جـ- " شعر العلماء " في ميزان ابن حسين النقدي " :
لقد تأمل ابن حسين نتاج العلماء الشعري ، ولم يرفضه رفضا تقليديا متبعا المقولة الشائعة بأن " شعر العلماء ليست له قيمة فنية " ولكنه .. مهد لتصوره وحكمه بأن هؤلاء العلماء طرقوا الشعر مدفوعين ومدافعين عن الدعوة ضد بعض الملحدين من الشعراء الذين تناولوا الدعوة بالقدح والتعريض بها وأئمتها ، وقد كانوا من العازفين عن الشعر تورعا ، فتجشموا مسلكه الوعر ، ثم حدد الناقد موقفه من الأغراض الشعرية التي استأثرت باهتمام العلماء ، ومن هذه الأغراض : الشعر التعليمي : حيث اقتصر العلماء في نظمهم على بيان أصول الدعوة وفروعها المستمدة من المنبع الصافي الذي فجره للإنسانية خاتم الرسل المصطفى عليه الصلاة والسلام دون ما غلو أو تطرف ، بل منهج وسط بعيد عن التفريط والإفراط ؛ :
ونبلُ المقصد ، وسموُ المعنى وجدّتـُه ..لم يقف حائلا أمام موقف د / ابن حسين الفني ، فليس كل كلام موزون مقفى يعد شعرا ، وإنما الشعر له شرائط ومعالم لابد منها في تكامل جوانب التجربة الشعرية لفظا وصياغة وصورا وأساليب وإيقاعا وعاطفة ومشاعر ورؤية ثاقبة متأملة .
ويرى ابن حسين .. أن مثل هذا النمط من النظم " أي الشعر التعليمي " لا يمكننا القول بأنه شعر إذْ لم تتحقق فيه جوانب التعريف جميعها .
ثم يقول مؤكدا رأيه ومدللا على ما يقول منتصرا لجماليات الكلمة وشاعرية النص ، " صحيح أنه كلام موزون مقفى ، ولكن ليس هذا هو كل التعريف عند علماء العرب ممن يعتد برأيه ، إذ أنهم يعرفون الشعر بقولهم : ( هو الكلام الموزون المقفى المنبعث من عاطفة ، والمثير لعاطفة ممتزجا بالخيال ) .
وبناء على هذا التعريف " يرى ابن حسين " أن ما قاله الكثير من أولئك العلماء ، إنما هو من قبيل النظم .. لا الشعر ، لكونه يفتقر إلى جزء هـام من التعريف هو عبارة " المنبعث من عاطفة والمثير لعاطفة ممتزجا بالخيال " [ ص 27 " الأدب الحديث في نجد " ]
ويرى " ابن حسين " أن العلماء الشعراء في موقفهم من " الغزل " كانوا في مأزق وحرج حيث وضعوا وحوصروا بين عاملين قويين متضادين .. وهما : طبيعة العالم ومتطلبات الدعوة التي لا تحتمل التفرغ ، ولا تترك للداعية الحرية القولية ، والعاطفية ، بدافع الالتزام وعدم الإقدام على فعل أو قول يسبب له الحرج واللوم .
وأما العامل المضاد الآخر فهو طبيعة الشعر والشعراء التي تميل إلى كل ما يهز النفس ، ويطرب القلب ، ويفسح مجال الخيال للتلاعب بشتى صور الجمال .
وهذه المفارقة التي صبغت موقف الشعراء العلماء .. وضاعفت حيرتهم ، وأضعفت نتاجهم الشعري .. "يرى ابن حسين " أنها جعلت الشعراء يبحثون عن مخرج من هذا الموقف وتلك الحيرة ، ووجدوا في المسلك الفني لكعب بن زهير في مطلع قصيدته " بانت سعاد " مخرجا لهم .. فأكثروا من الغزل في افتتاح قصائدهم "وجالوا فيه وصالوا ، حتى بلغ من إكثارهم فيه أن الناظر في شعرهم ، غير المتأمل لأحوالهم ، يخيل إليه أنه غرض مقصود عندهم لذاته " ، وهو في الحقيقة " نسيب قصد به محاكاة الأقدمين " .
وإنني أتفـق مع التخريج الأخير لمسلك العلماء الشعراء في شعر الغزل : وهو تقليد الشعراء الأقدمين في العصر الجاهلي .. والأموي ، والعباسي .. حيث كانوا يبدأون قصائدهم بالغزل أو الوصف .. ، وهذه سمة عامة .. اتبعها " كعب بن زهير " في قصيدته ، ولكن هذه البدايات كانت مرتبطة بالجو النفسي للتجربة الشعرية وليست منفصلة عنها ، أما الغزل في بدايات قصائد العلماء الشعراء .. فكان متكلفا وغير متوائم مع الجوّ النفسي للتجربة .. وإنما هو محاكاة للتقاليد الشعرية المتوارثة التي أبدعها الشعراء الأوائل ، واتسمت تجاربهم بالأصالة والإبداع والابتكار .
وأشار " ابن حسين " إلى قلة شعر الفخر عند " الشعراء العلماء " ولكن لم يعلل هذه الظاهرة ، مثلما علل لندرة الهجاء عندهم حيث رأى بأنهم ربأوا بأنفسهم عن أن تنحط إلى دركه ونزهوا ألسنتهم عن أن تتلوث بأدرانه ؛ وقد نبه إلى ظاهرة فنية في هذا السياق وهي أن " الهجاء إذا قاله العلماء الشعراء نجده يأتي في صورة التعريض والتلميح لا التصريح " .
د - " الاحتفاء بالتيار الرومانسي ، والمبالغة في تقدير شاعرية حمد الحجي "
وهذا الاحتفاء تجلى في تخصيص المحاضرة الثالثة من الكتاب لرصد تجربة شاعر شاب هو " الشاعر حمد الحجي " .. وجاءت دراسته لتجربة الحجي ممتزجة بالموازنة بينه وبين شاعرين من كبار شعراء العربية وهما أبو العلاء المعري قديما ، وأبو القاسم الشابي حديثا " وفي بداية المحاضرة صرح بأنه " لم يَرَ لحمد الحجي " نظيرا في شعراء العربية سوى " طرفة بن العبد " على الرغم من الفوارق البيئية الزمنية منها والاجتماعية بين الشاعرين ؛ وهذه الصورة التضخيمية تجسيد للمبالغة في تقويم شاعرية الحجي .
ثم يقول الناقد مبالغا في الإشادة بشاعرية " الحجي " ومقدما تقويما نقديا شاعريا عاطفيا ، " أما الشابي فلم يبلغ شعره من الفحولة والتجويد هذا المبلغ الذي بلغه شعر شاعرنا هذا "؛ ثم يرى الناقد أن الحجي شاعر فحل يهز دوحة البلاغة ، فتتهادى دررها مشرقة على بساط شاعريته ، ليتنخل من فوائدها أغلى خرائده ولآلئه ، فتجيئ قصائد تذري بنفائس العقود ، وتهزأ باللؤلؤ المنضود ، ... تشع من أعطافها أنوار الأصالة ، وتفوح من أردانها طيوب الفصاحة فتأسر الألباب ، وتنعش الكتاب ، وتؤنـس الأغراب ، في عالم الفكر المبهم الدروب .. أما إنسان العصر الحديث ، عصر الاختراع والابتكار ، عصر الذرة وغزو الفضاء ، واكتناه مجاهل الوجود " ص 125 الأدب الحديث في نجد "
والشاعر / عبد الله بن إدريس .. كان في تقويمه لشاعرية " حمد الحجي " أقرب إلى واقعه النفسي والفني حين قال " شاعر أصيل يمتاز بالجزالة والرواء ، والتناسق في البناء العضوي للقصيدة ، إلا أن شيئا جوهريا في العمل الفني ينقص شاعرنا هذا .. وهو التركيز ، فلو توفرت لديه أداة التركيز في العمل الفكري والتصويري غير المشوش لما شُقَّ له غبار في الميدان التأملي .(5)
وفي سياق التأصيل للتيار الرومانسي .. يُقوَّم " ابن حسين " تجربة الشاعر خليـل مطران ، ويضعه وحده ممثلا للتيار الرومانسي في بيئتنا العربية ، وقد أثر تأثيرا فنيا في المدارس الأدبية التي ذاع صيتها وهي : مدرسة أبولو ، ومدرســة الديـوان ، ومدرسـة المهجر ، وتحت عنوان " مدرسة خليل مطران " يقول " لقد فتح " خليل مطران " باب التجديد ، بدعوته التي أطلقها عام 1328هـ ، والتي تتلخص في الدعوة إلى التجديد في مضمون القصيدة ، ووحدة البناء ، ونبذ شعر المناسبات ، وتحرّر الشاعر من التبعية للقصر ، والاهتمام بشعر الذات "
وتأثير مطران في شعراء الاتجاهين " الديوان ، وأبولو " واضح .. ولكن تأثيره في الأدب المهجري ليست له دلائل واضحة ، ولا معالم ناطقة إلا الاتفاق في النهج العاطفي .. والتأثر بالتيار الرومانسي في الغرب .
ويتفق د / ابن حسن مع د / طه حسين في رؤيته الفنية لشعر خليل مطران ودوره في التجديد حيث يقول طه حسين : " وثار " مطران " على القديم منذ مطلع هذا القرن الميلادي ، وآمن بوحدة القصيدة ، وآثر العناية بالمعنى على الاحتفال باللفظ البراق ، ونظم القصة الشعرية الرمزية والتاريخية والمتخيلة في وقت كان هم رصفائه فيه التهالك على المديح المصطنع ، وتقليد القدامى فيما أتقنوه من الحفاوة باللفظ " .
ويؤكد " أبو شادي " رائد مدرسة أبولو تأثره بالمعالم الفنية التي أرسى دعائمها " خليل مطـران " والتي أشار إلى بعض ملامحها د / محمد بن حسين ، و د / طه حسين : يقول " أبو شادي " " جاء مطران بمذهب الحرية الفنية الصحيحة التي تحترم شخصية الشاعر ، واستقلال الفن عن الصناعة والبهارج والأناقة الزخرفية ، وكل ما يفرض العبودية على الفن من ألفاظ وقيود اتباعية ، لا يحتملها الجمال المطبوع وأصالة الفن ، ودعم وحدة القصيدة ، وشخصية الشاعر ، وفتح له باب الحياة على مصراعيه ، كما أفسح له آفاق الخيال ، وأبرز له كل شيء في هذا الوجود .. صغيراً كان أم كبيراً – [ كموضوع ] شعري خليق بعنايته وأهل للتناول الفني "
وخليـل مطـران يؤكد هذه المعالم في مقدمة ديوانه الشعري .. ديوان " الخليل " فيقول : " هذا شعر عصري ، وفخره أنه عصري ، وله على سابق الشعر مزية زمانه على سالف الدهر .
وشعر هذه الطريقة هو شعر المستقبل ، لأنه شعر الحياة والحقيقة والخيال جميعا . (6)
و د / محمد بن حسين يتوافق مع الآراء السابقة في سياق رصده لأثر التيار الرومانسي في شعراء نجد .. وخاصة تجربة الشاعر حمد الحجي ، وتجربة الشاعر الأمير عبد الله الفيصل في ديوان " وحي الحرمان " ؛ ولكنه يُخرج من دائرة " التيار الرومانسي " بعض الشعراء الذين لم تتشكل خصائص الرومانسية في نتاجهم الشعري كله ، ومنهم " محمد سليمان الشبل ، وعبد الله القرعاوي ، ومحمد الفهد العيسى ... وكثير غيرهم " .
ويقول مخالفاً الناقد الأستاذ / عبد الله عبد الجبار الرأي حيث أدرج هؤلاء الشعراء في إطار التيار الرومانسي في كتابه .. التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية ، "غير أن سريان هذا التيار أو ذاك في شعر أحدهم لا يعني التزام هذا المذهب أو ذاك ، ولا يجوز الحكم على شاعر بمذهب من خلال قصيدة أو قصيدتين كما فعل بعضهم [ مثل .. عبد الله عبد الجبار ] في الحكم على هؤلاء الشعراء الثلاثة بقصائدهم التالية " ؛ وأثبت د / ابن حسين .. ثلاثة مقاطع من قصائد هؤلاء الشعراء .