بسم الله الرحمن الرحيم

الشيخ عبد الرحمن زين العابدين

العالم الباهر والصانع الماهر
بقلم
أ.د: بكري شيخ أمين
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو اللجنة العالمية للغة العربية




الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى جميع أنبيائه ورسله إلى يوم الدين .


وبعد :
فإنه يسعدنا ويشرفنا أن يكون حديثنا في هذه الأمسية المباركة عن رجل تفتخر حلب أن يكون ثراها ضم جثمانه بعد وفاته ، بعد أن احتضنه شاباً وشيخاً وعجوزاً وعالماً محبوباً من سكان هذه المدينة المباركة الطيبين الطاهرين .
وقبل أي حديث عن هذا الإنسان الفذ ، أو الآية من آيات الله ، نحب أن ننوه لحضراتكم أن جميع المعلومات التي سوف نقدمها في هذه المحاضرة موثقة ، ومدعمة بالأسانيد ، وليس فيها حرف واحد قابل للشك أو الارتياب .
لقد زرنا ـ نحن الدكتور أحمد عاصم المنصور والداعي بكري شيخ أمين معظم من كان له صلة ، أو معرفة ، أو تلمذة ، أو صداقة مع سيدنا الذي سوف نتحدث عنه ، وهو الشيخ عبد الرحمن زين العابدين ، تغمده الله برحمته ، وأسكنه فسيح جنانه .
زرنا قبل كل شيء ولد الشيخ الذي احتفظ بميراث والده وتراثه ومعمله وهو السيد محمد سيف الدين زين العابدين ، وتكرم علينا بكثير من المعلومات ، وسمح لنا أن نلتقط ما نريد من الصور ، ولم يبخل علينا بشيء .
وزرنا عيادة الدكتور طلعت وجيه صلاحية ، فتحدث لنا عن كثير من ذكرياته مع الشيخ عبد الرحمن ، وقدم لنا نسخة مصورة من مراسلته للشيخ مصطفى الزرقاء ، وخطابات الدكتور الزرقاء له وللشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، وكلام الشيخ عبد الفتاح عن الشيخ عبد الرحمن في كتابه ( الإحكام للقرافي ) نقلاً عن الشيخ الزرقاء .
وزرنا الأخ الكريم الحاج أديب بادنجكي ، وحدثنا عن رحلاته مع الشيخ عبد الرحمن إلى الصيد ، والحديث الذي كان يدور بينهما ، وطريقة الصيد في الغابات والبراري .
وزرنا مكتب الدكتور محمد صهيب الشامي ، وحدثنا طويلاً عن علاقته بالشيخ عبد الرحمن ، وكيفية إلقائه دروسه على طلابه ، ومواقفه العظيمة بصفته مدير أوقاف حلب ـ سابقاً ـ التي اتخذها يوم هجر الثانوية الشرعية واعتكف في منزله وساءت أحواله المادية ، كما حدثنا عن مواقفه الكريمة يوم أصيب الشيخ بالأمراض الخطيرة ، ويوم حمل جثمانه إلى المقبرة ، ولم يشأ أن ينزل إلى قبره سواه .
وتكرم علينا العالمان الكريمان الأستاذان عبد الرزاق خليل دملخي ومحمد عدنان كاتبي بالكلمات الرائعة التي سطراها في مقاليهما عن شيخهما وأستاذهما الشيخ عبد الرحمن .
ولا ننسى فضل الأخوين الشيخ علي الولي والشيخ محمد زين العابدين الجذبة وما قدماه لنا من معلومات . فشكراً لهم جميعاً ، ونسال الله العلي الكريم أن يجزيهما عنا بخير الجزاء .



واتفقنا نحن الاثنين بعد توافر المعلومات الغزيرة عن هذا العالم الباهر والصانع الماهر أن نقسم حديثنا عنه قسمين : فالقسم الأدبي الإنساني أتحدث فيه أنا ، وأما الجانب العملي والفني فيقوم به أخي الدكتور الفاضل أحمد عاصم المنصور .



أقول:
لو كان الشيخ عبد الرحمن زين العابدين حياً اليوم ، وعرضت أعماله على لجنة ترشيح لإحدى الجوائز العالمية لفاز بها عن جدارة واستحقاق ، ولسجل اسمه في سجل الخالدين .. لكنه ـ مع كل أسف ـ ليس له مناصر من الحكام والمسؤولين في بلده ، ولا وجد من يتبنى ترشيحه وتقديمه للعالم الكبير .
وبظني لو اطلع مؤتمر الدول الإسلامية قبل عشرين سنة أو يزيد على بعض مصنوعات الشيخ عبد الرحمن زين العابدين وإبداعاته الخارقة لقرر منذ زمن بعيد جعل حلب عاصمة للثقافة والحضارة الإسلامية إكراماً وإجلالاً لهذا العبقري ، وتقديراً لأعماله التي ليس لها نظير ، ولأمور كثيرة أخرى وجليلة تتسم بها حلب ... ولكن قرار المؤتمر تسمية بعض المدن عاصمة للثقافة الإسلامية لم يحدث إلا من عهد قريب .



من هو هذا العبقري المجهول ؟
إنه الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد زين العابدين مفتي أنطاكية ، والمجاهد المعروف ضد حملات التتريك التي تعرض لها لواء إسكندرون .. وينتهي نسبه إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
ولد الشيخ عبد الرحمن في مدينة أنطاكية من لواء إسكندرون ،سنة خمس وعشرين وثلاثمئة وألف للهجرة الموافقة لسنة ألف وتسعمئة وسبع للميلاد .
أبوه الشيخ محمد زين العابدين كان يتقن العربية والتركية والفارسية ، طلب العلم في بلده انطاكية ، ثم درس في الأزهر الشريف ، ونال منه الشهادة العالمية ، وكان من أساتذته الشيخ محمد عبده ، والشيخ جمال الدين الأفغاني ، وكان يحبهما ، ولكنه كان يختلف عنهما في كثير من آرائه ، واتجاهاته السياسية .
وكان مصطفى كمال أتاتورك يحكم البلاد التركية في مطلع القرن العشرين , ويسيطر على مقاليدها, وحين قرر إلغاء الأذان باللغة العربية ، وفرضه باللغة التركية , وألغى الحرف العربي وأحل محله الحرف اللاتيني, وألغى وسم الدولة التركية بالدولة المسلمة ، وجعلها دولة علمانية , وألغى حجاب المرأة المسلمة ، وفرض السفور على كل النساء ، ومنع رجال الدين من ارتداء العمامة البيضاء ، وأحل محلها القبعة الأوربية ، واضطهد العلماء المسلمين ، وقف الشيخ محمد زين العابدين ضد الحاكم التركي, وأعلن رفضه لهذه القوانين , فحكم عليه أتاتورك بالإعدام ، وأرسل إليه من يغتاله ، أو يقيض عليه .
وحين رأى الشيخ محمد أنه غير قادر على متابعة المقاومة والتصدي هرب بدينه وبأسرته إلى حلب مهاجراً في سبيل الله ، تاركاً ما يملك من أموال وعقارات وكروم وبساتين وراءه غير نادم ولا متأسف ، متأسياً بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا قبل فتح مكة .
كانت أسرة الشيخ محمد تتكون من زوجة وستة أبناء ، وهم : عبد الرحمن ، وعبد الله ، ومحمد أبو الخير ، وأحمد ، ومحمود ، ونجم الدين ، وفاطمة . وكلهم من رجال العلم والفضل ، ولا سيما عبد الرحمن وأبو الخير .



وحديثنا اليوم عن الشيخ عبد الرحمن بوجه خاص .
تزوج الشيخ عبد الرحمن ، ورزق خمسة أولاد : بنت واحدة وأربعة أولاد ذكور هم: صلاح الدين, ومحمد سيف الدين, ومحمد جمال الدين, وأصغرهم محمد علاء الدين .
انتسب إلى إحدى المدارس الإبتدائية في مدينة أنطاكية ، ثم لازم والده ، وأخذ عنه جل علومه في الفقه والتفسير والعربية ، وحين جاء إلى حلب مهاجراً عاد إلى دأبه في طلب العلم ، فجاور في المدرسة الأحمدية ، والتقى جل علماء عصره في حلب ،وأخذ عنهم العلوم الشرعية والعربية ، وكان من شيوخه الشيخ محمد راغب الطباخ الذي أخذ عنه علوم الحديث والمصطلح والسيرة النبوية ،وقرأ عليه عدداً من كتب الحديث والسيرة والتاريخ ، كما قرأ في الأحمدية علم المنطق والتوحيد والفلسفة على الشيخ عبد السميع الكردي ، وعلوم اللغة العربية والفقه على الشيخ سعيد العرفي مفتي دير الزور ، كما أخذ عن الشيخ علاء الدين النقشبندي وغيرهم من الشيوخ ، ثم عكف على كتب العلم والتراث ، وراح ينهل منها بنهم المحب العاشق حتى برع في مختلف العلوم والفنون وبخاصة في الفقه الشافعي ، الذي أحب إمامه ، وأعجب به ، فأتقن فروعه وأصوله ومسائله ، فكان لا يسأل عن مسالة فيه حتى ينطلق مفصلاً القول فيها ، مبيناً رأي المتقدمين والمتأخرين ، ثم يورد رأي الإمام في مذهبه القديم والجديد ، ثم يشير إلى مكان المسألة في كتب الشافعية ، ثم في كتاب ( الأم ) للإمام محمد بن إدريس الشافعي ، الذي يرى فيه القدوة ومثال العالم الحق ، والباحث الموضوعي المتميز في مختلف العلوم .
ولعل حبه للإمام الشافعي وإعجابه بدقة منهجه في التحري ، واعتماده على النصوص المأثورة ، جعله يرفض التقليد الأعمى ، والشعوذة ، والخرافات في العلم ، فهو يقول : ( التقليد هو اتباع الغير بلا اطلاع على الدليل .. والبحث عن العلل هو العلم ، وإلا كان عبثاً لا علماً كالدليل بالنسبة إلى الشرع .. أما قولهم : حدثني قلبي عن ربي فهذه لا أحد يقبل بها .. )



أستاذ في الكلية الشرعية
إن الحديث عن الشيخ عبد الرحمن متشعب وذو ألوان وفنون..فهو أستاذ في الكلية الشرعية لمادتي القواعد العربية والمنطق لا يشق له غبار في عهده , حتى إن طلبة العلم الذين يحضرون الشهادات العليا كالماجستير و الدكتوراه كانوا يؤمون داره في حي البياضة ليحل لهم إشكالاتهم , ويشرح ما استعصى عليهم سواء في النحو أو في المنطق والفلسفة.
لقد كان الأستاذ الأول في الكلية الشرعية في المواد التي تخصص بتدريسها, لا يُعلى عليه, ولا يُشق له غبار.
كذلك درّس في معهد العلوم الشرعية ( الشعبانية سابقاً ) العلوم العربية من نحو وصرف واشتقاق وأصول لغة ومسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين ، والعلوم العقلية من منطق وعلم الوضع والمناظرة والجدل وعلم التوحيد ، والعلوم الكونية من فلك وميكانيك وفيزياء المعادن وخواصها إضافة إلى الفقه الشافعي والعقيدة الإسلامية .
وكان رزقه يأتيه من عمله التعليمي ..لذلك كان رقيق الحال, ينفق راتبه على أسرته وشراء المواد الأولية التي كان يستخدمها..ولم تكن له وظيفة أخرى كإمامة المسجد, أو خطبة جمعة.



الجانب الإنساني في حياة الشيخ عبد الرحمن
كان الشيخ عبد الرحمن محباً للحيوانات الأليفة الداجنة , وكان يخصص لها في داره مكاناً مريحاً. وكان عنده كلبة اسمها نادية وهرة و أرانب كثيرة وطيور الحجل و الثمّن وغيرها...تبيت كلها في غرفة واحدة , والغريب أنه دجّنها ورباها على السلام والحب , فانتزع العداوة من نفس كل حيوان تجاه الآخر , فما عادت الكلبة عدوة للهرة..ولا الهرة صيادة للحجل والثّمن ، ولا الأرانب تخاف من الكلب...وهكذا.
لكن الذي استحوذ على دلاله بين هذه الحيوانات كانت الكلبة ناديا ، وكان يحبها كثيراً وقد بادلته ناديا حباً بحب , فصارت ترافقه كظله , تذهب حيث ذهب , وتجلس حيث جلس.
وفي ذات يوم ذهب إلى تعزية بعض أصدقائه , وكانت ناديا معه , ودخل المجلس ، وجلس على كرسي , وأرادت ناديا أن تجلس بجانبه على كرسي آخر , فأشار عليها بالخروج من المجلس , فسمعت وأطاعت , وجلست خارج الغرفة تنظر إليه , أو تنتظر منه إشارة للسماح لها باحتلال كرسي في المجلس , فكان يشير إليها بحاجبيه , فترى وتطيع ..
ومرضت ناديا يوماً فأخذها إلى طبيب بيطري , فقال له الطبيب : إنها تحتاج إلى معالجة يومية عدة أيام .. فكان يأخذها يومياً إلى الطبيب , ولا تركب إلا في سيارة جديدة حمراء , ولا تجلس إلا على الكرسي الخلفي .. وإذا جاء لها بسيارة قديمة أو غير حمراء رفضت الانصياع والركوب .
وكان من عادة ناديا أن تأخذ من يده كل صباح رغيف خبز وضمنه بيضة مسلوقة مقشرة , وتكتفي بها طوال النهار.
وصدف أنها في أحد الأيام أخذت الرغيف ، وخرجت كعادتها ، وبعد فترة من الزمن عادت وأرجعت الرغيف ، ووضعته مكانه , وخرجت وكأنها حزينة .
تعجب الشيخ من فعلها وردها الرغيف , ولم يعرف لذلك سبباً ، وجاءت زوجته وأخذت الرغيف وفتحته فوجدت أن زوجها لم يضع فيه البيضة ، ولذاك فإن ناديا رفضت الرغيف وأعادته.
حينئذ اخذ الشيخ رغيفاً جديداً ، ووضع فيه بيضة واحدة ، ووضعه أمامها ، فلم تقبل عليها ، ولم تأكل شيئاً ، وبدت وكأنها رافضة للرغيف الجديد وإن كان فيه بيضة , إذ شعرت بالمهانة و الإذلال .
رجاها الشيخ أن تأخذ الرغيف , فلم تأخذه ، وظلت على رفضها , فراح يعتذر منها ، ثم بدأ يتوسل ، وهي تنظر إليه , ولم تقبل منه عذراً إلا حين قال لها الحديث النبوي الشريف: إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان .. وهكذا عفت عنه ناديا ، و سامحته ، وأخذت الرغيف.



الجانب العلمي في حياة الشيخ عبد الرحمن
أما الجانب العلمي فهو مضيء ومشرق كالمواد النظرية التي كان يدرسها, بل هو أعظم وأروع.. وهو الذي أشرت إليه في أول كلامي من استحقاقه أكبر الجوائز في العالم.
يقولون في تشبيه الرجل الشاطر اللبيب والذكي : فلان يشق الشعرة, كناية عن براعته وإحكام عمله, وصواب فعله..
ولكن عبد الرحمن زين العابدين جعل القول فعلاً, والتشبيه واقعاً ملموساً, والحلم حقيقة..لقد شق الشعرة شقين بالطول, وهذا شيء أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع , ولولا أن عشرات الناس رأوا بأم أعينهم شقه الشعرة ما صدقنا ما قالوا..
في التاريخ العربي قرأنا أن شارلمان قلب الأسد ملك فرنسا وأحد قادة الحروب الصليبية .. اجتمع يوماً بصلاح الدين الأيوبي , فافتخر شارلمان - من جملة ما افتخر- بأن عنده سيفاً يستطيع به أن يفلق الحديد، وفعلاً جيء له بحديدة ثخينة وغليظة ، فثبتها شارلمان ، وسل سيفه ، وضربها ، فانشطرت شطرين ... فابتسم صلاح الدين ، ولم يقل شيئاً ، وإنما جاء بمنديل حريري ، فرماه في الهواء ، واستل سيفه فقده إلى نصفين..فبهت شارلمان ، وخجل مما افتخر به.
ونقول : إن الشيخ عبد الرحمن قلد صلاح الدين نفسه , إذ ظل يتدرب في سيفه يشحذه حتى وصل إلى درجة استطاع بها قطع خيط الحرير نصفين...وهذا عمل لا يصدقه العقل .



الصياد العجيب
عرف الشيخ عبد الرحمن بأنه صياد ماهر, ولا يضارعه أحد في إصابة هدفه.. ونضرب على ذلك أمثلة لا تعد ولا تحصى.منها:
أن غراباً استوطن رأس مئذنة جامع البهرمية, وكان دائم النعيق , وأزعج كل من جاور المسجد , ولم تفلح الوسائل المختلف بطرده وإبعاده , وعرض الأمر على الشيخ عبد الرحمن , فقال لهم : سأسكته لكم من فمه , فلا يعود بعدها إلى نعيق , ورماه بخردقة واحدة من بندقيته البسيطة , فسقط الغراب أرضاً ، فأخذوه وفحصوه فإذا هم يرون الخردقة اخترقت فمه وقتلته..
وشهر بين الناس أنه يضع إبرة في الجدار, ويضع في الجدار المقابل مرآة, ويحمل بندقيته على كتفه, ويستدير إلى مواجهة المرآة , ويسلط بندقيته على كتفه إلى جهة الإبرة , ويرمي فإذا الخردقة أصابت قلب الإبرة.
وكثيرا ما يطلب من بعض أولاده أن يجعل عجوة المشمش أو شيئاً قريباً منها على رأسه, ويرميها من بعيد , فيصيبها في الصميم.. أو يطلب من ولده إمساك عود كبريت , ويرمي العود من بعيد , فيصيده ويطير من يد الولد .
ولا يرمي طيراً وهو واقف على شجرة, أو على الأرض, وإنما يرميه وهو طائر, فيسقطه أرضاً وبلغ ببراعته الأمر انه يرى الطير في المرآة , ويسلط عليه بندقيته إلى الطائر من خلال المرآة ويطلق عليه فإذا الطير واقع على الأرض مقتولاً.
ومرة كان مع أصدقائه في فلاة ، ومرت بهم قافلة من طيور ، فقال لهم : اختاروا الطير الذي تريدون ، والمكان الذي نصيده به ، فاختاروا طيراً ، وعينوا طرفه الأيمن ، وما هي إلا لحظة حتى وقع الطير أمامهم مصاباً بجانبه الأيمن .



تحداه رجل اسمه قسطنطين بثقب إبرة ، فقبل التحدي وقال له: لن أثقب الإبرة فقط بل سأثقب الآلة التي ثقبت الإبرة ، ونفذ ما قال ..فكاد يجن قسطنطين مما رأى.
الآلة الصغيرة التي اسمها العلمي ( بياكوليس ) وهي صغيرة ، لا يزيد طولها على طول إصبع اليد , يقاس بها سماكة الأشياء , كالزجاج , والورق , وما هو أقل من ذلك , ونحن نستورد هذه الآلة الصغيرة المعقدة و الباهظة الثمن من الدول الصناعية الكبرى كاليابان وألمانيا.
وجاء الشيخ عبد الرحمن فصنع لنفسه بياكوليس من المواد البسيطة عنده, وكانت لا تقل دقة عن الآلة اليابانية أو الألمانية إن لم تكن تفوقها متانة وجمال الصنع .
اشترى تاجر حلبي كمية كبيرة من خردق الصيد من شركة ألمانية , وحين وصل الخردق وجد قسماً كبيراً منه رطباً وغير قابل للاستعمال .
اشتكى التاجر للشركة الألمانية , فأنكرت الشكوى , ووعدت أن ترسل خبراء لمعرفة صدق الشكوى أو كذبها.
وطلب التاجر من الشيخ عبد الرحمن أن يعينه على صدق دعواه , و البرهنة لمندوبي الشركة الألمانية حين يحضرون .
وعده الشيخ خيراً , وقال له : أخبرني يوم يحضرون..وحين حضروا أخبر الشيخ , فجاء وسلم عليهم..وبان على وجوههم السخرية و الاستهزاء من رجل دين يتدخل في مثل هذه القضية الشائكة... وأخذ الشيخ خردقة وأخرج سكيناً كان قد شحذه بيده من جيبه ، وأخذ خردقة فقطعها بسكينه نصفين, ثم جعل كل نصف جزأين , وقشر الخردقة ، وأكد للوفد الألماني أن خردقهم رطب مغشوش كما يقول الرجل .. فبهت الألمان , وأقروا بصدق شكوى الرجل, ونظروا إلى الشيخ وكأنهم يقولون : ما هذا بشراً ، أم هذا من أعاجيب الزمان ؟ . وعوضوا الرجل خردقاً جديداً من نوع جيد لا رطوبة فيه .
الدكتور جبه جيان أرمني له مشفى للعيون باسمه , وعنده إبرة يخيط بها القرنية
والشبكية , استوردها من أرمينية , وكان بعض الأطباء من زملائه في طب العيون كفاضل سيرجية وسمير أنطاكي يستعيرون هذه الإبرة , واستعارها الدكتور فاضل سيرجية ذات يوم , وإذا هي تنكسر بين يديه , ولم يكن هناك إبرة بديل ، ولا هو قادر على جبر كسرها , وحار الدكتور سيرجية في الأمر , فدله البعض على الشيخ عبد الرحمن ، فجاءه وقص عليه الخبر, فوعده الشيخ أن يصلحها له , وضرب له موعداً في الغد موعد لتسلمها.. وعكف الشيخ على صنع إبرة مماثلة , ولحم الإبرة المكسورة... وفي اليوم التالي جاء الدكتور فاضل ليستلم الإبرة فأعطاه إبرتين متماثلتين, ولم يعرف أي الابرتين هي التي صلحت .. فأعطاه الإبرتين, ودله على مكان الإصلاح في أحدها. وعجب الطبيب كل العجب , وأخبر الدكتور جبه جيان بالأمر, وحين ذهب الأخير إلى أرمينية قدم إلى متحف كلية الطب في عاصمتها ( يريفان )الإبرة , ولكنه نسي أن يسجل اسم الشيخ عبد الرحمن زين العابدين.
هذا قليل من كثير, ومجة من لجة , ونبذة موجزة عن بعض أعماله, وعلماء الهندسة, والفلك , والموسيقى , والمواد العلمية أقدر مني على بيان ما كان الشيخ عبد الرحمن يعمله ، ويكتشفه ، ويصنعه .
إن الرجل كان عبقرياً بكل معنى العبقرية , وأعتقد جازماً أنه يستحق من مجلس مدينة حلب أن تسمى شوارع أو مدارس أو ساحات باسمه تخليداً لذكراه ، ومجلس مدينة حلب سمى باسم كاتبة مقال كمي زيادة أو ماري زيادة ، ومطربة كأسمهان وأم كلثوم ، ومترجم مسرحية من اللغة الإنكليزية أو الفرنسية كفرح أنطون ويعقوب صروف ، وشعراء لبنانيين كجبران ونعيمة وإيليا أبو ماضي وخليل مطران شوارع وساحات بأسمائهم ..
ترى !
هل فكر المسؤولون عن مثل هذه التسميات بعبد الرحمن زين العابدين ؟
وأؤكذ أنه لو كان في بلد يحترم العباقرة لملأوا الدنيا بأخباره ، وإنجازاته ، والإشادة به .
وهل سنظل ندفن رؤوسنا في الرمال ، ونتعامى عن بنت الدار ونقول : إنها عوراء ، وبنت الجيران هي الأحلى والأجمل والأحب .
لكن وأسفاه..عاش مغموراً لم يعرفه إلا قلة من الناس ، ومات ولم يترك لأهله سوى الفقر والأسى و الذكر الحسن .
عاش الشيخ عبد الرحمن فقيراً.. ومات فقيراً..كان يعيش من دخله في التدريس في الثانوية الشرعية, والأدوات التي يصنعها لطالبيها ، ولا يساومهم عليها, ويكتفي بما يدفعه أحدهم من تقدير قيمتها .
وقبيل سنوات من وفاته أصيب بإحباط شديد, وران عليه تشاؤم وسوداوية كبيرة, فاعتزل الناس ، وترك التدريس ، وآوى إلى داره ، ولم يعد يخرج منها إلا نادرا , حتى جاءه الدكتور مصطفى الزرقاء ، وحاول إخراجه مما هو فيه , ولاسيما إعادته إلى الثانوية الشرعية, فسمع وأطاع ، وذهب إلى الثانوية الشرعية ، وأبان عن رغبته في العودة , لكن مديرها المحترم قال له : لقد وزعنا دروسك على الأساتذة , ولا يمكن استعادتها منهم , ولك الشكر على هذه الزيارة .
ورأيت على بعض أغلفة كتبه كتب هذه الكلمات ووقع تحتها :
رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين .
يا إله العالمين ! نجني من هذا الكرب العظيم .
قال لي : كيف أنت ؟ قلت : عليل //
سـهر دائم ، وحزن طويل
غير مأســوف على زمـــن //
ينقضـــي بالهم والحزن
ما وهب الله لامــــرئ هبة //
أحسن من عقله ومن أدبه
هما جمـــال الفتى ، فإن فقدا //
فإن فقـد الحياة أجمل به

وعاد الشيخ عبد الرحمن أشد تشاؤماً, وأكثر سوداوية.. وأخبرني الدكتور صهيب الشامي : أنه يوم عين مديراً لأوقاف حلب استصدر من الوزارة قراراً بتعيين الشيخ عبد الرحمن مدرس محافظة ، وظل كذلك إلى يوم وفاته..رحمه الله تعالى.
كان الشيخ عبد الرحمن زين العابدين متواضعاً جداً , وكان الناس يطرون براعته وعبقريته الصناعية , وقدرته على صنع أي أداة ، سواء كانت طبية أو ميكانيكية أو حرفية, ورغم كل إعجابهم و إطرائهم ومديحهم فلم يغره ذلك , ولا امتلأت نفسه كبراً وإعجاباً بذاته .
وقال يوماً لطلابه: ماذا تظنون أن يفعل بنا ابن هشام الأنصاري لو سمع درسنا وشرحنا؟؟
أجابه طالب: كان يرضى عنا, وقال آخر: كان يهنئنا على حسن شرح أستاذنا لشذور الذهب بين أيدينا ، وقال ثالث : يدعو الله لك على ما فعلت وتفعل بكتابه..وهكذا كانوا يتفننون في تخيل ابن هشام.. ولكنه قال: إني سأختبئ تحت كرسي من الكراسي خجلاً وحياءً, ولو رآني فسوف يقول لي: أهكذا تمزق كتابي, أو بلغ الأمر بك أن تشرح كتابي بهذا الأسلوب الركيك و الضعيف؟..فأقول له: سامحني يا سيدي واعف عني, فما أنا إلا طويلب علم ، رمت بي المقادير إلى أن أكون معلماً لهؤلاء الشباب.



كان كل من عرفه يقول عنه :
هذا رجل كريم النفس ، سخي اليد ، مرهف الحس ، غزير الدمعة ، دائم الذكر ، شديد الخشية من الله ، جريء بقول الحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، سديد الرأي ، صاحب فراسة صادقة ، فإذا سئل عن مدع أو ظالم ذكر قول الله تعالى : ( يعرف المجرمون بسيماهم ) . جميل الوجه ، كث اللحية ، منور الشيبة ، قليل الاعتناء بالمظاهر . تلقى قضاء الله بالرضا ، حيث أصيب في أخريات حياته بارتفاع ضغط الدم ، وكان ضغطه يرتفع كلما سمع نبأ عن محنة أمته الإسلامية ، فتنفجر شرايينه بالدم ، ويأخـذ النزف من أنفه ، فينقل إلى المستشفى ، وما إن يعود حتى يعاود السؤال عن المسلمين وأحوالهم وأخبارهم ، رغم نصح الأطباء له بالابتعاد عن الانفعال .



ومرض الشيخ مرضاً شديداً, وأصيب بالشلل..وتراكمت عليه الأمراض و العلل والفقر... ولم يشك لأحد ، ولم يتأفف ، ولم يتبرم .. وكان دائم الحمد لله والشكر له.. إلى أن توفي مساء الثلاثاء لخمس بقين من رجب سنة 1416هـ والموافق للثاني من شهر شباط سنة 1990م ودفن في مقبرة الصالحين بحلب الشهباء.
إن حلب ليشرفها أن يضمّ ثراها ـ من جملة ما ضم ـ جثمان الشيخ عبد الرحمن زين العابدين .
رحمة الله عليه . بكري شيخ أمين
19/7/1427
13/8/2006























ألقيت هذه المحاضرة يوم الاثنين 13/8/2006في المركز الثقافي وبعدها كانت الملاحظات التالية :
1 ـ كان المقدم وهو الدكتور عبد السلام الراغب مطيلاً جداً في التقديم للمحاضرين الدكتور أحمد
منصور وبكري حتى مل الجمهور كأنه هو المحاضر .
2 ـ سأل أحدهم : لماذا لم يعلم الشيخ عبد الرحمن أحد أولاده أو أحداً من الناس هذه العلوم الرائعة التي يعرفها ؟
3 ـ ومن أين تعلم الشيخ عبد الرحمن هذه العلوم ؟ وإذا قلنا : إنه تعلم إصلاح الساعات من ساعته التي فكها وركبها ؟ هل قرأ هذه العلوم في مدرسة ، أو هل قرأها من كتاب ، أو جاءته من علم الغيب ؟
4 ـ لماذا لم يكتب هذه العلوم ليتعلمها الناس بعد وفاته ، إذا كان لا يريد أن يتعلمها أحد في حياته ؟ أو ليس الواجب على رجل الدين أن يكون مؤثراً غيره في حياته وبعد حياته ، ولا يكون تعليم غيره إلا من خلال كتاب ؟+-
5 ـ اسم الكلبة ( ديانا ) وليس ( ماديا )
؟