت عبق الطبيخ المنتشر في ردهات البيت ؟ قلت : بل شممته ، قال : ما عساه يكون ؟ قلت : ليكن ما يكون ، لقد ضاقت نفسي بما رأيت وأريد الانصراف ، قال : وتفر قبل بداية المعركة ؟ قلت : نعم ، قال : والغنائم ؟ قلت : لا أظن أنها ستكون ذات قيمة عالية وإني متنازل لك عنها ..
ودخل صاحبنا في شكله الرسمي ورحب ثانية وسألنا عن سبب الزيارة ، فابتدرت الحديث : كنت في حيكم والتقيت أبا فضيل فذكر لي أنه رآك صباحاً ، فأحببت السؤال عنك لا أكثر ولا أقل ، وقد رأيتك بخير والحمد لله فاسمح لنا بالانصراف .
قال : قبل أن نقوم بحق الضيافة ؟ هذا مستحيل ، وبمكر الثعالب قال : صاحبي : لعل الوقت غير مناسب ، وأنتم تستعدون للغداء و .. وقرع الباب ، ودخل الخادم بأكواب العصير، ولما فرغنا من شربه وشكرته على حسن الضيافة ، قال مرافقي : أنتم تشربون العصير قبل الغداء أم بعده ؟
كان السؤال صعباً غيَّر لون وجه المضيف ، فقال : نعم ، لم أفهم ، ماذا تقصد ؟ قلت : لا شيء ، قال أبو فضيل وبشيء من الفظاظة : بل أقصد ، هل تناولتم غداءكم أم لا ؟ قال : نعم ، لا ، الطعام يحتاج إلى وقت طويل حتى ينضج ، وما أظن أن وقتكم يسمح ، وإلا تشرفنا بمشاركتكم لنا غداءنا و.. وعلى الفور أجاب الغازي : نحن خصصنا يومنا هذا كله لك ، وشوقنا إليك يدفعنا لمجالستك حتى المساء ...
وقع الغياث بين براثن الأسد ، ولم يستطع الخلاص منه ، ورحب بنا مفتعلاً الرضى ، وداخله يلعن اليوم الذي تعرف به علينا ، وجلسنا وجلس ، وتحدثنا وتحدث ، وكان يخرج كل مراراً ويغيب فترة ليست بالقصيرة ، وكل مرة يعود فيها إلينا كنا نتفاءل بالفرج ، لكنه دخل قبل أذان العصر دخلته الأخيرة وقد بدا على وجهه علامات الكدر والحزن ، وبيده طبق من البيض المقلي وبعض قطع الخبز ، وأقسم لنا قائلاً : بصراحة ، ما في البيت طبيخ ، ونزولاً عند رغبتكم قمت بعمل البيض لكم بنفسي
حتى لا تظنون بي البخل ، تفضلوا حياكم الله .