خرج بقوة و اندفاع من الحانة، بل الطريقة التي اندفع بها إلى الخارج تنِمُّ على أن خروجه كان اضطرارياً و ليس قصدياً أو عن طيب خاطر، كيف له أن يكون إرادياً و سقوطه على الأرض بعد ارتطام جسمه مع عمود الإنارة يبين عدم قدرته على الاحتفاظ بالتوازن و لو للحظة قصيرة. حاول أن ينهض، فلم يقدر على النهوض وحده، حاول مراراً ولم يفلح في ذلك، كلما هَمَّ بالنهوض، انتهى إلى الأرض، ضحك و قال:" إنه قانون الجاذبية". حاول الاستعانة بعمود الإنارة، فتراءى له نائياً. ناداه أن اقترب، و لمّا لم يسمع ردّاً، وكيف له أن يسمع ردّاً من عمود، صرخ.. أو توهّم أنه صرخ، لأن لا قدرة له على الكلام أحرى على الصياح. استنجد بكل من مرّ قُرْبَه، لم ينجده أحد؛ لأن من مر قربه في هذه اللحظات لم يكن سوى مجموعة كلاب ضالة. اقتربت منه، شمَّت رائحته، و أسرعت هاربة، وهي تنبح.... بدأ في الزحف نحو العمود، اقترب منه، جاهد حتى وقف وقفة المشلول الذي ضاعت منه عكاكيزه. وعانقه خشية أن يقع مرة ثانية..أدخل يده إلى جيب بدلته، أخرج علبة سجائر انتقى واحدة منها، بحث عن الولاعة، بعد جهد جهيد عثر عليها، أو قل وقعت في يده. عدَّل ربطة العنق و لم ينتبه، و كيف يتسنى له ذلك، إلى أزرار سرواله و قميصه الغير المقفلة. ابتسم ابتسامة ماكرة، تبعتها ضحكة فقهقهة، وقال وهو ينظر إلى أسفل بطنه:" ادخل ماكاين ما يتشاف برّا" قهقه مرة ثانية و مرّ بيده على رأسه، يتحسس قبعته التي عادة ما يضعها لإخفاء الصلع التي بدأ منذ مدة اجتياح رأسه، إلى أن شكّل مساحة يسميها أصدقاؤه، تهكماً "شبه الجزيرة الإيبيرية"؛ ذلك أن أمارات الثعلبة بدأت تغزو رأسه بعد عودته الأخيرة من قضاء عطلته بالديار الإسبانية. صاح بصوت عالٍِ :"قبعتي، سترتي"، و هو يحاول أن يستر المنطقة المنكوبة من رأسه بصفحتي يديه.

حاول الدخول ثانية إلى الحانة، نهره الحارس قائلاً :" سير أ الأستاذ تنعاس".. ألقى الأستاذ نظرة إلى الحارس، وردََّ بصوت ثقيل: "أ شمين أستاذ أ شمين..."1، و فاه بكلمة لم يفهم الحارس معناها إلا بربط الهمهمة بإشارة الأستاذ بقبضة يده إلى أسفل بطنه. همَّ الحارس أن يصفعه لولا اعتراض بعض قدماء تلاميذ الأستاذ الذين وصلوا للتّو. و كانوا بدورهم سكارى، حملوه على أكتافهم و هم يرددون:

قم للمعلم و ابدأ "التكسيلة"2
كاد المعلم أن يكون "اْتبهديلة"3

أحس الأستاذ بالانتشاء و هو يُحْمَلُ فوق الأكتاف ....هو الذي كان دائماً يحلم و يتمنى أن يكون في مرتبة عالية. فها هو قد حقق حلمه.

استمر التلاميذ في ترديد النشيد، إلى أن وصلوا إلى أقرب مزبلة، تركوه إلى جانب كلاب ضالة، و ابتعدوا راجعين و هم يرددون: كاد المعلم أن يكون " اتبهديلة"....و يردد الصدى: " المعلم اتبهديلة...." " اتبهديلة...اتبهـ....."معللللمممم... اتبهديللللللة............."



1- لا أستاذ و لا...

2- التكسيلة : المعركة

3- التبهديلة: المهزلة



البشير الأزمي