النتائج 1 إلى 12 من 211

الموضوع: أدب السيرة الذاتية بين الشعر والنثر

مشاهدة المواضيع

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #10 خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الثاني) 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    (الجزء الثاني)
    لقد تحولت التجارب الفردية في الماضي مع كتاب السيرة الذاتية العرب المسلمين إلى ملك جماعي مشاع بين جمهور القراء، تستسقى منه الدروس والعبر، وكثيرا ما كان يلجأ العارض لسيرته الذاتية إلى بيان قصده وغرضه من كتابة تاريخه الخاص، وكشف رغبته في إشراك القراء، ودعوتهم إلى التأمل والتدبر الواسع.
    ثم إن الذات المسلمة كانت قديما تدرك بعمق فائدة العملية التاريخية، ومقدار النفع الذي يجنى من رصد ومتابعة أهم الوقائع والأحداث في مسيرة الحياة الإنسانية، سواء على المستوى الفردي أم الجماعي، ومن ثم كانت كتابة السيرة الذاتية لدى قدماء العرب المسلمين لا تقل أهمية عن مسيرتهم العلمية، لأنها أداة يترجمون ويوثقون بها مجريات طلب العلم بدءا من طفولتهم إلى
    شيخوختهم، هذا بغض النظر عن الآثار المكتوبة التي يخلفونها في
    مختلف فروع العلم، والأدب، والتاريخ.
    إن من يمتلك هذه الرؤية البعيدة المدى والشاملة، التي تشمل الماضي، والحاضر، والمستقبل، لا شك انه سينظر إلى كتابة سيرته الذاتية من نفس الزاوية، وتبعا لذات البواعث، المتمثلة في ما يلي:
    أولا: إفادة طالب العلم .
    ثانيا: الرياضة الفكرية .
    ثالثا: الاستعانة بحصيلة الإنتاج العلمي في طور الشيخوخة.

    ثم إن الكتاب العرب المسلمين أولوا عناية خاصة في الماضي بمسألة النسب، فبعدما كانوا في البداية يقتصرون على ذكر آبائهم، إذ دأبوا على هذا التقليد في التمهيد لسيرهم الذاتية حتى حدود القرن الخامس الهجري، نجدهم يهتمون أكثر بأنسابهم، ابتداء من القرن السادس الهجري، مجتهدين في أن يصلوها بأبعد أجدادهم، فمن النماذج التي نعثر عليها في القرن السادس الهجـري، المندرجة في هذا الباب، الفصل الذي كتبه علي بن زيد البيـهقي، المتوفى سنة 565 من الهجرة، متحدثا عن نفسه، والذي أودعه في كتابه: "مشارب التجارب"، وقد حفظه ياقوت الحموي في "معجـم الأدباء"، وما ذكره عبد الرحمان بن الجوزي في مؤلفه: "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" .
    ولا شك أن أصول هذا التقليد تعود إلى أحد مظاهر الحياة العربية التي سادت ما قبل الإسلام، حيث كان العرب ينظرون إلى أنسابهم، وأمجادهم نظرة اعتزاز وفخر، ويتخذونها رمزا لشهرتهم ومكانتهم؛ بل ومادة محورية لشعرهم وأحاديثهم في الفخر والحماسة، حتى إنهم يبالغون في نظرتهم إليها، وقد أدرك الإسلام العرب، وهم أشد الناس حرصا على حفظ أنسابهم.
    ثم لقد تنوعت اختيارات كـتاب السيرة الذاتية في إخراج آثارهم الأدبية، فمنهم من أودع تاريخه الخاص في كتاب، ومنهم من أفرد سيرته الذاتية في رسالة أدبية، أو فلسفية، أو علمية مستقلة.
    ثم من بين الخصائص التي تسم التقليد القديم في كتابة السير الذاتية، نذكر مسألة العنوان، التي على ما يظهر شغلت حيزا ملحوظا من اهتمام القدماء، الذين كانوا ينتقون عناوين تواريخهم الخاصة بدقة وعناية بالغة، وهي غالبا ما تجسد الباعث القريب أو البعيد على تأليف السير الذاتية، وتعين المدار الرئيس لهذا الضرب من التأليف، والأمثلة كثيرة في هذا الباب.
    وحـتى نتبين مدى التطابق الحاصل بينها وبين المضامين التي تدل عليها، يكفي أن نستعرض ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ العناوين التالية: "الاعتبار"، و"المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال" و"لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" و"التعريف بابن خلدون و رحلته غربا و شرقا"، و"بذل المجهود في إفحام اليهود"، و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد".
    إن السير الذاتية الإسلامية التراثية تختزل كثيرا من التجارب الإنسانية الأولى في العالم العربي الإسلامي، وهي تجارب تعكس أساسا المعاناة الفردية في المجتمع، فالشكوى من عداوة الأهل والحاسدين، والابتلاء بالسجن، ثم مجاهدة النفس اتقاء الانحراف والانغماس في مغريات الحياة الزائلة، جميع هذه المحاور وغيرها هي مدارات معاناة مشتركة بين كثير من أصحاب السير الذاتية التي حفظها لنا تراث الأدب العربي الإسلامي.
    وفي أجواء السيرة الذاتية الإسلامية القديمة، نعثر على فضاء من المعاناة الفردية المركبة من الفقر والاغتراب في المجتمع، تفصح الذات المسلمة من خلاله عن محنتها، وتقلبات أحوالها بين ضيق ذات اليد وكدر العيش من جهة، والتجاهل من طرف أهل زمانها والمعاصرين لها من جهة ثانية، فهي ذات لم يتم تقديرها حق قدرها، ولم تلق من غيرها سوى الحسد والازدراء، والشماتة والإهمال.
    ويمكن اعتبار مجموع التجارب الفردية ، التي نصادفها في أي سيرة ذاتية إسلامية قديمة، موضوعات تشكل جانبا من فضاء الذاكرة الإسلامية، فردية كانت أم جماعية، التي يحفظها تاريخ الأدب الإسلامي، في حين أن الذات الكاتبة المسلمة تترك الكلمة الأخيرة في حق مختلف التجارب موقوفة على درجة فهم المتلقي القارئ، ومستوى إدراكه واستيعابه للخطاب الموجه، الذي غالبا ما يكون ذا طابع تعليمي، مع العلم بأن فتور أو قوة العناية بخطاب السيرة الذاتية عموما رهينة بمدى الاهتمام بالشخصية الإنسانية.
    إن الذات التي نحن بصدد اقتفاء آثارها و تجلياتها، استطاعت أن تحول ردود أفعالها إلى قوة نفسية، مكنتها من امتصاص كل الأفعال المضادة، فالإيمان الشديد بالله، فالقناعة، والأمل، والرجاء، والصبر، والعفاف، وطلب العلم ومعالي الأمور، جميعها قيم وعناصر ساعدت الأديب، والفقيه، والمفكر، والعالم على تجاوز محنهم ساعة الشدة والبلاء، وعلى الرغم من اشتداد وقع الاغتراب على الذات المسلمة، فإنها تخوض في وسطها الاجتماعي صراعا بالمعرفة والحكمة ضد الجهل والعبث.
    وأمام قوة تأثير العوامل المعاكسة ، كان من الطبيعي أن تتصدى الذات المسلمة لكل عارض برد فعل أشد قوة، لكن النفوس الحساسة في مثل هذه الأحوال توكل أمرها إلى الله عز و جل، وتنزع إلى الارتداد نحو عالمها الداخلي، وتحتمي بالعزلة والانقطاع إلى الله تعالى عن الاجتماع بالآخرين، وهي تعلم أن ليس من سبيل إلا التزود بقوة الإيمان والصبر، وإلا ازدادت معاناتها بقدر حدة الأزمات النفسية.
    إن القطيعة التي كانت غالبا ما تنشأ بين أفكار الإنسان المسلم وانشغالاته وتطلعاته، وبين الميول والأهواء السائدة، ظلت تزيد الهوة اتساعا بين الذات المسلمة ومعاصريها، نظرا لانعدام التجاوب المتبادل، وتباين السلوك والوجهة والأهداف، وعلى الرغم من قساوة الظلم الاجتماعي، وحدة العزلة والاغتراب، فإن قوة النفس المؤمنة حالت دون تكسير الرؤية المستقبلية للإنسان المسلم، بقدر ما حالت دون تقليص مداها، وحصر مدها في حدود ضيقة.
    إننا نصادف الذات المسلمة في كثير من التجارب الروحية، وهي تشغل بؤرة الصراع الداخلي، وقلب المجاهدة النفسية، ومركز العقدة والحل، بحيث بإمكاننا ملاحقة تدرجها من الشك والأسئلة المقلقة إلى اليقين والأجوبة المطمئنة، ثم بالانتهاء إلى الزهد المعتدل والرؤية المستقرة، وذلك عن طريق النظر بالعقل وتحكيمه في ضوء العقيدة الإسلامية.
    ففي الوقت الذي يروج فيه الحديث في الغرب عن كون الرواية والسيرة الذاتية ليستا سوى وسيلتين يهدف الكتاب الغربيون من ورائهما إلى الخلاص من أسر الزمن، والنزوع إلى تأليه الإنسان من خلال تمكينه من القدرة على الخلق، نجد كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يسعون إلى هذه الغاية، لأن الإسلام لا يدعو إلى تأليه الإنسان، أو إلى الدخول في صراع مع الزمن.
    ولنا المثال الحي والدال، في عدد من التجارب الذاتية المحفوظة في جملة من الأعمال التراثية العربية الإسلامية، على ذلك الصراع الداخلي، وتلك الصورة الواضحة الأبعاد الرؤية المستقرة، التي تجمع بين الدين والدنيا، وتشغل الإنسان في أي زمان وأي مكان، ونحن نستطيع أن نحدد الأبعاد التي تشكل الرؤية أو الهاجس الملازم للكائن العاقل في ثلاثة هي:
    أولا: البعد الداخلي، أو العالم الباطن الذي يعكف عليه الإنسان ليكشف حقيقته.
    ثانيا: البعد الخارجي، أو العالم الظاهر الذي تتبادل معه الذات الإنسانية
    التأثير والتأثر.
    ثالثا: البعد الغيبي، أو عالم الغيب الذي ينشد إليه الإنسان، وتحاول الذات الفردية أن تعي علاقتها به، وتحدد موقفها منه.
    إن المعاناة الفردية تبدأ عندما تحاول الذات الإنسانية أن تتجرد من جميع المعطيات، والمفاهيم المترسبة في غياب وعي ذاتي، واقتناع مؤسس، فتلجأ إلى هدم الأفكار الجاهزة، والرؤى المكتسبة تقليدا وإتباعا، ثم تبني أفكارا، ورؤى، واقتناعات جديدة على أساس من اليقين والاجتهاد العقلي.
    لقد كانت مسألة التقليد العقدي، وكثرة التأويلات، والبدع، والفرق المذهبية السائدة قديما علامة استفهام كبرى، ومبعث ارتياب وقلق يؤرق الذات المسلمة، ويحفزها في آن واحد، بهداية من الله عز وجل، على طلب الحق، والعلم بأصول الحياة الإسلامية، وبالتالي تأسيس رؤية واعية وواضحة، تشمل الإنسان، وعالمي: الغيب والشهادة، والعقيدة الصحيحة.
    ثم إن خاصية البحث عن الحقيقة وإيثار الحق، كانت قاسما مشتركا بين أمثال ابن الهيثم وأبي حامد الغزالي، وعاملا مشجعا لهم على أن يتخذوا أنفسهم قدوة للآخرين، ولم يكن الواحد منهم يدعي أن له يدا في كل الذي بلغه من العلم، وناله من رفعة شان وسمو مكانة؛ بل إنهم كانوا يعودون بهذا الكسب والحظ الثمين إلى الله عز وجل موجده وخالقه.
    لكن في الوقت نفسه لم يكن أي واحد من المسلمين القدماء ينفي اجتهاده المتواضع بأفعال التقوى وأسباب التوكل في طلب العلم، واكتساب الحكمة والمعرفة، بقصد المجاهدة النفسية، والدعوة إلى الله تعالى.
    إن الذات المسلمة تعي جيدا أنها توجه خطابها إلى من هم دونها تجربة من العامة والمبتدئين في طلب العلم، وهي تفعل ذلك انطلاقا من تجاربها الفردية، ورصيد خبرتها، وخلاصة تمرسها، وعصارة حنكتها، وهي أيضا توجه خطابها ليس من موقع الاستعلاء، أو رغبة في المن والرياء؛ بل إنها تسخره في الدعوة إلى الله، وتريد به الإصلاح ، بحكم أن العمل من أجل هذه الغاية هو واجب ومن تعاليم الإسلام ومرتكزاته، ويكفي أن نذكر هنا بكون النصيحة جامعة للدين كله.
    ثم إن مختلف الخصائص الشكلية والمضمونية التي حاولنا كشفها واستعراضها، تعد إلى جانب بواعث الكتابة سمة مشتركة بين جميع السير الذاتية الإسلامية التراثية، ومن ثم فإنها تمثل في الغالب أهم الثوابت التي بإمكانها أن تساعد على اختزال أي قراءة محتملة أو مرتقبة في خطابها.
    وعند ختم هذا المقال، سنترقب بشوق كبير من كافة المهتمين بأدب السيرة الذاتية إسهاماتهم في نقاش ونقد ما بسطناه من أفكار وتأملات متواضعة حول هذا الجنس الأدبي المميز، فهل سيأتينا بالنقد والتمحيص من لم نزود؟

    د. أبو شامة المغربي
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 21/09/2006 الساعة 12:24 PM
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. ما هي السيرة الذاتية لـ ( أ.د محمود حسني مغالسة)
    بواسطة رائد المعاضيدي في المنتدى سؤال
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02/08/2010, 07:45 PM
  2. لمحات في أدب السيرة الذاتية
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25/03/2008, 05:28 PM
  3. خطاب السيرة الذاتية فى نوار عين الصقر
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 28/02/2008, 05:10 AM
  4. السيرة الذاتية بين الشعر والنثر
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 45
    آخر مشاركة: 12/04/2006, 11:14 AM
  5. وظائف أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16/03/2006, 10:25 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •