د. دينا شحاتة
رئيس وحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية



أعقب الهجوم الذي شنته حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023 على عدد من المواقع الإسرائيلية، سقوط عدد غير مسبوق من القتلى والمصابين على الجانب الإسرائيلي، وصل وفقاً لآخر التقديرات إلى 1400 قتيل منهم 308 جندي و4600 مصاب، تلاه قصف إسرائيلي ممنهج على قطاع غزة، أدى بدوره إلى استشهاد 4137 مواطن وإصابة أكثر من خمسة عشر ألف آخرين حتى مساء يوم 20 أكتوبر، معظمهم من المدنيين، بالإضافة إلى نزوح أكثر من مليون مواطن داخل القطاع، وانقطاع كل سبل الحياة في ظل رفض سلطات الاحتلال دخول المساعدات الإنسانية منذ بدء الأزمة، حتى دخول أول مجموعة من الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية والطبية المصرية في صباح يوم السبت الموافق 21 أكتوبر.

هذه الأزمة الضخمة والمعقدة مثلت اختباراً كبيراً للإعلام الغربي. وعلى العكس من الحرص على تقديم صورة موضوعية تعكس مختلف السرديات ومختلف أبعاد الأزمة، خاصة في ظل ما تمتلكه وسائل الإعلام الغربية من قدرات تكنولوجية متقدمة وقدرة كبيرة على الوصول إلى أطراف الأزمة، فقد اتسمت معالجات الإعلام الغربي للأزمة بدرجة كبيرة من الانحياز للجانب الإسرائيلي.

ورغم أن هذا الانحياز الإعلامي الغربي، خاصة الأمريكي، ليس جديداً، بل هو سمة معتادة ومستقرة، لكن في زمن السماوات المفتوحة، ومع تزايد دور وسائل التواصل الاجتماعي، فقد تزايد إدراك ووضوح هذا الانحياز بشكل غير مسبوق، حيث أصبح من السهل تداول نماذج ومقاطع الفيديو التي تكشف هذا الانحياز على وسائل التواصل الاجتماعي بين الملايين من العرب، مما خلق حالة من الغضب في أوساط الشعوب العربية تجاه الولايات المتحدة والدول الغربية.

من ناحية أخرى، فإن هذا الانحياز الكامل للموقف الإسرائيلي، والتماهي الكامل مع السردية الإسرائيلية، لا يعبر بدقة عن التمايزات المهمة داخل الرأي العام الغربي؛ فرغم أن القيادات السياسية ووسائل الإعلام التقليدية تطرح سردية منحازة بالكامل للموقف الإسرائيلي، إلا أن الرأي العام الغربي يشهد انقسامات مهمة حول القضية الفلسطينية، حيث أصبح قطاع مهم يضم الشباب والمهاجرين والحركات الاجتماعية التقدمية ينحاز بشكل متزايد للموقف الفلسطيني، مما يخلق تناقضات مهمة داخل المجتمعات الغربية من المهم استغلالها للدفع بسياسات أكثر توازناً وأكثر توافقاً مع المصالح العربية والفلسطينية.

سمات الخطاب الإعلامي الغربي تجاه الأزمة الراهنة
من الملاحظ أن تناول الإعلام الغربي للأحداث الأخيرة يقوم على عدد من السرديات أو الثيمات Themes التي تروج لها إسرائيل، ويتم تناولها بشكل متكرر في الإعلام الغربي، في محاولة لتشكيل خطاب ذي سمات محددة حول الصراع الحالي في الأراضي المحتلة. ونرصد هنا تسع "ثيمات" تضمنها الخطاب الإعلامي الغربي منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى تاريخ كتابة هذا التحليل:

1- هجوم 7 أكتوبر إرهابي: حرصت وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية على وصف هجوم حماس على عدة مواقع إسرائيلية بأنه "هجوم إرهابي" من قبل "مليشيا" أو "جماعة مسلحة" ضد مدنيين عُزل. كذلك كان هناك حرص على عدم الإشارة إلى مسألة الاحتلال الإسرائيلي أو الحق في المقاومة الشرعية للاحتلال، بل انصب مجمل تركيز الإعلام الغربي على تصوير هجوم حماس على أنه "هجوم إرهابي" ضد أطراف مدنية.

2- هجوم حماس غير مبرر: ردد الإعلام الغربي، خاصة الأمريكي، سردية أن حماس هي التي بدأت بـ"العدوان" وأن هجوم حماس هجوم غير مبرر، دون أي إشارة إلى مسئولية السياسات الإسرائيلية عما وصلت إليه الأمور وصولاً إلى هذا الهجوم، وأنها بالتالي (أي إسرائيل) لها كامل الحق في الرد على هذا الهجوم كيفما تشاء. كما أكد الإعلام الغربي على أنه من غير الأخلاقي الربط بين هذا "الهجوم الإرهابي" وبين الواقع الذي عاشه ويعيشه الشعب الفلسطيني منذ عام 1948 استناداً إلى قيام حماس بالهجوم على أهداف مدنية.

3- هجوم 11 سبتمبر جديد: شبهت وسائل الإعلام الغربية هجوم 7 أكتوبر 2023 بأحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية ولقبته بـ"هجوم 11 سبتمبر الإسرائيلي"، مع التأكيد على التشابه بين الحدثين من حيث قيام "جماعة إرهابية" باستهداف مواطنين عزل، ونجاحها في قتل عدد كبير منهم تدفعهم أيديولوجية دينية متطرفة. ويهدف هذا التشبيه إلى خلق حالة من التعاطف والتماهي بين المواطن الأمريكي والمواطن الإسرائيلي، وخلق انطباع بأن الطرفين يواجهان نفس العدو ونفس المخاطر؛ حيث يصبح الاستنتاج المنطقي -وفق هذه السردية الغربية- وجوب التضامن مع إسرائيل.

4- معركة واحدة في إسرائيل وأوكرانيا: يقوم الإعلام الغربي بالربط بين الحرب الراهنة في الأراضي المحتلة وبين الحرب في أوكرانيا؛ حيث يتم تصوير العدوان الإسرائيلي على غزة على أنه جزء من الصراع بين "قوى الخير" المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الديمقراطية، و"قوى الشر" المتمثلة في روسيا والصين وإيران وحزب الله وحماس، ولذلك يصبح -حسب هذه السردية الغربية- دعم إسرائيل وأوكرانيا في حروبهم الراهنة جزءاً من معركة الغرب ضد القوى المعادية والممانعة له حول العالم.

5- حرب بين حماس وإسرائيل: هناك حرص على تصوير الأحداث الراهنة على أنها حرب بين حماس وإسرائيل وليست حرباً بين إسرائيل والشعب الفلسطيني المحتل، بل هناك حرص على تصوير هذا الصراع على أنه صراع بين "دولة ديمقراطية" ذات سيادة من ناحية، و"جماعة إرهابية" من ناحية أخرى، مثلها مثل حرب الولايات المتحدة الأمريكية على تنظيم "القاعدة". أما القضية الفلسطينية أو مسألة الاحتلال الإسرائيلي فهناك محاولات لوضعها بمعزل عن الأحداث الحالية.

6- حماس جماعة إسلامية متطرفة: قام الإعلام الغربي بتصوير حركة حماس على أنها امتداد لجماعات إسلامية متطرفة مثل "القاعدة" و"داعش"، تدفعها أيديولوجية دينية متشددة معادية للغرب وللسامية، وتتبنى رؤية دينية راديكالية تتجاوز الواقع الفلسطيني وخصوصيته، وذلك في محاولة للفصل بين حماس من ناحية وبين أهداف مقاومة الاستعمار والتحرر الوطني من ناحية أخرى.

7- حماس لا تمثل الفلسطينيين أو القضية الفلسطينية: هناك حرص على التأكيد على أن حماس "جماعة إرهابية" لا تمثل المواطن الفلسطيني، وأنها قامت باختطاف غزة وبفرض إرادتها على سكان القطاع، وأن الهجوم الذي قامت به لا يمثل جزءاً من المقاومة الشرعية للاحتلال. وهناك حرص أيضاً على إبراز الخلافات بين حماس والسلطة الفلسطينية، والتمييز بين سكان الضفة وسكان غزة، في محاولة لخلق انطباع بأن حماس لا تعبر عن تطلعات الشعب الفلسطيني وليست ممثلاً شرعياً له.

8- غزة ليست محتلة وحماس كان لديها خيارات أخرى: هناك سردية يتم التأكيد عليها في الإعلام الغربي بأن إسرائيل قامت بالانسحاب من غزة عام 2005، وبالتالي فإن قطاع غزة لم يعد محتلاً من جانب إسرائيل؛ لذا فإن هدف مقاومة الاحتلال- وفقاً لذلك- لا ينطبق على حالة غزة. كما يتم التأكيد على أن حماس قد حصلت على منح ومعونات من دول عربية وغربية وكان بإمكانها أن تستخدم هذه المعونات في تطوير قطاع غزة وتحويله إلى منطقة سياحية أو صناعية مثل سنغافورة، ولكن حماس اختارت أن تستخدم الموارد التي اتيحت لها لشراء وتطوير الأسلحة بهدف الهجوم على إسرائيل.

9- مصر عرقلت فتح معبر رفح: صور الإعلام الغربي مصر كطرف معرقل لعملية إغاثة سكان غزة من خلال رفضها فتح معبر رفح لاستقبال اللاجئين والنازحين. وتناولت العديد من التغطيات الإعلامية مسألة دخول اللاجئين والنازحين من غزة إلى مصر كحل منطقي للأزمة الحالية. واستنكرت هذه التغطيات رفض مصر قبول هذا الخيار وفتح المعبر، وذلك في محاولة لنقل المسئولية عن المأساة الإنسانية التي يمر بها سكان القطاع من الطرف الإسرائيلي إلى الطرف المصري.

وهكذا، فإن التغطيات الإعلامية الغربية حملت العديد من المغالطات، خاصة فيما يتعلق بالموقف المصري؛ فقد تجاهلت هذه التغطيات حقيقة أن معبر رفح ظل مفتوحاً منذ اليوم الأول للأزمة دون إغلاق، وأن جيش الاحتلال الإسرائيلي هو الذي قام بضرب المدخل من ناحية غزة أربع مرات. وتجاهلت هذه التغطيات أيضاً المخاوف المصرية المشروعة من تصفية القضية الفلسطينية في حالة القبول بالتهجير القسري للفلسطينيين من غزة، والذي يمكن أن يمثل سابقة يمكن تكرارها في حالة سكان الضفة الغربية من خلال فرض تهجير قسري إلى داخل الأردن بعد افتعال أزمة جديدة بالضفة. كذلك، تجاهلت هذه التغطيات التعقيدات الأمنية التي يمكن أن يسببها هذا التهجير القسري بالنسبة للعلاقات المصرية- الإسرائيلية، وبالنسبة لمعاهدة السلام الموقعة بين الجانبين.

توجهات وتحولات الرأي العام... صورة أكثر تعقيداً
رغم أن القيادات السياسية ووسائل الإعلام الغربية أظهرت انحيازاً شبه كامل للطرف الإسرائيلي خلال الأحداث الأخيرة، وقامت بتبرير كل الانتهاكات التي قامت بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزة وسكانه، وقامت بتصوير هجوم حماس على أنه "هجوم إرهابي" تدفعه أيديولوجية متطرفة، وامتنعت عن إدانة إسرائيل، كما امتنعت عن مطالبتها بالالتزام بالمواثيق والأعراف الدولية، وعزفت عن المطالبة بوقف إطلاق النار، إلا أن توجهات الرأي العام الغربي تتسم بدرجة أكبر من التعقيد.

فمع أن هجوم السابع من أكتوبر أدى إلى حدوث موجة تعاطف كبيرة مع إسرائيل، خاصة في ضوء استهداف المدنيين واحتجاز عدد كبير من الرهائن، لكن بمرور الوقت، ومع قيام إسرائيل بالتدمير الممنهج للبنية التحتية بالقطاع، والتوسع في استخدام العنف المفرط ضد المدنيين الفلسطينيين، وفرض نزوح داخل القطاع، بدأ الرأي العام الغربي يشهد قدراً ملحوظاً من التمايز الداخلي.

وقد رصدت العديد من استطلاعات الرأي التي أُجريت خلال السنوات الأخيرة تحولات مهمة في الرأي العام الغربي، بما في ذلك الرأي العام الأمريكي، تجاه القضية الفلسطينية، خاصة منذ أحداث الشيخ جراح في القدس عام ٢٠٢١، حيث تزايدت نسبة التعاطف مع القضية الفلسطينية، خاصة في أوساط الشباب والمهاجرين والقوى الليبرالية والتقدمية. ورصدت استطلاعات الرأي تلك بشكل واضح الفجوة المتزايدة بين مواقف الأجيال الأكبر والأجيال الأصغر تجاه القضية الفلسطينية. وعلى سبيل المثال، أظهر استطلاع للرأي أجري في مارس 2023 من قبل منظمة "جالوب" أنه للمرة الأولى يعبر المنتمون للحزب الديمقراطي عن نسبة تعاطف أكبر مع الفلسطينيين (49%) مقارنة بالإسرائيليين (38%).



لكن استطلاعات الرأي التي أُجريت منذ هجوم حماس أظهرت أن الأمريكيين في الغالب مؤيدون لإجراءات إسرائيل، حيث قال 70%، وفقاً لاستطلاع أجرته CNN في 15 أكتوبر 2023، أن الاستجابات العسكرية الإسرائيلية كانت مبررة بالكامل أو جزئياً، ولكن مع الأخذ في الاعتبار أن 81% من الذين تجاوزوا سن الـ65 رأوا الاستجابة مبررة بالكامل، مقارنة بـ 27% فقط من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34. كما وجد استطلاع للرأي قامت به The Economist/YouGov أُجري في 14-17 أكتوبر 2023 أن 48% من الأشخاص قالوا إن تعاطفهم أكبر مع الإسرائيليين (62% من الأشخاص الذين تجاوزوا سن الـ65 مقارنة بـ35% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً).

ولكن من المتوقع أن يكون هذا التزايد في التعاطف مع إسرائيل مؤقتاً في ضوء الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية التي تلت هجوم حماس.

وقد أثرت عدة عوامل على توجهات الرأي العام الغربي خاصة في أوساط الأجيال الاصغر سناً تجاه القضية الفلسطينية، أهمها الدور المتزايد لمنصات التواصل الاجتماعي، حيث يقوم معظم الشباب بالحصول على معلوماتهم من خلال هذه المنصات، خاصة "تيك توك"، إذ تسمح لهم هذه المنصات بالوصول إلى المعلومات بشكل مباشر من خلال متابعة النشطاء الفلسطينيين على الأرض. وكان للنشطاء الفلسطينيين من الشباب، مثل محمد الكرد، دور مهم في تعريف الشباب الغربي بالقضية الفلسطينية وتكوين رأي عام مؤيد للموقف الفلسطيني.

من ناحية أخرى، كان لتزايد تأثير الحركات الاجتماعية الممثلة للمهاجرين والأقليات وللجماعات العرقية المهمشة، وتصاعد دور القوى التقدمية في المجال السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية، دور مهم في تكوين رأي عام أكثر تعاطفاً مع الموقف الفلسطيني.

لكن رغم هذه التمايزات والتحولات المهمة في توجهات الرأي العام الغربي والأمريكي تجاه القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، فإن هذه التحولات لم تنعكس على توجهات القيادات السياسية ووسائل الإعلام التقليدية في هذه الدول. ومع تصاعد الصراع والعنف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومع استمرار إسرائيل في سياسات استهداف المدنيين والاستيطان ومحاولات فرض التهجير، يمكن أن تتزايد الفجوة بين مواقف القيادات السياسية والإعلامية الغربية من ناحية، وقطاع مهم من الرأي العام الغربي من ناحية أخرى، الأمر الذي قد يضع القضية الفلسطينية في صدارة الجدل السياسي داخل المجتمعات الغربية، ويفتح فرصاً للضغط على قادة ووسائل إعلام هذه الدول لاتخاذ مواقف أكثر توازناً تجاه القضية الفلسطينية.