حضور المرأة في اللحظات الأخيرة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
*****
بعد أن قام الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة الوداع، نزل قول الله عز وجل "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا" فبكى أبو بكر الصديق عند سماعه هذه الآية، فقالوا له: ما يبكيك يا أبا بكر، إنها آية مثل كل آية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم؟
فقال: هذا نعي رسول الله.
وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، وقبل وفاته بتسعة أيام نزلت آخر آية من القرآن: "واتقوا يوما ترجعون فيه إلي الله، ثم توفي كل نفس ما كسبت، وهم لا يظلمون".
وبدأ الوجع يظهر على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (أريد أن أزور شهداء أحد فذهب الي شهداء أحد ووقف علي قبور الشهداء وقال السلام عليكم يا شهداء أحد ، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وإني إن شاء الله بكم لاحق).
وأثناء رجوعه من الزياره بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أصحابه: ما يبكيك يا رسول الله؟
قال: اشتقت إلى إخواني.
قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟
قال: لا، أنتم أصحابي، أما إخواني فقوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني.
وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل وفاته بثلاثة أيام بدأ الوجع يشتد عليه، وكان في بيت أم المؤمنين ميمونة، فقال: اجمعوا زوجاتي، فجمعت الزوجات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتأذنون لي أن أمرض في بيت عائشه ؟ فقلن: أذن لك يا رسول الله، فأراد أن يقوم فما استطاع، فجاء علي بن أبي طالب والفضل بن العباس فحملا النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا به من حجرةأم المؤمنين ميمونة إلى حجرة أم المؤمنين عائشة، فرآه الصحابه على هذه الحال لأول مرة، فبدأ الصحابة في السؤال بهلع: ماذا أحل برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ماذا أحل برسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فتجمع الناس في المسجد، وامتلأ، وتزاحم الناس عليه، فبدأ العرق يتصبب من النبي صلى الله عليه وسلم بغزارة، فقالت أم المؤمنينعائشة: لم أر في حياتي أحد يتصبب عرقا بهذا الشكل، فتقول: كنت آخذ بيد النبي وأمسح بها وجهه ، لأن يد النبي أكرم وأطيب من يدي.
وتقول: فأسمعه يقول: لا اله إلا الله، إن للموت لسكرات. فتقول أم المؤمنين عائشة: فكثر اللغط في المسجد إشفاقا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماهذا؟
قالوا: يارسول الله، يخافون عليك.
فقال: احملوني إليهم.
فأراد أن يقوم صلى الله عليه وسلم فما استطاع، فصبوا عليه سبع قرب من الماء حتى يفيق، فحمل النبي صلى الله عليه وسلم وصعد إلي المنبر.
وفي آخر خطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر كلمات له قال: (أيها الناس، كأنكم تخافون علي؟)
فقالوا: نعم يارسول الله.
فقال: أيها الناس، موعدكم معي ليس الدنيا، موعدكم معي عند الحوض، والله لكأني أنظر إليه من مقامي هذا.
أيها الناس، والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم.
ثم قال: أيها الناس، الله الله في الصلاة، الله الله في الصلاة، وظل يرددها، ثم قال:
(أيها الناس، اتقوا الله في النساء، اتقوا الله في النساء، أوصيكم بالنساء خيرا).
ثم قال: أيها الناس إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله، فلم يفهم أحد قصده من هذه الجمله، وكان يقصد نفسه، سيدنا أبو بكر هو الوحيد الذي فهم هذه الجمله، فانفجر بالبكاء وعلا نحيبه، ووقف وقاطع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: فديناك بآبائنا، فديناك بأمهاتنا، فديناك بأولادنا، فديناك بأزواجنا ، فديناك بأموالنا، وظل يرددها.
فنظر الناس إلى أبي بكر، كيف يقاطع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدافع عن أبي بكر قائلا: أيها الناس، دعوا أبا بكر، فما منكم من أحد كان له عندنا من فضل إلا كافأناه به، إلا أبا بكر لم أستطع مكافأته، فتركت مكافأته إلى الله عز وجل، كل الأبواب إلي المسجد تسد إلا باب أبي بكر لا يسد أبدا. وأخيرا قبل نزوله من المنبر، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعاء للمسلمين قبل الوفاة، فقال: (آواكم الله، حفظكم الله، نصركم الله، ثبتكم الله، أيدكم الله).
وآخر كلمه قالها صلى الله عليه وسلم من على منبره قبل نزوله: (أيها الناس، أقرأوا مني السلام كل من تبعني من أمتي إلي يوم القيامه).
وحمل مرة أخرى إلي بيته، وهو هناك دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك، فظل النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السواك، ولكنه لم يستطع أن يطلبه من شدة مرضه.
ففهمت أم المؤمنين عائشة من نظرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذت السواك من عبد الرحمن ووضعته في فم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يستطع أن يستاك به، فأخذته من يديه وجعلت تلينه بفمها وردته للنبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقالت: كان آخر شيء دخل جوف النبي صلى الله عليه وسلم هو ريقي، فكان من فضل الله علي أن جمع بين ريقي وريق النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت.
تقول أم المؤمنين عائشة: ثم دخلت فاطمة بنت النبي، فلما دخلت بكت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطع القيام، ليقبلها بين عينيها كعادته كلما جاءت إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ادنو مني يا فاطمة) فحدثها النبي صلى الله عليه وسلم في أذنها، فبكت أكثر. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ادنو مني يا فاطمة)، فحدثها مرة ثانية في أذنها، فضحكت (بعد وفاته سئلت: ماذا قال لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجابت: قال لي في المرة الأولى: يا فاطمة، إني ميت الليلة) فبكيت، فلما وجدني أبكي قال: يا فاطمة، أنت أول أهلي لحاقا بي) فضحكت.
تقول أم المؤمنين عائشة: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أخرجوا من عندي. وقال: ( ادنو مني يا عائشة)، فنام النبي صلى الله عليه وسلم على صدرها، ورفع يده إلى السماء وهو يقول: ( بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى).
تقول أم المؤمنين عائشة: فعرفت أنه يخير.
لقد دخل الملك جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يارسول الله، ملك الموت بالباب يستأذن أن يدخل عليك، وما استأذن على أحد من قبلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إأذن له يا جبريل)، فدخل ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله، أرسلني الله أخيرك، بين البقاء في الدنيا وبين أن تلحق به عز وجل.
فقال النبي: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)، ووقف ملك الموت عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أيتها الروح الطيبة، أخرجي إلى رضا من الله ورضوان ورب راض غير غضبان.
تقول أم المؤمنين عائشة: فسقطت يد النبي صلى الله عليه وسلم، وثقلت رأسه في صدري، فعرفت أنه قد قد توفي، فلم أدر ما أفعل، فما كان مني غير أن خرجت من حجرتي وفتحت بابي الذي يطل على الرجال في المسجد، وقلت: مات رسول الله، مات رسول الله.
تقول : فانفجر المسجد بالبكاء، فهذا علي بن أبي طالب أقعد، وهذا عثمان بن عفان كالصبي يؤخذ بيده يمنى ويسرى، وهذا عمر بن الخطاب يرفع سيفه ويقول: من قال إنه قد مات قطعت رأسه، إنما ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى للقاء ربه وسيعود ويقتل من قال أنه قد مات.
أما أثبت الناس فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، إذ دخل على النبي صلى الله عليه وسلم واحتضنه وقال: وآ خليلاه، وآ صفياه، وآ حبيباه، وآ نبياه، فقبل النبي وقال: طبت حيا، وطبت ميتا يا رسول الله، ثم خرج يقول: من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت.
ويسقط السيف من يد عمر بن الخطاب، يقول: فعرفت أنه قد مات، ويقول: فخرجت أجري أبحث عن مكان أجلس فيه وحدي لأبكي وحدي.
وبعدما دفن النبي صلى الله عليه وسلم، قالت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة: أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على وجه النبي؟ ووقفت تنعي أباها صلى الله عليه وسلم وتقول: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه.
نسأل الله تعالى أن نحشر معه وأن نشرب من يديه الكريمة شربة ماء لا نظمأ بعدها أبدا.
*****
د. أبو شامة المغربي