عندما يكرم القرآن الكريم علماء العلوم الكونية!!


بقلم الأستاذ الدكتور:

نظمي خليل أبو العطا موسى

من يطلع على القرآن الكريم ويدرس الحياة العلمية في الحضارة الإسلامية يرى المكانة العالية لعلماء العلوم الكونية لانشغالهم بالعلوم الكونية النافعة والتي أدَّت دراستها إلى بيان عظمة الله في خلقه فقد خص الله سبحانه وتعالى علماء العلوم الكونية من فلك، ومياه، ونبات، وأرؤض، وحيوان، ونيان، وتصنيف، واجتماع وغيرهم، خصهم الله سبحانه وتعالى بشرف الخشية من الله ومعرفة قدره سبحانه وتعالى والمجازة في خلقه ومقدرته على عباده، قال تعالى:
(ألم تر أن الله أنزلَ منَ السماءِ ماءً فأخرجنا به ثمراتٍ مختلفاً ألوانها ومن الجبال جُدَدٌ بيضٌ وحُمْرٌ مُختلفٌ ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلفٌ ألوانه كذلك إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ إن الله عزيز غفور)
[فاطر: 28 ـ 29].

قال الشيخ عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن:

(والكتاب المنير): أي: المضيء في أخباره الصادقة، وأحكامه العادلة فلم يكن واحده وفيها التفاوت والفرق ما هو مشاهد معروف ليدل العباد، على كمال قدرته، وبديع حكمته فمن ذلك: أن الله تعالى أنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات المختلفات، والنباتات المتنوعات، ما هو شاهد للناظرين، والماء واحد والأرض واحدة ومن ذلك: الجبال التي جعلها الله أوتاداً للأرض، تجدها جبالاً مشتبكة، بل جبلاً واحداً، وفيها ألوان متعددة فيها جدد بيض: أي طرائق بيض، وفيها طرائق ومن ذلك: الناس والدواب والأنعام فيها من اختلاف الألوان والأصناف والأصوات والهيئات ما هو مرئي للأبصار مشهود للنظار، والكل من أصل واحد ومادة واحدة، فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة الله تعالى. اهـ

ونحن نقول: في هذه الأشياء وتفاوتها أدلة علمية لا يعلمها إلا العالمون تدل على قدرة الله وعظمته وحكمته وإبداعه.

قال الشيخ عبد الرحمن: ولهذا قال: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ( فكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية وأوجبت له خشية الله، الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته ) رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ( ) إن الله عزيز ( كامل العزة، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات ) غفور ( لذنوب التائبين. اهـ

وقال الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله في التفسير المنير في قوله تعالى: ) إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ( قال: أي: إنما يخاف الله بالغيب العالمون به، وبما يليق من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، ومنها عظيم قدرته على صنع ما يشاء، وفعل ما يريد، فمن كان أعلم بالله، كان أخشاهم له، ومن لم يخشى الله فليس بعالم، والمراد به العالم بعلوم الطبيعة والحياة وأسرار الكون. اهـ

وقال: وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية، وقال مالك: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب. اهـ

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين من سورة فاطر آياته الكونية من إنزاله الماء من السماء وفق القوانين والنواميس الكونية الموزونة والمبدعة والدقيقة الهالة على قدرة الله وإبداعه وعظمته، فأنبت الله بهذا الماء النبات الذي أعطانا الثمار مختلف الألوان والطعوم والأشكال والتركيب والفوائد التي تحتاج إلى علم ودراسة حتى نصل إلى كنهها وإبداعها ودقتها وعظمتها.

ثم ذكر الله سبحانه وتعالى الجبال بألوانها المختلفة الدالة على اختلاف تركيبها ونشأتها وأهميتها الاقتصادية والبيئية والعلمية والذي لا يصل إليها إلا العلماء العالمون بعلوم الأرض والتحليل الصخري والمعدني والكيميائي.

ثم بيّن الله سبحانه وتعالى اختلاف الأجناس البشرية، والأجناس والأنواع الحيوانية، وباقي الكائنات الحية التي تدب على الأرض، وبيّن سبحانه أنّ من يدرك على ذلك وأهميته وعلم أن الله هو الخالق المبدع وخشي الله في أعماله، وأقواله، وكتاباته، وسلوكه كان من العلماء الذين أكرمهم الله وشَهِدَ لهم بالعلم وشهدوا له بالوحدانية وأفردوه بالعبادة.

ـ وهذه الآية شهادة من الله لعلماء العلوم الكونية من طب وفلك وزراعة ونبات وحيوان وجيولوجيا ومياه وغيرها من العلوم الكونية تثبت أن هؤلاء من أجل العلماء.

وعندما علم المسلمون أهمية العلوم الكونية تعلموا تلك العلوم وأتقنوها ونبغوا فيها وعمروا الديار الإسلامية بالعلوم الكونية والتقت ولأول مرّة في تاريخ البشرية العلوم الشرعية في تكامل مع العلوم الكونية تحت مسمى العلوم النافعة التي قال المصطفى صلى الله عليه وسلم عنها: «وعلم نافع ينتفع به» وبذلك نبغ الخوارزمي في الرياضيات ومهد المسلمون لاكتشاف اللوغاريتمات ووضع علماء المسلمين الصفر الذي غير مجرى الحساب، وعدل ابن الهيثم نظريات الضوء الخاطئة، واكتشف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى وألف مختصراً في علم الحديث والشامل في الطب في ثمانين جزءاً، وألف الدميري عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، وشيد المسلمون المراصد، والفنارات، وجابوا البحار وعندما اصطدمت الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية انهزمت أمامها فوضعوا مخططاتهم لفصل العلم الشرعي عن العلم الكوني، ولعب دنلوب المعتمد البريطاني الدور الرئيس في ذلك وتأصلت تلك الأفكار تخلفنا التقني والاستمرار في السياسة الدنلوبية لفصل العلوم الكونية عن العلوم الشرعية تلك العلوم التي امتزجت في كتاب الله المعجز امتزاجاً لا فكاك فيه حتى اختلطت آيات العقيدة وارتبطت بآيات الكون وبنى الله العقيدة على تلك المشاهد الكونية.

أتمنى أن يأتي اليوم الذي يصبح الواعظ عندنا عالماً بالعلوم الكونية والعالم في العلوم الكونية أستاذاً في العلوم الشرعية يومها فقط تعود الحياة العلمية الخُلقية للحضارة الإسلامية ومن دون ذلك فلا حياة لمن تنادي.

ومن لم يهتم بالتقدم العلمي للمسلمين فهو لاهٍ ساهٍ لا يعلم شيئاً في هذه الحياة.