هل عدد أسماء الله الحسنى تسعة وتسعون؟
(2)
************
قال ابن القيم: (الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد، فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما في الحديث الصحيح أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمى به نفسه، فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه، فتعرف به إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه، فلم يطلع عليه أحد من خلقه، ولهذا قال استأثرت به أي انفردت بعلمه).
وقال النووي: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم من أحصاها دخل الجنة فاختلفوا في المراد بإحصائها ، فقال البخاري وغيره من المحققين معناه حفظها، وهذا هو الأظهر لأنه جاء مفسرا في الرواية الأخرى من حفظها، وقيل أحصاها عدها في الدعاء بها، وقيل أطاقها أي أحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها، وقيل معناه العمل بها والطاعة بكل اسمها، والإيمان بها لا يقتضي عملا، وقال بعضهم المراد حفظ القرآن وتلاوته كله لأنه مستوف لها، وهو ضعيف والصحيح الأول).
هذا ما ذكره أغلب العلماء فكيف نوفق بين تلك الآراء في معنى الإحصاء وبعد أن ظهرت نتيجة البحث؟
ظهور الأسماء مرتبط بمقتضى الحكمة الإلهية
الإحصاء في اللغة معناه الحفظ والجمع والعد والإحاطة كما قال تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة:6]، وقال: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ) [الجن:28]، قال ابن منظور: (الإِحْصَاءُ العَدُّ والحِفْظ وأَحْصَيْت الشيءَ عَدَدته، وأَحْصَى الشيءَ أَحاط به).
من الواضح اتفاق العلماء على أن أسماء الله الكلية لا تحصى ولا تعد فهو سبحانه الوحيد الذي يعلم عددها، أما تخصيص بعضها بتسعة وتسعين اسما وتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله مائة إلا واحدا، فالعلة في ذلك والله أعلم أن كل مرحلة من مراحل الخلق يظهر فيها الحق سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته ما يناسب الغاية من وجودها ويحقق منتهى الحكمة وإبداع الصنعة ودلائل الكمال والجلال؛ ففي مرحلة الدنيا وما فيها من شهوات وأهواء وتقليب الأمور للإنسان على سبيل الابتلاء، وحكمة الله في تكليفه بالشرائع والأحكام وتمييز الحلال من الحرام، في هذه المرحلة تعرف الله عز وجل إلى عباده بجملة من أسمائه وصفاته تناسب حاجة الإنسان وضرورياته، ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في العدد المقصود فقال: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ).
ولمزيد من البيان يمكن القول: إن الحياة لما كانت دارا للابتلاء والامتحان ومحلا لاختيار الكفر أو الإيمان وكان الناس متفاوتين مختلفين آجالا وأرزاقا، وألوانا وأخلاقا، منهم الغني والفقير والأعمى البصير، منهم القوي والضعيف والظالم والمظلوم والحاكم والمحكوم والمالك والمعدوم، منهم الكاذب، والصادق، والمخلص، والمنافق إلى غير ذلك من أنواع الأخلاق وتنوع الأرزاق واختلاف السلوك وابتلاء ملك الملوك، لما كانت الدنيا كذلك ظهرت حكمة الله في تعريف الخلائق ما يناسبهم من أسمائه وصفاته.
فالمذنب من العباد إن أراد التوبة سيجد الله توابا رحيما وعفوا غفورا، والمظلوم سيجده حقا مبينا حكما عدلا وليا نصيرا، والضعيف المقهور سيجده قويا عزيزا جبارا قديرا، والفقير سيجد الله رزاقا حسيبا برا وكيلا، وهكذا سيجد العباد من الأسماء والصفات ما يناسب حاجتهم وبغيتهم، فالفطرة التي فطر الخلائق عليها اقتضت أن تلجأ النفوس إلى قوة عليا عند ضعفها ، وتطلب غنيا أعلى عند فقرها، وتوابا رحيما عند ذنبها، وسميعا قريبا بصيرا مجيبا عند سؤالها ومن هنا كانت لكل مرحلة من مراحل الخلق التي قدرها الله عز وجل ما يناسبها من أسمائه وصفاته وأفعاله.
ألا ترى أنه في البدء عندما أسكن الله آدم وحواء جنة الابتلاء فأكلا من الشجرة وانكشفت العورة وتطلبت الفطرة فرجا ومخرجا؛ كان الفرج والمخرج في أسماء الله التي تناسب حالهما وما يغفر به ذنبهما، فعلمهما كلمات هي في حقيقتها أسماء لله وصفات، علم آدم أن يدعو الله باسمه التواب الرحيم كما قال: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:37]، تَعَلمها ودعا الله بها: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ) [لأعراف:23].
وروي عن أنس، وابن عباس، وعبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف أنهم قالوا:(الكلمات التي تلقى آدم من ربه فتاب عليه لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم).
فطالما أن الدنيا خلقت للابتلاء فإن الله عز وجل قد عرفنا بما يناسبنا ويناسبها من الأسماء، وهذه الأسماء لا ينفع الدعاء بها أو ببعضها في مرحلة أخري كمرحلة القيامة والدار الآخرة، فلو دعا المشركون أو الكفار المخلدون ربهم يوم القيامة باسمه العظيم القريب الرفيق المجيب الواسع المنان الرحيم الرحمن المحسن السلام الجواد الفتاح الستير الرءوف الودود اللطيف الكريم الأكرم الغفور الغفار البر الطيب العفو التواب، لو دعا المخلدون في النار ربهم بأي اسم من هذه الأسماء أن يغفر ذنبهم وأن يعفو عنهم وأن يقبل التوبة منهم وأن يرحمهم من العذاب فإن ذلك لا يتحقق ولا يستجاب لمخالفته مقتضى الحكمة وما دون في أم الكتاب، ولذلك قال سبحانه وتعالى عن أهل النار ودعائهم: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) [غافر:49/51].
وقال أيضا: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:106/110]، ومن ثم فإن كل مرحلة من مراحل الخلق لها ما يناسبها من الحِكَم وإبداء الأسماء.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أنه عند مجيء الحق للفصل بين الخلق يوم القيامة يغضب غضبا شديدا لم يَغضَبْ قبلَه مثله ولن يَغضبَ بعدَهُ مثلَه، فيبلُغُ الناسَ من الغمِّ والكَرَبِ ما لا يُطيقون ولا يَحتمِلون، فيبحثون عن شفيع قريب لكن الأنبياء يتخلفون إلا صاحب المقام المحمود يقول عندها أنا لها، كما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (فأنطِلقُ، فآتي تحتَ العرش فأقَعُ ساجداً لربي عزَّ وجل ثمَّ يَفتح اللهُ عليَّ من مَحامِدِه وحُسنِ الثناءِ عليهِ شيئاً لم يَفتحْهُ على أحدٍ قبلي، ثم يُقال: يا محمد ارفَعْ رأسك، سَل تُعطَهْ، واشفعْ تُشَفع)، وتلك المحامد أو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الثناء على ربه- كما ذكر كثير من أهل العلم -أسماء من أسماء الله لم يعلمها أحد من قبل، يتعلمها النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الله بها فيستجيب له.