ميثاق قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
(الجزء الأول)
إن معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يكتفون بتوظيف العناوين الدالة على جنس خطابهم الأدبي، وحقيقة الباعث لهم على الكتابة؛ بل إنهم يدرجون في مؤلفاتهم فقرة أو فقرات معدودة وجيزة جدا، يعبرون من خلالها عن نيتهم في إنجاز وعرض مشروع تاريخهم الفردي، ويفصحون في ذات الوقت عن العامل أو العوامل، التي حفزتهم على إنجاز هذا المشروع الأدبي.
ثم هي مقاطع نصية أو تصديرات يتوجهون بها ـ عادة ـ إلى القراء في مستهل حديثهم عن أنفسهم، أو قد يلجأون إلى بناء عقد القراءة عن طريق الاستعانة بأفعال خطابية يكمل بعضها بعضا، وهي مواثيق يصطلح نقاد أدب السيرة الذاتية على تسميتها بمواثيق القراءة، أو المواثيق التلفظية، أو عقود التلقي، لكن هل الميثاق التلفظي هو بالفعل رابط الاتصال بين الذات الكاتبة والمتلقي، وهو ما يميز أدب السيرة الذاتية عن باقي الأجناس الأدبية؟
وإذا كان ميثاق القراءة الخاص بالسيرة الذاتية الإسلامية الحديثة فعلا خطابيا متنوع الأشكال، فإنه دال في قلب الخطاب الأدبي على أمرين:
أولهما: هوية النص (سيرة ذاتية).
ثانيهما: باعث الكتابة (مقصد الكاتب).
إن كاتب السيرة الذاتية يدرك جيدا مدى الخلط والمأزق الذي قد يسقط فيه المتلقي، حينما يتعذر عليه ضبط هوية الخطاب الأدبي ضمن منظومة الأجناس الأدبية، وتفاديا لحدوث هذه المسألة، يعمد صاحب السيرة الذاتية إلى إبرام ميثاق أو عقد خاص بهدف أن يثبت للخطاب هويته، ويوفر على القارئ جهد البحث عن جنس الإنتاج الأدبي الذي يتلقاه.
ومن ثم فإن شرط الإفصاح عن ميثاق تلقي السيرة الذاتية هو الفاصل بين جنس السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية، ويعتمد الكاتب لهذه الغاية أشكالا من المواثيق والعقود التي يبرمها مع المتلقي، أبرزها العنوان، والتقديم، والإهداء، وضمير الخطاب، وغيرها من الأفعال الخطابية، أو المكونات النصية التي تؤدي وظيفة التواصل المباشر مع القارئ.
والظاهر أن خطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية مرآة عاكسة لنوايا، ومقاصد، وأهداف مسبقة، إذ الملاحظ في ذات الخطاب الأدبي أن الكاتب المسلم لا يميل إلى الإخلال بشرط الإفصاح عن عقد القراءة، طلبا للوضوح، ورغبة منه في أن يكون له السبق في التعبير عن ذاته، ومن العبث أن نتصور سيرة ذاتية لكاتب مجهول.
كما أنه من العبث أن يتم تلقيها من طرف قارئ غير معروف، ولا شك أن غياب ميثاق القراءة من خطاب السيرة الذاتية، سيؤدي بالذات القارئة إلى اتخاذه مرآة لها، فتسقط عليه ما شاءت من التجارب والمواقف لا تصل المؤلف في شيء، ومن ثم يظل الميثاق التلفظي هو المكون الخطابي الذي يضفي في المقام الأول على السيرة الذاتية الطابع المميز لها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى.
إن الميثاق الخاص بقراءة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة أداة خطابية، يحيل الكاتب بواسطتها المتلقي على هوية النص وجنس الخطاب الأدبي من ناحية، وعلى فضائه وعناصره الإبداعية الفنية من ناحية ثانية، وهو عنصر يكشف به تطابقه مع الذات الساردة، والشخصية الرئيسة، وذلك حتى لا ينعث عمله الأدبي بكونه سيرة ذاتية تخييلية، أو سيرة ذاتية روائية، أو سيرة ذاتية ذاتاسم مستعار، أو رواية تخييلية.
أما الميثاق المرجعي، فأداة خطابية ثانية، يحيل صاحب السيرة الذاتية عن طريقها القارئ على خارج النص الأدبي، أي على الإطار الواقعي الخاص به، بحكم انتماء تدوين التاريخ الفردي إلى ما يعرف بالأعمال الأدبية المرجعية، التي تدعو القارئ إلى النظر في مرجعيتها خارج النص المكتوب، إما بشكل صريح أو ضمني، وهي مرجعية متمثلة في واقع يمكن للمتلقي أن يتأكد من وجوده.
فإذا كان ميثاق تلقي السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث يمثل العلاقة التي يقيمها الكاتب بين تاريخه الفردي المكتوب و متلقيه، والركن الأساس ـ بالإضافة إلى باقي الخصائص الداخلية في متن السيرة الذاتية ـ في تعريف هذا الجنس الأدبي ، فإن السؤال يبقى مطروحا حول ما إذا كان ذلك العقد أو الميثاق السير الذاتي
(Le pacte autobiographique) كافيا للدلالة على جنس السيرة الذاتية؟ أم أن هذا الميثاق قاصر وغير مؤهل لذلك، وأن على المتلقي أن يبحث عن مدى الانسجام الداخلي في أي سيرة ذاتية؟
أ ـ العــنــوان
نقصد بالعنوان في سياق موضوع بحثنا كل ما يسمى به المؤلف سيرته الذاتية المكتوبة من لفظ أو عبارة، وهو الذي يمثل بامتياز نسبي ـ دون غيره من أشكال الميثاق ـ بوابة حقيقية، تمكن القارئ من العبور إلى خطاب السيرة الذاتية، ولا شك أن تنوع المضامين والمكونات الكبرى لهذا الخطاب هو الذي يتحكم في صياغة عناوين أدب التاريخ الخاص، وغالبا ما يتم اختيار تراكيبها بدقة وأناة.
ثم إنها عناوين ترشح تصريحا، أو تلميحا، أو ضمنا بالحس الزماني من ناحية ـ سواء منه الحقيقي أم الوجودي ـ كما يفشي بعضها حدة المعاناة، وقلق البحث الطويل عن الحقيقة، ويكشف بعض آخر منها عن قوة العلاقة القائمة بين الشعور الذاتي بالمكان والرؤية الفردية إلى الحياة والعالم.
ولا شك أن عنوان أي سيرة ذاتية إسلامية ـ كباقي العناوين ـ هو بنية مستقلة له دلالة خاصة، مثله في هذه الخاصية مثل العمل الأدبي، ثم إنه دال على هذا العمل بطبيعة الحال، بالإضافة إلى كونه يختزل وظائف أخرى غير الدلالة، نذكر منها: التعريف، والإشارة، والبداية، والقصد، والسمة، والأثر، والعلامة، وهو موسوم بالإيجاز والإقتضاب، إذ غالبا ما يكون كلمة أو عبارة ولا يتجاوز الجملة.
ثم إن العنوان ضرورة نصية و عتبة خطابية كثيرا ما تثير فضول القارئ، وتغريه بتلقي العمل الأدبي، خاصة وأنه يحقق لديه جملة من التصورات والأفكار، ويكون سببا في إنتاج آثار جمالية في ذهنه؛ إنه ليس زائدة لغوية؛ بل هو أداة تواصلية تصل ما بين القارئ والكاتب، الذي يؤسس من خلاله سياقا دلاليا، يهيء القارئ عبره لتلقي العمل الأدبي.
ومن المؤكد أن للعنوان طبيعة إحالية ومرجعية، فضلا عن انطوائه على إيحاءات أو رموز معينة، قد تسمه بطابع الخصوصية والانفراد من جهة، وبطابع الاشتراك والجماعية من ناحية ثانية، فهو خاص في علاقته بين من يكتب سيرته الذاتية، وبالماضي الذي يشكل حياته الشخصية المنقضية، وهو مشترك في علاقته بما يعنيه بالنسبة إلى الآخرين (الجماعة الإنسانية)، باعتبار ما يدل عليه من مضامين وأفكار متعارف عليها بين الجميع.
ثم إن العنوان غالبا ما يشتمل على أبعاد تناصية، فهو دال إشاري، ومن جملة ما يصطلح عليه بالعتبات النصية أو النصوص الموازية، إنه يجلي معنى النص الأدبي، إذ يختزل المكتوب ويحيل على خارج الخطاب في ذات الوقت، فهو أداة لتكثيف المعنى، ونواة يلتحم بها نسيج الخطاب، ومن ثم فإن للعنوان وظائف جد هامة في تشكيل أدب السيرة الذاتية على سبيل المثال.
ولا شك أن مجرد إلقاء نظرة أولية على عناوين السير الذاتية الإسلامية الحديثة، التي تجسد مدارات جد دالة، تمكننا من استعراض عدد من الموضوعات، التي تختزل شحنات دلالية كلية ومكثفة، لها من القوة والهيمنة حظ وافر ـ في صميم الخطاب ـ على دلالات جزئية، تتوزع على امتداد الفضاء الداخلي للسير الذاتية ذات السمة الإسلامية.
وبالرغم من عثورنا على تلك الجزئيات الدلالية مغلقة في معظم الأحيان، إلا أنها تتجاوز في الأصل حدودها اللفظية لتتحول إلى بؤرة خطابية عميقة، ومحاور تقاطع دلالي جد حساسة، ومولدة في آن واحد لتواصل وتداخل خطابي، وبالتالي فإن كل العناوين المفردة أو المركبة، هي عبارة عن قواعد وأرضيات لتنامي مجموعة من العلاقات، التي تنشأ في عمق خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
إن "الحياة"، و"الشك"، و"الإيمان"، و"السجن"، و"المنفى"، و"الحرية"، و"الذات"، و"الزمن "، و"الذكرى"، و"الإسلام " وغيرها من الموضوعات، تشغل أهم فضاءات أدب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، مما يضفي على مختلف العناوين المختزلة لها قيمة خطابية، خاصة إذا نظرنا إليها في داخل السياق وخارجه؛ فهي مقاطع نصية بسيطة ومركبة، دالة على جنس الخطاب الأدبي، ومفاتيح لفظية ذات وظيفة تأويلية.
وقد يتخذ من العناوين ما يشتمل على شحنة دلالية عميقة، ترمز إلى تجربة معينة، عاش أطوارها من يكتب بعضا من سيرته الذاتية، ونذكر في هذا السياق ـ على سبيل المثال ـ لفظة (العريس) التي انتقاها صلاح الوديع لتكون عنوانا لعمله الأدبي، والملاحظ على صعيد آخر، هو أن عناوين ومتون السير الذاتية الإسلامية الحديثة، تنتظم في نسيج دلالي واحد ففي الوقت الذي يضع فيه من يكتب سيرته العنوان لغرض الإيجاز والاختزال، يتولى السرد في المتن إلى جانب الوصف والحوار الوظيفة التفصيلية.
ومن خلال العناوين الكبرى نستشعر تلك الإشارة المميزة إلى جدلية الصراع بين الحق والباطل، وبين الضلال والهدى، وبين الخير والشر، وهي من أقدم المواجهات المحفوظة في التاريخ البشري، كما أنها إشارة من جهة ثانية إلى ما تعرفه الذات الكاتبة من تحول نوعي، وانتقال من الاضطراب إلى الاطمئنان والاستقرار، ومن الاختلال إلى التوازن، ثم إنها إشارة إلى تطور الوعي العقدي الفردي، من خلال تجاوز الشك إلى اليقين، والخلاص من الكفر والإلحاد لمعانقة الإيمان والدخول في الإسلام.
ثم بإمكاننا أن نميز كذلك بين ثلاثة محاور بارزة ومستخلصة من جملة عناوين السير الذاتية الإسلامية الحديثة، وكل محور تدل عليه وتوحي به مجموعة من العناوين، وأما المحاور الثلاثة فهي:
أولا: تمثل الذات واستكشافها عبر مختلف أطوار الحياة الفردية.
ثانيا: التأريخ للذات في المنفى وداخل السجن.
ثالثا: العودة إلى الإسلام و الدخول فيه.
وعندما يثبت مؤلف السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على غلاف كتابه ميثاقا لفظيا معينا، سواء كان عنوانا، مثل: "حياتي"، و"قصة حياتي"، و" قصتي مع الحياة "، و"حياتي في نصف قرن"، و"لمحات من حياتي "، و"أيام من حياتي "، أم عبارة فرعية ملحقة بالعنوان، مثل: "سيرة ذاتية "، فإنه يقصد من خلال هذه الصيغ اللفظية التعبيرية المتنوعة وغيرها إلى عقد ميثاق تواصلي ـ قد يزكيه بميثاق مرجعي ـ مع من سيقرأ سيرته.
إن العنوان الذي تحمله أي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، هو بمثابة العتبة الأولى التي ينفذ من خلالها القارئ إلى فضاء الخطاب، ثم إنه باعث في حد ذاته للمتلقي على تبادر جملة من الأسئلة إلى ذهنه، ومفتاح لإنشاء أفق انتظار معين، يوجه الذات القارئة أثناء رحلتها داخل فضاء السيرة الذاتية، وهي الذات التي تجهل كل شيء عنه، وتسعى إلى اكتشافه.
أما إذا ألحق صاحب السيرة الذاتية صيغة نصية من نوع آخر بالعنوان الأصلي لمؤلفه، مثل: "رواية ـ سـيرة ذاتية"، أو "سيرة ذاتية روائية"، فإن المتلقي سيتعامل من العمل الأدبي على أنه خطاب مزدوج، بمعنى أنه سيتلقى إنتاج الكاتب باعتباره "سيرة ذاتية" من جهة، و"رواية" من جهة ثانية، مما يحتم على عملية التلقي أن تكون بدورها مزدوجة أو مركبة، يستند القارئ في إنجازها على مرجعيتين:
الأولى: مرجعية خاصة بجنس السيرة الذاتية.
الثانية: مرجعية خاصة بجنس الرواية.
وما دام من يكتب سيرته يلجأ إلى الربط بين الكتابة عن الذات والكتابة الروائية، فكذلك القارئ سيبني تلقيه على هذا الأساس، إذ سيجد نفسه مضطرا إلى قراءة السيرة الذاتية من زاويتين: الذاتية والموضوعية، لكن هذا لا يعفي صاحب السيرة من الإفصاح عن هوية وجنس ما يكتب، وذلك بقصد إزالة اللبس والغموض، وإعفاء القارئ من الدخول في متاهة يتعذر عليه التعرف فيها على جنس الخطاب، وميثاق القراءة ركن أساس في حال تبني الأسلوب الروائي من قبل الكاتب لصياغة سيرته الذاتية.
إن شرط " الحوارية " الذي يجسد فعل التواصل بين المؤلف والمتلقي، يتطلب ممن يرغب في كتابة سيرته الذاتية أن يفصح عن القصد من خطابه بأي أسلوب شاء، وذلك حتى يتم الإقرار بنمط الحوارية وجنس الخطاب، الذي لا يمكن أن ينسلخ عن شروط إنتاجه، أو بالأحرى عن سياقه، المتمثل في ميثاق ثقافي يجمع بين الكاتب والمتلقي.
ولا شك أن الميثاق الثقافي هو الذي سيسمح للذاتين: الكاتبة و القارئة بالتفاهم والتجاوب، وكذا بالاختلاف وتحقيق الحوار الإبداعي، وهذه أسباب ذاتية و موضوعية تخول لهما معا ذاكرة مشتركة ونامية، هذا إذا علمنا بأن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي على نداءات محددة، على القارئ تلبيتها والتفاعل معها.
ثم هناك أمر آخر، وهو أن القارئ قد ينخدع بمجرد قراءة عـناوين معـينة ـ مثل: "مذكرات"، أو "ذكريات"، أو "اعترافات" ـ فيحسب أنها مطابقة لمتون الأعمال الأدبية المعروضة عليه، في حين أنها عناوين لم توضع بالدقة الكافية، على مستوى الحمولة الاصطلاحية، وذلك حتى تفضي بالمتلقي إلى ما تعنيه وتدل عليه؛ بل إنها في الغالب لا تكفي للوقوف على الهوية الحقيقية للأعمال الأدبية، وبالتالي فهي ليست بالمعيار المناسب الذي سيمكن القارئ من التمييز بين ما هو "سيرة ذاتية"، وما هو "مذكرات"، أو "اعترافات" شخصية.
د. أبو شامة المغربي