تحليل سيميائي لقصيدة أنشودة المطر
سعد صوفان
لبدر شاكر السياب
تعدُّ هذه القصيدة منعطفا تاريخياً في الشعر العربي، وهي قصيدة طويلة تتطرق وتعالج أكثر من موضوع واحد، كما أنها قصيدة انبعاث الشعر العربي الحديث المستلهم من النموذج الغربي إضافة إلى أنّها بحث عن إيقاع محدد، ومحاولة منه لاستعمال جديد للتفعيلة الخليلية، وتحليل سيميائي لقصيدة أنشودة المطر فيما يأتي
تحليل العنوان
ونرى بأنَّ العنوان قد جاء مركباً اسمياً إضافياً، حيث أنَّه جاء مكونا من: "أنشودة" وهي مضاف، و"المطر" وهي مضاف إليه، ويشير السياب في هذا العنوان إلى أنه بهطول المطر نقف أمام أنشودة من نوع مميز يرجع نسبتها إلى المطر

نجد بأنَّ كلمة "أنشودة" تشير إلى الحياة والفرح والسعادة؛ فتعتبر أغلب الأناشيد بأنَّها رمز للفرح والسعادة، أما كلمة "المطر" فتعتبر رمزاً للطبيعة، وتشير أيضاً للعطاء والخير، وقد نستوحي من خلال العنوان أن القصيدة قد تجمع بين العطاء والفرح

التحليل المضموني للقصيدة
سنعتمد في تقسيمنا للقصيدة على اللازمة وهي "مطر.. مطر.. مطر"، التي تستوجب إيقاع محدد لأنها متكررة، وهي في هذه القصيدة تسعة أقسام فيما يأتي:

القسم الأول: من البيت 1 إلى البيت 21
فـ "عيناك" هي:" غابتا نخيل ساعة السحر، والموت والميلاد والظلام والضياء، كالبحر سرح اليدين فوقه المساء، شرفتان راح ينأى عنهما القمر، حين تبسمان تورق الكروم، دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف، ترقص الأضواء كالأقمار في نهر، يرجه المجذاف وهنا ساعة السحر، كأنما تنبض في غوريهما النجوم، تغرقان في ضباب من أسى شفيف)
فهنا تتحرك العناصر الطبيعية المتعددة؛ وهي حركة أكبر عمقاً من التغييرات الخارجية، حيث إنَّها تحولات داخلية، فـ"عيناك" هي الفصول في تياراتها، وهي الحياة والموت وجميع عناصر الطبيعة، وينتقل الضمير إلى المتكلم لأول مرة، وذلك في البيت 11 "فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء"، وعبر عنه الشاعر بالإضافة إلى الروح بنزعة غرائزية عنيفة وهي نشوة شديدة، ليختتم هذا الجزء بكلمة مطر.. مطر.. والتي تشير إلى الغناء.

ثم تبرز احتفالية الطبيعة عبر الإيقاع الداخلي والخارجي من خلال تكرار الكلمات والصوامت، فنجد في تكرار الصوامت ما يأتي

حرف السين: سحر، المساء، سماء، سرح، تستفيق.
حرف الشين: نشوة، شتاء، وحشية، تشرب.

أما فيما يخص تكرار الكلمات فنجد تكراراً:
"نشوة، عيناك، قطرة، ساعة، مطر" أمَّا تكرار الكلمة الواحدة -أي تكرار في الأصوات- مثل: حرف الكاف في: كركر، وحرف الغين في: دغدغت
القسم الثاني: من البيت 22 إلى البيت 36 يتميز القسم الثاني بأنَّه يجمع بين ثنائية الألم والأمل، فنجد بأنَّه يبتدأ بالتعبير عن الألم عبر تشبيه الأمطار الغزيرة ليلاً بطفل يهذي بأمه التي ينتظر قدومها، فهو يأمل قدومها بالرغم من أنها تنام نوم عميقاً، وعبر عن الألم أيضا بصورة الصياد الحزين الذي يسبُّ المياه والقدر، ومع ذلك يوجد أمل حيث يرمي وينثر الغناء. بالنسبة للإيقاع هنا نجد تكرار الصوامت الآتية

حرف السين: تسح، المساء، تهامس، السؤال، تسف.
وحرف التاء: تثائب، تهامس، تنام، تسح، التل.
وتكرار الكلمات: تسح، تعود، تنام، مطر.
القسم الثالث: من البيت 37 إلى البيت 64
تبتدئ هذه الفقرة بمسائلة الشاعر لمخاطبته أسئلة استنكارية، فيتساءل عن الحزن الذي يبعثه المطر، وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر، ليجيب عن هذه الأسئلة عن طريق تشبيهات متضادة "الموت والميلاد، الموتى والأطفال، الحب والدم المراق"، ثم يعود بعدها لمخاطبة "عيناك"، ولكن عن قرب "مقلتاك"، وكأنه يطوف بواسطتهم

ويذكر "الخليج" كأول مرة ليشير به إلى العطاء، كما يذكر لأول مرة أيضاً "العراق"، والتي تداعب سواحلها المحار والنجوم، والذي فيه أيضاً رمز للعطاء، ثم يرجع لضمير المتكلم فينسب لنفسه الصياح، فيصيح "يا خليج" وكأنه ثائر، ويقدم صوراً متناقضة للخليج، فهو معطي اللؤلؤ والمحار، إضافة إلى الردى الذي يعني الموت

ثم يرجع صدى صياحه وكأنه لا مجيب له، ليبقى في ضمير المتكلم من خلال لفظة "أسمع"، وكأنه يستعد ويستبشر لثورة شاملة للعراق بأكمله، فهو كما سمع بأنَّ للعراق خبيئة من البروق والرعود، فقد سمع أيضاً عن أنين القرى وشرب النخيل للمطر، والمهاجرين الذين يقاومون عواصف الخليج منشدين "مطر"، فهنا "مطر" ترمز للأمل وللثورة
أمَّا فيما يخص الإيقاع في هذا الجزء؛ فنجد تكرار الصوامت مثل ما يأتي

حرف السين: تمسح، سواحل، سحب، أسمع.
وحرف الشين: ينشج، الشباك، يشعر، منشدين.
وحرف الجيم: الرجال، الجبال، النجوم، الخليج،
يرجع. تكرار الكلمات: المحار، الردى، الخليج، العراق، مطر.

القسم الرابع: من البيت 65 إلى البيت 72
يبتدئ بـ "وفي العراق جوع" يرجع السياب للعراق التي انتشر فيها جوع بالرغم من موسم الحصاد، الذي لا يستفيد منه إلا الجراد والغربان، دلالةً منه على الأشخاص المشؤومين الذين لا يذرون شيئاً لغيرهم، أما البشر؛ فهم مجتمعون حول الرحى ينتظرون حصَّتهم من طحن الشوان والحجر، وهنا كلمة "مطر" التي تكررت ترمز للألم، ونرى في هذا القسم تكرار الصوامت مثل حرف الشين في: تشبع، الشوان، البشر
القسم الخامس: من البيت 73 إلى البيت 76
ينتقل هنا الشاعر إلى التحدث بصفة الجمع فيصف الحزن عن طريق الدموع والخوف. وتكرار كلمة مطر تدل على شدة الحزن. وكذلك كلمة "كم" جاءت هنا للاستكثار
القسم السادس: من البيت 77 إلى البيت 84
قام الشاعر في هذا الجزء بإرجاع امتداد المأساة إلى مرحلة الطفولة؛ فكل سنة كان هناك جوع بالرغم من توفر الخيرات، واتّسم هذا الجزء بتكرار الكلمات الآتية: جوع، عام، مطر، وقد رمز هنا تكرار كلمة "مطر" على الابتهال والدعاء من أجل رفع مشقة الجوع. القسم
السابع: من البيت 85 إلى البيت 94
وفي هذا الجزء يشير السياب إلى أنَّ كل قطرة مطر ودمعة للجياع هي أمل في انتظار ميلاد عصر جديد، كما استعمل الألوان كدلالات، فاللون الأحمر يجلُّ على الدماء، والأصفر يدلُّ على الأمل بغد أجمل، ومن تم نجد تكرار حرف الراء في "حمراء، صفراء، عراة، الزهر، مطر"، وكلمة "كلّ" التي ترمز إلى تعميم المأساة.
القسم الثامن: من البيت 95 إلى البيت
113 ويبدأ هذا القسم من القصيدة بأمل مضمون في الغد بالنسبة للشاعر في موطنه العراق، ليعاود الصياح فيقول: "أصيح بالخليج: يا خليج"، والذي يعدُّه صاحب الفزعات الكثيرة بنوعيها الخيّر والسيّء، والذي يقوم بقذف عظام المهاجرين إلى جانب المحار، كما يعُدُّ رحيق أزهار العراق التي ترتوي من الفرات شراباً للأفاعي، وفي هذا القسم نرى بأنّ هنالك تكراراً للصوامت والكلمات كالآتي: تكرار الصوامت في حرف الجيم: النشيج، أجاج، يرجع، خليج. تكرار الكلمات: الردى، الصدى، المحار، المطر، الخليج
. القسم التاسع: من البيت 114 إلى البيت 121
يكرر فقرة الأمل في الغد الفتي الذي تحتويه قطرات، لينتهي بعبارة "ويهطل المطر" المعطوفة على القصيدة بأكملها، وكأنه يرمز إلى أن النهاية خير لا محالة.

الرموز
وبينما يقوم السياب بوصف القصيدة؛ قام بالتعبير عن العديد من الرموز؛ حيث ابتدأ برمز "عيناك"، ثم ينتقل إلى رمز "الأم" التي توفيت وتركت طفلها، ثم نرى "الخليج" اعتبره بأنَّه رمز ثالث، ثم "العرق"، وأخيراً "المطر" الذي ينتقل بانتقال القصيدة، فهو إيقاع خارجي متنقل

قام الشاعر باستعمال هذه الإشارات والرموز في قصيدته استعمالاً داخلياً، وهذا الانتقال من دلالة إلى أخرى يأتي من ثنائية القصيدة كدال ومدلول، كما أنها رموز شفافة واقعية، لكنها في الوقت ذاته ليست واقعا خالياً

الصور الشعرية
تمثل الصورة الشعرية الوحدة الرئيسية في القصيدة التي هي بمثابة تراكم صوري، والقصيدة في مجملها هي صورة مبسطة تعتمد على التشبيه البسيط، وهو يتخذ جميع الاحتمالات، وربما كان عالم الطفولة المسيطر هو الذي يفرض هذه البساطة