خاص- ثقافات

د. عبد النبي مخوخ (*)

انشغل بوبر Karl Popper كثيرا بمشكلة الاستقراء، في علاقتها الوطيدة بمشكلة الفصل، طوال حياته العلمية. ففي كتابه المعرفة الموضوعية، اعترف بأن هذه المشكلة استقطبت اهتمامه، بل ووجد لها حلا، منذ فترة متقدمة من حياته العلمية. فبهذا الصدد كتب: «سبق لي، خلال شتاء 1920-1919، أن قمت بصياغة وحل مشكلة الفصل بين العلم واللاعلم، ولم أكن مقتنعا بكونه (الحل) صالحا للنشر. غير أنني، وبعد أن قمت بحل مشكلة الاستقراء، اكتشفت وجود تداخل بين هاتين المشكلتين؛ و هذا ما جعلني أولي أهمية لمشكلة الفصل. لقد شرعت في الاشتغال على مشكلة الاستقراء سنة 1923 ووجدت حلا لها حوالي سنة 1927»[1].

وإذا كان بوبر قد توصل إلى حل لمشكلة الاستقراء حوالي سنة 1927، فإنه لم ينشره إلا في سنة 1933، في مقال مقتضب باللغة الألمانية[2]. و في سنة 1934، أثار هذا الموضوع مجددا في كتابه التاريخي منطق البحث العلمي[3]. و منذ ذلك الحين، لم يتردد في إثارة هذا الموضوع كلما أتيحت له الفرصة، إلى درجة تسمح بالقول إن مشكلة الاستقراء شكلت، إلى جانب مشكلة الفصل، المحور الأساسي لأعماله الإبستملوجية.

وعلاوة على ذلك، شكل انشغال بوبر بمشكلة الاستقراء نقطة تحول بارزة في البحث الإبستملوجي المعاصر. فمن جهة، أمطر الاستقراء بوابل من الانتقادات الوازنة جعلت الثقة فيه تتراجع بشكل ملحوظ. ومن جهة أخرى، اقترح منهجا بديلا فضل تسميته بالمنهج الاستنباطي للمراقبة Méthode déductive de contrôle خضع، بدوره، لنقاشات كثيرة أفرزت مواقف مختلفة، بل ومتباينة أحيانا. وبالجملة، يمكن القول إن مناقشة بوبر لمشكلة الاستقراء شكلت الأرضية الخلفية لعدد لا يستهان به الأعمال الإبستملوجية التي ظهرت منذ أربعينيات القرن الماضي.

سنحاول، في هذا المقال، بسط الخطوط العريضة لموقف بوبر من الاستقراء. ولذلك، سنحاول، في خطوة أولى، تأطير المشكلة تاريخيا مستحضرين بعض المساهمات التي أدت إلى الصياغة النهائية للمنهج الاستقرائي والنقد الذي وجه إليه من طرف هيوم D. Hume. وفي لحظة ثانية، سنعمل على تقديم الانتقادات الأساسية التي وجهها بوبر للاستقراء وتصوره للمنهج العلمي الحق. وأخيرا، سنختتم هذا المقال بخاتمة تروم إبراز بعض حدود هذا التصور.

.1 بعض المعطيات التاريخية

درج التقليد على تعريف الاستقراء بكونه انتقالا من ملاحظات مفردة إلى قوانين عامة أو، بلغة المنطق، انتقال من عبارات مفردة Enoncés singuliers إلى عبارات

شاملة[4] Enoncés universels . وبهذا المعنى العام، يعتبر الاستقراء آلية علمية راسخة في القدم، إذ نجدها معتمدة من قبل أرسطو نفسه. صحيح، لقد أولى هذا الأخير أهمية خاصة للقياس بوصفه ربطا للحد الأصغر بالحد الأكبر بواسطة الحد الأوسط، لكنه لم يهمل الاستقراء. إنه يعتبر أول من استعمل كلمة استقراءEpagôgê ، كما أنه أكد مرارا أن مقدمات القياس تبلور عادة بواسطة الاستقراء. فلا علم، حسب أرسطو، إلا بالكليات التي ليست إلا تعميمات استقرائية. وأخيرا، نشير إلى أن الفيزياء الأرسطية اعتمدت كثيرا على الاستقراء؛ ذلك أن معظم إقراراتها هي، في نهاية المطاف، تعميم لمعطيات الملاحظة المباشرة[5].

ولاعتبارات متنوعة لا يتسع المجال للخوض فيها، أولى المفكرون اللاحقون لأرسطو أهمية خاصة للقياس مهمشين الاستقراء. صحيح، لقد اعتمد هذا الأخير من قبل بعض المفكرين العرب والمسلمين من أمثال ابن سينا وجابر بن حيان وابن الهيثم، لكن الاهتمام العام ظل منصبا على القياس. فلم يتغير هذا الوضع إلا في نهاية القرون الوسطى حيث بدأت الثقة في القياس تعرف تراجعا مضطردا. و يعتبر المفكر الإنجليزي فرنسيس بيكونFrancis Bacon (1561-1626) أبرز المفكرين الذين انتدبوا أنفسهم لبلورة أورغانوم جديدNovum Organum على أنقاض الأورغانوم القديم.

.1.1 مساهمة بيكون.

قدم بيكون مجمل أعماله تحت عنوان طموح للغاية: الإحياء العظيم[6]Instauratio Magna . والواضح، أن هذا العنوان شكل دعوة صريحة للتخلي عن الفلسفة السابقة (فلسفة أرسطو وفلسفة القرون الوسطى) واستبدالها بفلسفة جديدة. و يرجع السبب الأساسي في ذلك إلى كون تلك الفلسفة ظلت فلسفة عقيمة، نظرت إلى المعرفة بوصفها هدفا في حد ذاتها وغرقت بالتالي في التنظير دون أدنى اهتمام بالجانب العملي[7]. وفي مقابل ذلك، دعا بيكون إلى ضرورة بلورة فلسفة بديلة، عملية ونفعية، ترمي إلى السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان. فبهذا الصدد كتب: «إنني ألتمس من كل امرئ أن يعتقد بأنه ليس هنالك مذهب فلسفي ينبغي التمسك به عدا العمل الذي يمكن إنجازه، فيكون بالتأكيد حسنا. إنني أجاهد من أجل وضع الأسس لا لأي مذهب أو تحزب، بل من أجل منفعة وزيادة قوة الإنسان»[8]. و لهذا الغرض، تسلح بيكون بمنهج جديد اعتبره في غاية الدقة والفعالية.

تنحل الظواهر الطبيعية، حسب بيكون، إلى جملة من الطبائع البسيطةNatures simples مثل الوزن والضوء والحرارة. ولذلك، نعت تلك الطبائع ب”الحروف الأبجدية للطبيعة”[9] وجعل من منهجه أداة للكشف عنها. وليتسنى له ذلك، يجب أن يمر بثلاث مراحل: مرحلة التجارب، مرحلة التسجيل ومرحلة المقارنة. فمن جهة أولى، تقتضي دراسة ظاهرة ما إخضاعها للتجارب أولا. غير أن هذه العملية لا تتم بطريقة عشوائية، وإنما يجب أن تراعي جملة من الضوابط مثل تنويع التجربة وتكرارها وإطالة أمدها. ومن جهة أخرى، تنص المرحلة الثانية على تسجيل كل المعطيات التي تم جمعها خلال المرحلة السابقة. غير أن هذا التسجيل يجب أن يكون تسجيلا تصنيفيا منظما. ولهذه الغاية، دعا بيكون إلى تسجيل تلك المعطيات في ثلاثة قوائم: قائمة الحضور أو الإثبات، قائمة الغياب أو النفي وقائمة التفاوت في الدرجة. ففي القائمة الأولى، يتم تسجيل كل الحالات التي تحضر فيها الطبيعة البسيطة. أما الحالات التي تغيب فيها، فتسجل بالقائمة الثانية، بينما تسجل الحالات التي تحظر فيها تلك الطبيعة بدرجات متفاوتة في القائمة الثالثة. وأخيرا، نخضع تلك القوائم للمقارنة قصد اكتشاف ما سماه بيكون ب”صور الطبائع البسيطة” أو القوانين[10].

تجدر الإشارة هنا إلى أن بيكون أسند إلى منهجه هذا خصوبة إجرائية كبرى، إذ أكد على إمكانية تطبيقه في جميع المجالات المعرفية. فبهذا الصدد كتب: «كما أن المنطق القائم الآن لا يقتصر بأقيسته على العلم الطبيعي وحده، بل يشمل جميع العلوم، فمنهجنا الاستقرائي يمتد بالمثل إلى كل العلوم. إننا نعتزم تجميع تاريخ وقوائم الاكتشافات المتعلقة بالغضب والخوف وما شابهها، بالحياة المدنية وبعمليات الذاكرة والتركيب والتقسيم واتخاذ القرارات والامتناع عنها، بنفس المقدار الذي نجمع به تاريخ وقوائم الحرارة والبرودة والضوء والنباتات وما إليها»[11].

والواضح أن المنهج المقترح من قبل بيكون ينطلق من الملاحظة والتجربة حصرا ولم يعر أية أهمية للفرضيات النظرية، بل دعا صراحة إلى تفاديها لكونها استباقا للطبيعةAnticipation de la nature[12]. وبذلك، كان بيكون أول من انشغل بتقعيد المنهج الاستقرائي بوصفه المنهج المؤهل حقا للتقدم في دراسة الطبيعة وتسخيرها بالتالي لخدمة الإنسانية. وعلى الرغم من الأهمية التاريخية الكبرى لمساهمة بيكون هاته، فإنها خضعت، منذ عصره، لانتقادات كثيرة من نوع عجزها عن التخلص من التأثير الأرسطي، إذ ظلت تستعمل اللغة الأرسطية (صور طبائع الأشياء مثلا) وإهمالها لدور الفرضيات في النشاط العلمي وللرياضيات كرد فعل على الصورنة العقيمة التي طبعت الفكر السابق[13] وعدم مواكبتها للتطورات العلمية الحاصلة آنذاك[14].

2.1. الصياغة النهائية للمنهج الاستقرائي

مهما يكن من أمر ما يشوب مساهمة بيكون من ثغرات، فإن فضلها الكبير يكمن في كونها شكلت منطلقا لنقاشات كثيرة وهامة حول المنهج العلمي، ساهم فيها عدد من المفكرين اللاحقين من أمثال كلود برنار ووليام ويويلWilliam Whewel وستورت ميل Stuart Mill . لقد انشغل كل هؤلاء ببلورة منهج علمي جديد يتجاوز ثغرات منهج بيكون. وعلى الرغم من الخلافات الجزئية التي كشف عنها هذا النقاش، فإن مجهودات هؤلاء أفضت إلى بلورة المنهج الاستقرائي في صورته النهائية، أي المنهج الذي يقضي بالمرور بالمراحل التالية:

أ. الملاحظة: يبدأ المنهج الاستقرائي بملاحظة الظاهرة موضوع الدراسة. غير أن الملاحظة المقصودة هنا هي ملاحظة علمية يجب أن تستجيب لجملة من الشروط منها الدقة والموضوعية. ويمكن لهذه الملاحظة أن تكون مباشرة، تعتمد على الحواس حصرا، أو مسلحة تعتمد على أجهزة دقيقة كالمجهر أو المقراب. وبما أن بعض الظواهر ليست معطاة في الطبيعة، يقوم العالم باصطناعها في المختبر كما يحدث عادة في الكيمياء والعلوم الطبيعية. وفي هذه الحالة نكون بإزاء ظاهرة مصطنعة تقترن فيها الملاحظة بالتجريب. وإجمالا، يكمن الهدف الأساسي لهذه الخطوة في جمع المعطيات حول الظاهرة.

ب. بلورة الفرضية: استنادا إلى المعطيات المجمعة خلال المرحلة الأولى، يقوم العالم أولا بما يعرف ب”التعميم الاستقرائي” حيث يعمم المعطيات التي رصدها على كل الحالات الأخرى المماثلة التي لم يخضعها للملاحظة وللتجريب. فبعد أن لاحظ سقوط بعض الأجسام الثقيلة (قطع من الحجر والخشب والحديد مثلا)، أمكنه أن يعمم ذلك على كل الأجسام الأخرى المماثلة لها ويقول: “كل الأجسام الثقيلة تسقط”. وعلى إثر ذلك، يقوم العالم ببلورة فرضية تروم تقديم تفسير للتعميم الاستقرائي. يمكنه مثلا تقديم الفرضية التالية: “كل الأجسام تسقط بسبب الثقالة” لتفسير التعميم الاستقرائي السابق. ولذلك، ليست الفرضية إلا عبارة تفسيرية مؤقتة للظاهرة. إنها تستند إلى المعطيات التي تم جمعها خلال الخطوة الأولى، لكن عوامل عديدة أخرى تتدخل في بلورتها منها ذكاء العالم ورصيده المعرفي والصدفة أحيانا.

ج. إختبار الفرضية وبلورة القانون: بعد أن يبلور العالم فرضية ما، يخضها للاختبار التجربي قصد إثبات صدقها أو كذبها. فإذا كذبت التجربة الفرضية، يتخلى عنها ويمضي في البحث عن فرضية أخرى بديلة. وإذا أثبتت صدقها، تحولت الفرضية إلى قانون شامل. لقد أسند الاستقراءانيون أهمية استثنائية لهذه الخطوة لكونها تعد الخطوة الحاسمة: إنها تحسم في أمر الفرضية وتحدد مصير نشاط العالم السابق وسلوكه اللاحق. و نظرا لأهميتها تلك، توقف الاستقراءانيون كثيرا مع التحقق التجربي فقسموه إلى أنواع وفصلوا القول في شروطه و آلياته.

.3.1نقد هيوم للاستقراء

عرف الفكر الفلسفي تحولا مهما مع هيومD. Hume ، إذ لم يعد منشغلا بمسألة الوجود بقدر ما أصبح منشغلا بمشكلة المعرفة. لقد كرس هيوم قسطا وافرا من مجهوداته لمعالجة هذه المشكلة خصوصا في كتابيه رسالة حول الطبيعة البشرية[15] وبحث حول الفهم الإنساني[16]. فمن حيث الجوهر، لا يختلف تصور هيوم للمعرفة عن التصور التجرباني، بل إنه يعد محاولة لدفعه إلى مداه الأقصى. فعلى غرار لوكJ. Locke ، انشغل هيوم بالتحليل السيكولوجي لأفكارنا وانتهى إلى التأكيد على أن التجربة تشكل مصدرها ومحكا لها. فمن جهة، تجد أفكارنا أصلها في “الانطباعات الحسية”. إنها مجرد تمثيل أو تصوير ذهني لها. ومن جهة أخرى تعد “الانطباعات الحسية” محكا لمعرفتنا، ذلك أن المعرفة الصادرة عنها هي وحدها المعرفة الصادقة، وما سواها ليس إلا هراء لا طائل من ورائه.

وفي سياق هذا الاهتمام المكثف بالمعرفة، انشغل هيوم كثيرا بنقد الاستقراء إلى درجة أن التقليد درج على ربط “مشكلة الاستقراء” بفلسفته[17]. فخلافا للتجربانيين الذين نظروا إلى الاستقراء بوصفه المنهج المميز للعلم، تعامل هيوم معه تعاملا نقديا، إذ أثار بصدده مشكلتين قدم لهما حلين متعارضين. فالمشكلة الأولى هي مشكلة منطقية صاغها بوبر على النحو التالي: «هل نملك المبررات الكافية للتفكير في حالات أخرى غير مجربة انطلاقا من حالات متكررة بحكم التجربة؟»[18]. فهل نملك مثلا المبررات الكافية للقول أن الشمس ستشرق غدا صباحا؟ عن هذا السؤال أجاب هيوم بالنفي القاطع، ذلك أننا لا نتوفر على أي مبرر منطقي لقول ذلك. إننا، كتب هيوم، «لا نتوفر على أي دليل مقنع على أن الأشياء التي كانت متصلة في أغلب الأحيان، من خلال تجربتنا، ستكون متصلة بنفس الكيفية في ظروف أخرى»[19]. أما المشكلة الثانية فهي مشكلة سيكولوجية صاغها بوبر كما يلي: «إذا كان الأمر كذلك، لماذا ينظر كل شخص واع، بل ولماذا تغمره قناعة بأن حالات غير مجربة ستكون مطابقة لحالات جربها؟ أو، بعبارة أخرى، لماذا نقوم بتنبؤات نثق فيها كثيرا؟»[20]. فإذا كان من المتعذر القيام باستنتاجات استقرائية من الوجهة المنطقية، لماذا نستمر في القيام بها بكل ثقة واطمئنان؟

لا يوجد، حسب هيوم، أي مبرر لذلك عدا “التكرار والعادة”. إننا اعتدنا على استنتاج نتائج غير مجربة من حالات وظواهر تكررت بانتظام في تجربتنا الماضية. وهكذا، نستطيع القول إن الشمس ستشرق غدا صباحا لأننا تعودنا على شروقها كل صباح. وبذلك، تبنى هيوم موقفا مزدوجا من مشكلة الاستقراء. فإذا كان يؤكد على تهافته من الوجهة المنطقية، فإنه اعترف بمشروعيته من الوجهة السيكولوجية.

.2 نقد بوبر للاستقراء

شكل نقد الاستقراء هاجسا أساسيا لازم بوبر على الدوام إلى درجة أنه لم يتردد في الاعتراف بكون النظرية التي قدمها في منطق البحث العلمي تبلورت في تعارض مع «كل الأعمال التي حاولت استعمال مفاهيم المنطق الاستقرائي»[21]. فعلى غرار جملة من المفكرين السابقين، وعلى رأسهم هيوم وليبغLeibig ودوهيمP. Duhem و بوانكاريH. Poincaré ، وجه بوبر جملة من الانتقادات الهامة للاستقراء نذكر منها:

.1.2 الانتقاد المنطقي

يشكل الانتقاد المنطقي الذي وجهه بوبر للاستقراء انتقادا أساسيا حرص على تقديمه في مختلف أعماله الإبستملوجية. ففي كتابه منطق البحث العلمي كتب: «من وجهة نظر منطقية، إنه ليس من البديهي أن نكون مخولين لاستنتاج عبارات شاملة من عبارات مفردة مهما كان عددها. يمكن دائما لكل نتيجة مستنتجة بهذه الكيفية أن تكون كاذبة. فمهما كان عدد البجع الأبيض الذي يمكن ملاحظته، فإنه لا يبرر النتيجة كل البجع أبيض»[22]. و الحال، لا يحق لنا تعميم ما لاحظناه على ما لم نلاحظه، وبالتالي لا يمكننا تبرير عبارات شاملة ببعض العبارات المفردة. فلا يحق لنا مثلا أن نستنتج أن “كل البجع أبيض” لمجرد أن البجع الذي لاحظناه كان أبيضا.

بصيغة أخرى، يعد الاستدلال الاستقرائي انتقالا من بعض العبارات المفردة إلى عبارة شاملة. تعبر العبارة المفردة عن واقعة أو حالة أشياء لوحظتا في زمان ومكان محددين. أما العبارة الشاملة فهي تعميم لبعض العبارات المفردة. غير أن الاستدلال الاستقرائي لا يستند إلى أساس منطقي صلب، ذلك أنه لا يمتلك بالضرورة خاصية الاستدلال المنطقي الصحيح: إذا كانت المقدمات صادقة، كانت النتيجة كذلك. ففي الاستدلال الاستقرائي، قد تكون المقدمات صادقة، ومع ذلك تكون النتيجة كاذبة. ولتوضيح ذلك، نكتفي بتقديم مثال الديك الرومي لراسلB. Russel .

يتعلق الأمر بديك كان يربى بضيعة لتربية الدواجن. كان صاحب الضيعة يطعمه كل يوم على الساعة التاسعة صباحا. ومع توالي الأيام، استنتج هذا الديك الاستقراءاني: “إنني أطعم كل يوم على الساعة التاسعة صباحا”، لكن سرعان ما حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ قام صاحبه، في أحد الأيام، بذبحه على الساعة التاسعة صباحا بدلا من إطعامه. وعليه، إذا كانت المقدمات التي انطلق منها الديك صادقة، فإن النتيجة التي استنتجها كانت كاذبة.

والواضح أن هذا الانتقاد ليس انتقادا بوبريا أصيلا، وإنما يستعيد انتقاد هيوم المنطقي للاستقراء ويعممه. فإذا كان بوبر قد أخذ بموقف هيوم المنطقي، فإنه رفض بصرامة موقفه السيكولوجي لاعتبارين أساسيين: فمن جهة أولى، أكد بوبر مرارا أن موقف هيوم السيكولوجي يؤدي حتما إلى الذاتانيةsubjectivisme واللاعقلانيةirrationalisme . فإذا كان العلم يتأسس على جملة من العبارات الشاملة، وإذا كانت هذه الأخيرة قائمة على “العادة والتكرار” كما بدا لهيوم، فإن العلم سيقوم حينئذ على اعتبارات ذاتية لاعقلية. ومن جهة أخرى، ميز بوبر بوضوح بين مقاربتين ممكنتين للفكر العلمي: مقاربة سيكو-تكوينية ومقاربة منطقية خالصة. فإذا كانت المقاربة الأولى تنشغل بكيفية تبلور الاكتشافات العلمية في ذهن العالم، فإن المقاربة الثانية تتعامل مع الاكتشافات العلمية بوصفها اكتشافات معطاة وتطرح بشأنها جملة من الأسئلة الخاصة من نوع: هل يمكن تبرير عبارة ما؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن تبريرها؟. وعلى الرغم من كون بوبر لا ينفي مشروعية وأهمية المقاربة الأولى بالنسبة للسيكولوجيا التجربية، فإنه يشكك في جدواها بالنسبة لدراسة المعرفة العلمية؛ ذلك أن تبلور الأفكار العلمية في ذهن العالم لا يخضع دائما لضوابط محددة يمكن رصدها بدقة[23].

سمح هذا النقد المنطقي لبوبر باستخلاص أن الاستقراء، الذي طالما اعتبره الاستقراءانيون آلية خصبة وضرورية لبناء النظرية العلمية، هو مجرد “أسطورة”. فلا يمكن أبدا للاستنتاجات الاستقرائية، مهما اتسعت قاعدتها، أن تكون عبارات شاملة مؤكدة ويقينية.

.2.2 تهافت مبدأ الاستقراء

يحتاج كل استقراء إلى مبدإ للاستقراء يسمح بتبرير الاستنتاجات الاستقرائية. و لهذا السبب أولى الاستقراءانيون أهمية قصوى لهذا المبدأ. فبهذا الصدد كتب ريشنباخReichenbach : «يحدد هذا المبدأ صدق النظريات العلمية. إن حذفه من العلم لن يعني شيئا آخر غير حرمان هذا الأخير من قدرته على إقرار صدق أو كذب نظرياته. والواضح، أنه بدون هذا المبدأ لن يحتفظ العلم، لمدة أطول، بحقه في التمييز بين نظرياته وبين الإبداعات الفانطستيكية والتعسفية لعقل الشاعر»[24]. غير أن بوبر لا يشاطر الاستقراءانيين تفاؤلهم هذا، إذ أكد مرارا أن مبدأ الاستقراء يؤدي حتما إلى “حلقة مفرغة” أو إلى “تراجع إلى ما لا نهاية له”.

يؤكد بوبر أن مبدأ الاستقراء هو «عبارة نستطيع القيام بواسطتها باستنتاجات استقرائية في صيغة منطقية مقبولة». إن هذه العبارة، يضيف بوبر، لا يمكن أن تكون عبارة تحليلية. ولو كان الأمر كذلك لما طرحت مشكلة الاستقراء أصلا؛ ذلك أن “الاستنتاجات الاستقرائية يجب أن تكون، في هذه الحالة، تحويلات منطقية صرفة أو طوطولوجيات، تماما كما هو الحال بالنسبة للاستنتاجات التي نقوم بها في المنطق الاستنباطي”[25]. والحال أن مبدأ الاستقراء لا يمكن أن يكون، وفقا للمنطق الاستقرائي نفسه، إلا عبارة تركيبية شاملة أو استنتاج استقرائي. غير أن الاستقراء الذي سمح باستنتاج هذه العبارة يجب أن يكون قد قام على مبدأ آخر للاستقراء. وبما أن هذا الأخير يشكل عبارة تركيبية شاملة، يجب أن يكون قد نجم عن استقراء قائم بدوره على مبدأ آخر للاستقراء، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له.

والواضح، أن الأمر يتعلق بنقد وجيه للغاية، وضع الاستقراءانيين في ورطة حقيقية. فلما لم يكن بإمكان هؤلاء الرد عليه ولا التخلي عن مبدأ الاستقراء، عمدوا إلى إدخال تعديل عليه مفاده أن هذا الأخير يتمتع بطبيعة احتمالية لا غير. غير أن هذه المراجعة لم تغير طبيعة المشكلة قيد أنملة؛ ذلك أننا، كتب بوبر «لن نكسب أي شيء إذا نظرنا إلى مبدأ الاستقراء بوصفه “محتملا” لا “صادقا”. و بالجملة، يقود منطق الاستنتاج المحتمل أو “منطق الاحتمال” إما إلى تراجع إلى ما لانهاية له وإما إلى مذهب القبلانيةapriorisme ، كما هو الحال بالنسبة لأي شكل من أشكال المنطق الاستقرائي»[26].

.3.2 هفوات المنهج الاستقرائي

يتفق الاستقراءانيون على القول إن المنهج المميز للعلم هو المنهج الاستقرائي. وبالرغم من وجود بعض الاختلافات الجزئية، كما أسلفنا الذكر، فإنهم يتفقون على القول إن هذا المنهج يمر بالمراحل التالية: الملاحظة، بلورة الفرضية، التحقق التجربي وصياغة القانون.

.1.3.2 الملاحظة

يعتقد الاستقراءانيون أن الملاحظة، التي قد تقترن بالتجريب كما أسلفنا، تشكل الخطوة الأولى في بناء النظرية العلمية. فإذا أردنا بناء نظرية علمية، حسب هؤلاء، علينا أن نبدأ بجمع “العبارات القاعدية” أو “العبارات البروتوكولية” التي ليست إلا “تقارير الملاحظة”[27]. وفي هذا السياق، لم يترددوا في التأكيد على إمكانية قيام ملاحظة نقية تضمن الموضوعية المطلوبة.

يتفق بوبر مع الوضعانيين على إسناد أهمية كبرى للملاحظة. فبهذا الصدد كتب: «إنني مستعد لقبول أن الملاحظة وحدها يمكنها مدنا ب”معرفة متعلقة بالوقائع” و(كما قال هاهن Hahn)، لا يمكن أن نعي الوقائع إلا بالملاحظة»[28]. و بالرغم من ذلك، عارض بشدة التصور الوضعاني لطبيعة الملاحظة ودورها في بناء النظرية العلمية. فمن جهة أولى، رفض بصرامة الزعم الوضعاني بإمكانية قيام ملاحظة محايدة وموضوعية، إذ أكد، في مناسبات مختلفة، على استحالة قيام ملاحظة من هذا القبيل. ففي كتابه منطق البحث العلمي كتب: «إن الاعتقاد بأننا نستطيع أن نبدأ بملاحظات خالصة فقط، دون الاستعانة بشيء له طبيعة النظرية، هو اعتقاد سخيف… تكون الملاحظات دائما انتقائية. إنها في حاجة إلى موضوع وإلى مهمة محددة وهدف معلن ووجهة نظر ومشكلة….”[29]. و الحال أن الملاحظة، من حيث إنها تنطلق من مشكلة محددة ومن حيث إنها تروم تحقيق هدف ما ومن حيث إنها تنتقي موضوعاتها…، هي بالضرورة ملاحظة مؤطرة نظريا. فعلى سبيل الاستهزاء بهذا الموقف، كتب: «إذا أمرت بكتابة تقرير حول التجارب التي أنا بصدد القيام بها، سأجد صعوبة في الاستجابة لهذا الأمر المبهم. فهل يتعين علي أن أذكر أنني أكتب وأسمع جرسا يدق وبائع الجرائد ينادي…أم يتعين علي أن أذكر أن هذا الضجيج يزعجني؟ و حتى إذا افترضنا إمكانية الاستجابة لهذا الأمر، فإن ترسانة [المعطيات] التي يمكن بلورتها بهذه الطريقة لا يمكن أن تشكل علما مهما كان غناها»[30]. و بعبارة واحدة، إن عملية جمع المعطيات تكون بالضرورة عملية انتقائية، وبالتالي محكومة وموجهة بضوابط نظرية محددة سلفا.

يستند موقف بوبر هذا من الملاحظة إلى جملة مكتسبات تحققت في مجالات معرفية متنوعة. فالدراسات التي أنجزت حول الإدراك البصري مثلا كشفت عن تهافت أطروحة “الملاحظة المحايدة”. ولتوضيح ذلك، يمكن تلخيص التصور السائد حول الإدراك البصري على النحو التالي: تتكون العين من عدسةLentille وبؤبؤRétine . تصدر الموضوعات الخارجية المرئية أشعة ضوئية تقع على عدسة الناظر. وعلى إثر ذلك، تعكس العدسة تلك الأشعة وتوجهها إلى بؤرة البؤبؤ. وبذلك، تتشكل الصورة التي تنقل إلى البصلة السيسيائيةCortex بواسطة الأعصاب البصرية.

استنادا إلى هذا التحديد لكيفية اشتغال الإدراك البصري، اعتقد الاستقراءانيون أنه يتم بطريقة آلية وبالتالي متماثلة لدى مختلف الملاحظين. ولذلك، يمكن لملاحظين مختلفين، ينظران إلى شيء واحد من نفس الموقع، أن يحصلا على نفس الصورة. وبما أن عملية التسجيل تتم بنفس الطريقة، فإنهما يحصلان على نفس المعلومة. وبذلك، تكون الملاحظة محايدة وموضوعية. غير أن دراسات كثيرة، أجريت في حقلي سيكولوجيا المعرفة والعلوم المعرفية على وجه الخصوص، بينت أن الإدراك ليس مجرد ميكانيزمات فيزيولوجية، ولكنه سيرورة معقدة تتوقف على عدة عوامل منها تجارب الملاحظ السابقة وثقافته وتطلعاته وأوضاعه النفسية وحالة حواسه[31]. ومن جهة ثانية، لا يبدأ النشاط العلمي بالملاحظة حسب بوبر. إنه يبدأ ببلورة النظرية ويتم اللجوء إلى الملاحظة والتجريب في مرحلة اختبار النظرية. وعلاوة على ذلك، أسند بوبر للملاحظة دورا مختلفا تماما عن الدور الذي تلعبه في المشروع الاستقراءاني: ليس بوسع الملاحظة والتجربة إثبات صدق النظريات. إنهما يضطلعان، عند بوبر، بدور آخر ألا وهو تفنيد النظريات كما سنرى لاحقا.

.2.3.2 التجربة

يتفق بوبر مع الوضعانيين على إسناد أهمية كبرى للتجربة. ففي كتابه منطق البحث العلمي كتب: «حسب هذا التصور تبدو التجربة وكأنها منهجا مميزا، يسمح بتمييز نسق نظري عن الأنساق النظرية الأخرى بحيث يبدو العلم التجربي متميزا ليس فقط بصورته المنطقية، ولكن بخصوصية منهجه أيضا… وفي جميع الحالات، إنني أقبل بالتأكيد أن نسقا ما لا يكون تجربيا أو علميا إلا إذا كان قابلا لأن يخضع لاختبارات تجربية»[32]. وفي كتابه افتراضات وإبطالات أضاف: «يتحدد مصير أية نظرية، أي قبولها أو رفضها، وفقا للملاحظات والتجارب ونتائج الاختبارات»[33].

يبدو أن هذه الأهمية التي أسندها بوبر للتجربة هي ما جعلته يبتعد عن أداتانيةInstrumentalisme دوهيم و مواضعاتانيةConventionalisme بوانكاري. فإذا كان يتفق معهما على رفض المنهج الاستقرائي، فإنه لا يشاطرهما الاعتقاد باستحالة إخضاع الأنساق النظرية للاختبار التجربي. يبدو أيضا أن هذا ما جعل البعض يقرب بوبر من الوضعانية. فلهذا السبب، ذهب كارناب R. Carnap مثلا إلى حد القول إن خلاف بوبر مع الوضعانية هو مجرد خلاف ظاهري.

و بالرغم من ذلك، يرفض بوبر الموقف الاستقراءاني الذي، إذ يؤمن بإمكانية قيام تجربة نقية، يسند إليها القدرة على الحسم النهائي في الفرضيات العلمية. فمن جهة أولى، لا وجود، حسب بوبر، لتجربة نقية خالية من أية شوائب نظرية. فكل تجربة تتم وفق خطة معدة سلفا. ولذلك، فضل استعمال كلمة تجريبExpérimentation بدلا من كلمة تجربة. فالتجريب هو تجربة مؤطرة نظريا. ومن جهة أخرى، أكد على استحالة قيام تجربة حاسمة. فعلاوة على كون التجربة الواحدة تقبل تأويلات مختلفة، فإنها تعجز عن إثبات صدق الفرضية المقترحة[34].

.3.3.2 طبيعة القوانين العلمية

أكد الاستقراءانيون دوما أن هدف العلم هو الكشف عن القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية بواسطة الاستقراء. وإذا كان بوبر لا يعترض على الهدف الذي رسمه الاستقراءانيون للنشاط العلمي[35]، فإنه ألح دوما على استحالة إخضاع القوانين العلمية لتحقق تجربي كامل، ذلك أن «التحقق من قانون طبيعي ما يفرض فحص كل حالة يمكن أن ينطبق عليها هذا القانون بطريقة تجربية وملاحظة أنها تخضع له بالفعل. وهذا أمر مستحيل»[36]. وعليه، فإن عبارة “كل البجع أبيض” لن تكون صادقة مطلقا ما لم نثبت تجربيا أنها تنطبق على كل البجع بدون استثناء. وهذا أمر مستحيل طبعا لأنه من المستحيل حصر كل أفراد القاعدة الاستقرائية لهذه العبارة، أي كل البجع بالتمام والكمال.

وفي هذا السياق، دعا بوبر إلى ضرورة التمييز بين نوعين من العبارات الشاملة: عبارات شاملة بالمعنى الدقيقEnoncés universels au sens strict وعبارات شاملة عددياEnoncés universels numériquement [37]. ولتوضيح الفرق بين هذين النوعين من العبارات الشاملة من وجهة نظر بوبر، نقدم المثالين التاليين:

  • كل المعادن تتمدد بالحرارة؛


ب. لا يتجاوز طول الناس الذين يعيشون حاليا على الكرة الأرضية مترين.

إذا كان المنطق، تقليديا كان أم رمزيا، لا يميز بين هاتين العبارتين معتبرا إياهما معا عبارتين شاملتين، فإن بوبر أكد على وجود فارقين مهمين بينهما. فمن جهة، تصدق العبارة الأولى في كل زمان ومكان، في حين لا تصدق العبارة الثانية إلا في مكان محدد (الكرة الأرضية) وزمان محدد (حاليا). ومن جهة أخرى، يمكن استبدال العبارة الثانية بسلسلة منتهية من العبارات الشخصية (لا يتجاوز طول عمر مترين ولا يتجاوز طول زيد مترين….)، في حين، لا يمكن استبدال العبارة الثانية بمثل تلك اللائحة من العبارات المفردة لاستحالة حصر قاعدتها الاستقرائية.

وبالجملة، تقوم العبارة الثانية على استقراء تام وتخضع بالتالي للاختبار التجربي (إمكانية اختبار أفراد العبارة واحدا واحدا)، في حين تقوم العبارة الأولى على استقراء ناقص ولا تخضع بالتالي لاختبار تجربي كامل. وإذا كان بوبر يعترف باستحالة حسم مسألة ما إذا كانت القوانين العلمية عبارات شاملة عدديا أم بالمعنى الدقيق بأدلة دامغة ويجب أن تخضع بالتالي ل”اتفاق أو معاهدة”، فإنه لم يتردد في رد العبارات الشاملة عدديا إلى عبارات مفردة والنظر إلى القوانين العلمية بوصفها عبارات تركيبية وشاملة بالمعنى الدقيق وغير قابلة بالتالي للتحقق التجربي.

4.2. درس تاريخ العلوم

يستند موقف بوبر من الاستقراء إلى تاريخ العلوم وإلى الإنجازات العلمية المعاصرة على وجه الخصوص. فالنظرية النسبية مثلا كانت قد اكتشفت أن قوانين ميكانيكا نيوتن العقلية، بما في ذلك نظريته حول التجاذب الكوني التي اعتبرت، منذ القرن السابع عشر، نظرية استقرائية مؤكدة من قبل الظواهر الطبيعية، ليست إلا فرضيات علمية. كما أن الاكتشافات العلمية الجديدة أثبتت أن “القوانين” التي درج التقليد الاستقراءاني على تقديمها كأمثلة دامغة على الطبيعة المؤكدة للاستنتاجات الاستقرائية لم تكن إلا فرضيات سرعان ما تم إبطالها. وهكذا، أبطلت العبارة “الشمس تشرق وتغرب مرة واحدة كل يوم”، التي اعتبرت عبارة تفسيرية شاملة ومؤكدة لمدة طويلة، عندما اكتشف القطب الشمالي وأبطلت عبارة “كل الثدييات ولود” حينما اكتشف خلد الماء باستراليا، وهو حيوان ثديي يبيض ولا يلد.

وعليه، إن تاريخ العلوم يزخر بمثل هذه الاعتقادات التي اعتبرت استنتاجات استقرائية مؤكدة، لكن سرعان ما تم إبطالها. والواضح، أن الأمر يتعلق بنقد وجيه لا يمكن تجاهله. ولذلك، تراجع الاستقراءانيون المتأخرون عن الموقف الأصلي واعترفوا بالطابع الاحتمالي للاستنتاجات الاستقرائية. فبهذا الصدد كتب ريشنباخ: «لا يمكن للعبارات العلمية أن تبلغ إلا درجات متصلة من الاحتمال حيث إن حدودها القصوى والدنيا هي الصدق والكذب اللذان لا يمكن بلوغهما أبدا”[38]. وبالرغم من التقدم الذي حققته هذه المراجعة، فإن بوبر ظل يعتبرها غير كافية وعاجزة عن إنقاذ الاستقراء.

وبناء على ذلك، استنتج بوبر أن النظريات التفسيرية الشاملة هي مجرد فرضيات. الشيء الذي جعل منه فيلسوفا نسبانيا relativiste و شاكاsceptique في نفس الوقت. فمن جهة، لم يتردد بوبر نفسه في الإعلان عن ميولاته الشكية. إننا نتوفر على عدد مهم من التصريحات تبرز بجلاء تلك الميولات، منها: »إنني لا أطلب من العلم أي يقين نهائي»[39] و«لا توجد في العلم عبارات قصوى … لا يمكنها أن تخضع للاختبارات»[40]. غير أن شكانية بوبر ليست شكانية متطرفة ومتشائمة، ولكنها شكانية دينامية متفائلة، مليئة بالأمل وتؤمن بإمكانية قيام المعرفة وتقدمها إلى درجة أنه جعلها مرادفة «للبحث النقدي القوي»[41]. ومن ناحية أخرى، يمكن وسم موقف بوبر بالنسباني لأنه لا يؤمن بإمكانية قيام عبارات أو نظريات صادقة مطلقا. فكل ما يمكن قوله عن النظرية العلمية هو أنها تقترب من الصدق[42].

.3 المنهج الاستنباطي للمراقبة

بعد أن رفض المنهج الاستقرائي، أكد بوبر أن المنهج المعتمد في النشاط العلمي هو منهج مميز فضل تسميته ب”المنهج الاستنباطي للمراقبة”Méthode déductive de contrôle وب”الإجراء الاستنباطي لاختبار النظريات” Procédé déductif de mise à l’épreuve des théories . وإذا كان بعض فلاسفة العلم المعاصرين، من أمثال ليبغ J. Leibig و دوهيم P. Duhem ، قد سبقوا بوبر إلى التأكيد على كون العلوم التجربية تعتمد المنهج الاستنباطي، فإن المنهج المقترح من قبل هذا الأخير يتمتع ببعض الخصوصيات تجعل منه منهجا متميزا. وإجمالا، يمكن القول إن هذا المنهج يمر بمرحلتين أساسيتين: مرحلة بلورة النظرية ثم مرحلة إخضاعها للاختبار[43].

.1.3 بلورة النظرية

خصص بوبر المقطع الثالث من القسم الأول من كتابه منطق الاكتشاف العلمي لتقديم منهجه هذا، فاستهله بالقول: «حسب التصور الذي سأعرضه هنا، إن المنهج الذي ينص على إخضاع النظريات للاختبار بعقلية نقدية وانتقائها طبقا لنتائج الاختبارات، يتبع نفس الطريقة دائما: انطلاقا من فكرة جديدة، مقدمة على سبيل المحاولة وغير مبررة بالمرة في هذه المرحلة – والتي يمكن تسميتها بتنبؤ أو بفرضية أو بنسق نظري أو بأي اسم شئتم – نستنتج نتائج بواسطة استنباط منطقي»[44]. والواضح أن بلورة النظرية تتم عبر اقتراح فكرة جديدة ثم استنباط النتائج الممكنة منها بحيث نحصل على نسق. ومن ثمة، تبرز جملة من الأسئلة أهمها: ما هو مصدر هذه الفكرة المنطلق وما طبيعتها؟

تماشيا مع مقاربته المنطقية الصرفة، لم ينشغل بوبر بمصدر أو كيفية تبلور الفكرة الجديدة التي ينطلق منها العالم[45]، وإنما اكتفى بتسليط بعض الضوء على طبيعتها. إن هذه الفكرة تتمتع، حسب بوبر، بطبيعة خاصة: فمن جهة، إنها ليست فرضية بالمعنى الاستقراءاني، أي فكرة مؤسسة على جملة من الملاحظات. ومن جهة أخرى، إنها ليست وهما أو تداعيا حرا. إنها فكرة معقولة، لكن غير مبررة إلى حد اللحظة ومقدمة على سبيل المحاولة ليس إلا. ويبدو أن هذه الطبيعة الخاصة للفكرة المنطلق هي ما جعلت بوبر يفضل تسميتها بافتراضConjecture . وفي جميع الحالات، يجب أن تتسم هذه الفكرة بجملة من السمات أهمها الجرأة وقدرة تفسيرية أكبر من القدرة التفسيرية للفكرة المنافسة.

1.1.3. الفرضيات الجريئة والفرضيات المساعدة

يميز بوبر بين نوعين من الفرضيات: الفرضيات المساعدة ad hoc Hypothèses والفرضيات الجريئةHypothèses audacieuses . يقصد بهذه الأخيرة الفرضيات التي تروم إنقاذ فرضية مهددة بالتكذيب عبر إدخال بعض التعديلات عليها مثل تعزيزها بمسلمة جديدة أو تعديل إحدى مسلماتها. إنه يرفض بصرامة هذا النوع من الفرضيات لكونه لا يسمح بتقدم المعرفة العلمية. ولتوضيح ذلك، نتوقف قليلا مع المثال التالي: لقد درج التقليد الاستقراءاني على تقديم العبارة “الخبز مغذي” كمثال واضح على العبارات الشاملة الصادقة الناجمة عن تعميمات استقرائية. غير أنه حدث أن كذبت هذه العبارة عندما تعرض سكان إحدى البلدات الفرنسية للمرض، بل ومات بعضهم بسبب تناولهم للخبز. ولإنقاذ هذه العبارة من التكذيب، أدخل عليها تعديل وصيغت على النحو التالي: “كل خبز مغذي باستثناء ذلك الذي تناوله سكان البلدة الفرنسية المعنية”.

يرفض بوبر هذا النوع من التعديل معتبرا إياه تعديلا غير منتج. فالفرضية المعدلة تستعيد فقط الفرضية الأصل مع تقليص لقاعدتها الاستقرائية. فعلاوة على كونها لا تسمح باختبارات جديدة، إنها أقل شمولية وأقل قابلية للتكذيب من العبارة الأولى. ولذلك، لا يمكن الأخذ بها بوصفها بديلا للأولى علما أن تقدم المعرفة العلمية يقضي، حسب بوبر، باستبدال نظرية بنظرية أفضل منها.

لقد عرف تاريخ العلم عدة محاولات من هذا النوع. فعندما لاحظ غاليلو مثلا أن سطح القمر يشتمل على جبال وهضاب بواسطة المقراب، كذب النظرية الأرسطية التي كانت تنظر إلى الكواكب، بما في ذلك القمر، بوصفها كراة كاملة، ملساء كلية، لا انخفاض ولا ارتفاع فيها. ولإنقاذ هذه النظرية من هذا التكذيب البين، أدخل سامبليسيو Simplicio تعديلا مساعدا على النظرية الأرسطية، فقال بوجود مادة غير مرئية تملأ الهضاب وتغطي الجبال. وبذلك، يظل القمر كرة ملساء كما أكد على ذلك أرسطو. لقد أدرك غاليلو في حينه أن هذا التعديل غير قابل للاختبار نظرا لعدم وجود أية وسيلة تسمح بالتأكد من وجود أو عدم وجود تلك المادة اللامرئية. ولهذا السبب بالذات، رفض بوبر هذا النوع من التعديل مؤكدا على أن النظرية الأرسطية الأصلية أفضل من النظرية المعدلة لأنها أكثر قابلية للتكذيب من هذه الأخيرة. يتعلق الأمر هنا بتعديل عقيم لا يسمح بتقدم المعرفة العلمية.

وإذا كان بوبريرفض هذه التعديلات، فإنه يقبل بتعديلات أخرى بوصفها تعديلات جريئة لا تخلو من خصوبة. فبعد أحداث البلدة الفرنسية، كان بالإمكان تعديل العبارة “الخبز مغذي” بعبارة “كل الخبز مغذي باستثناء ذلك الذي صنع من قمح ملوث بنوع من الفطريات”. إن هذا التعديل ليس تعديلا مساعدا، وإنما هو تعديل مقبول لأنه يسمح باختبارات جديدة. إنه من الممكن اختبار القضية المعدلة على “نحو مستقل”، أي بمعزل عن القضية الأصلية (إخضاع ذلك النوع من الفطريات لتحليلات كيميائية مثلا). ولذلك، فإنه من الممكن جدا تكذيب هذه العبارة. وإذا ما قاومت التكذيب، يمكن الأخذ بها بوصفها نظرية أفضل. ومن ثمة يظهر أن هذا النوع من التعديل يسمح بتقدم المعرفة العلمية.

يقدم تاريخ العلوم أمثلة كثيرة على هذا النوع من التعديلات الإيجابية. ففي القرن التاسع عشرمثلا، لاحظ علماء الفلك أن مدار كوكب أورانوس Uranus لا يتطابق والمدار الذي تنبأت به نظرية التجاذب الكوني لنيوتن. ولإنقاذ هذه النظرية من هذا التكذيب، افترض لوفيرييLe Verrier بفرنسا وأدمسAdams بإنجلترا وجود كوكب آخر بجوار أورانوس يفسر ابتعاده عن مداره المتوقع من قبل نظرية نيوتن. وبعد القيام بحسابات رياضية، تم تحديد موقع الكوكب المفترض. وعلى إثر ذلك، وجه علماء الفلك مقاريبهم نحو تلك المنطقة إلى أن تمكن كالGalle من ملاحظة كوكب جديد أصبح يعرف باسم نبتون Neptune. وبذلك، أتاح التعديل المقترح لنظرية نيوتن حول مدار أورانوس فرصة اكتشاف كوكب جديد. إنه مثال رائع للتعديلات الإيجابية التي تسمح فعلا بتقدم المعرفة العلمية.

2.1.3. القدرة التفسيرية

يجب أن تتمتع النظرية الجديدة بقدرة تفسيرية أكبر من النظرية المبطلة؛ ذلك أنها تستوعبها وتتجاوزها في نفس الوقت. إنه «يتعين عليها أن لا تتوفق حيث توفقت النظرية السابقة فحسب، ولكن يتعين عليها أن تتفوق حيث فشلت هذه الأخيرة. وإذا استجابت لهذين الشرطين، فإنها ستحقق نجاحا أكبر وستكون بالتالي أفضل من السابقة”[46]. وبتعبير آخر، إن النظرية الأفضل هي تلك التي لا تفسر ما فسرته النظرية السابقة فحسب، ولكن تفسر ما لم تفسره أيضا.

يقدم لنا تاريخ الفيزياء مثلا، منذ أرسطو إلى إنشتين ومرورا بنيوتن، مثالا واضحا على ذلك. فالفيزياء الأرسطية حققت جملة من الإنجازات الحقيقية من حيث إنها قدمت تفسيرا لعدد هائل من الظواهر الطبيعية مثل حركات الأجسام الأرضية والسماوية. ومعلوم أن فيزياء أرسطو خضعت لسلسلة من الاختبارات أفضت إلى تكذيبها خلال القرن السابع عشر على وجه الخصوص. وعلى إثر ذلك، قامت الفيزياء النيوتنية واستطاعت أن تفرض نفسها بوصفها نظرية أفضل من النظرية الأرسطية لكونها لم تقدم تفسيرا جديدا لكل ما فسرته هذه الأخيرة فحسب، وإنما فسرت ظواهر عجزت عن تقديم تفسير لها، بل وفسرت ظواهر جديدة لم تكن لتخطر على بال الأرسطيين مثل العلاقة القائمة بين حركة القمر ومد وجزر البحر. وبعد ذلك، بسطت الفيزياء النيوتنية نفوذها على مدى قرنين من الزمن لأن كل محاولات التكذيب التي خضعت لها، خلال هذه الفترة، باءت بالفشل. وعلى الرغم من ذلك، استمرت ملاحقة هذه النظرية إلى أن كذبت بطرق مختلفة. لقد اتضح مثلا أن حركة عطارد Mercure لا تتطابق مع التفسير النيوتوني لحركات الكواكب، كما اتضح أن كتلة الإلكترونات المتحركة بسرعات كبيرة تتغير وليست ثابتة وأن الزمان والمكان ليسا كائنين مطلقين، وإنما هما نسبيان. وعلى إثر ذلك، ظهرت النظرية النسبية بوصفها نظرية أفضل لكونها لم تفسر ما فسرته نظرية نيوتن فحسب، ولكنها فسرت ما لم تفسره.

2.3. اختبار النظرية

بعد بلورة النظرية، يقوم العالم بإخضاعها لاختبارات تجريبية. غير أن هذه الاختبارات ليست اختبارات إيجابية تستهدف إثبات صدق النظرية، ولكنها اختبارات سلبية تروم تفنيدها (إثبات كذبها)[47]. فإذا كان من المتعذر إثبات صدق عبارات شاملة استنادا إلى صدق عبارات مفردة مهما كان عددها، فإنه من الممكن «تبرير الادعاء بكذب نظرية تفسيرية شاملة بواسطة عبارات تجربية»[48]. فيكفي الحصول على عبارة مفردة واحدة تتعارض مع العبارة الشاملة للإقرار بفسادها. فعلى سبيل المثال، تم إبطال العبارة الشاملة “كل الثدييات ولود” بمجرد اكتشاف خلد الماء بأستراليا، وهو حيوان ثديي يبيض ولا يلد.

وبناء عليه، إذا استطاع الاختبار التجربي تفنيد النظرية، وجب استبعادها واستبدالها بنظرية أخرى. أما إذا لم يستطع تفنيدها، فوجب الاحتفاظ بها لا بوصفها نظرية صادقة، ولكن بوصفها نظرية صمدت أمام الاختبار و«أثبتت جدارتها»[49]. ومع ذلك، يستمر العالم في إخضاعها لاختبارات أكثر صرامة إلى أن تشي بكل أسرارها ويتم تفنيدها. الشيء الذي يسمح بالقول إن بوبر نقل النظرية الداروينية إلى حقل المعرفة العلمية. فوفقا لمبدأي “الصراع من أجل البقاء” و”البقاء للأقوى”، أكد بوبر أن النظريات العلمية المتنافسة تتصارع، ووحدها النظرية التي تصمد للاختبارات الأكثر صرامة تبقى.

خاتمة

دافع التجربانيون والوضعانيون دوما، وبحماس قل نظيره، عن الاستقراء بوصفه المنهج المميز للعلم. غير أن بوبر وجه له وابلا من الانتقادات الدقيقة والعميقة، منها ما هو أصيل ومنها ما هو تطوير لانتقادات سابقة، أفضت إلى تراجع الثقة فيه؛ بل وفرضت على الاستقراءانيين أنفسهم مراجعة تصورهم الأصلي له[50]. لم تكن التعديلات المقترحة من قبلهم كافية لإقناع بوبر. الشيء الذي جعله يزداد إصرارا على مناهضة الاستقراء طوال حياته.

وضحنا أن نقد بوبر للاستقراء يقوم على أسس صلبة. فمن الوجهة المنطقية، لا يمكن بالتأكيد تبرير الاستقراء، ذلك أنه لا يمكننا استنتاج عبارة شاملة من عبارات مفردة مهما كان عددها. وبالمثل، في النشاط العلمي، لا يمكن أبدا إثبات صدق القوانين العلمية لاستحالة حصر واختبار كل أفراد قاعدتها التجربية. لذلك، ولاعتبارات أخرى لا تقل وجاهة عرضنا لها في المقال (تهافت التصور الاستقراءاني لخطوات المنهج الاستقرائي على الخصوص)، استنتج بوبر أن الاستقراء هو مجرد أسطورة، لا يمكنه أن يشكل آلية صارمة تسمح ببلورة نظريات علمية نهائية وصادقة مطلقا. ولعل هذا ما جعل عددا مهما من الباحثين المعاصرين واللاحقين له ينتصرون له. من هؤلاء نذكر همبلKarl Hempel وبودوMaurice Boudot و لاكاتوسImre Lakatos ووتكنزJohn Watkins وبولانيM. Polanyi وهركايمر Harkheimer M.. فكل هؤلاء أجمعوا على كون الاستقراء يواجه صعوبات حقيقية تجعل منه مجرد “أسطورة”؛ يعجز عن تقديم فهم دقيق لطبيعة النشاط العلمي.

وفي مقابل ذلك، أكد على أن المنهج المميز للنشاط العلمي هو المنهج الاستنباطي للمراقبة. فالنشاط العلمي، حسب بوبر، هو أولا نشاط استنباطي، ذلك أن العالم يبدأ ببناء النظرية (انطلاقا من بعض المقدمات يستنتج جملة من النتائج بحيث ينتظم الكل في نسق نظري). وعلى إثر ذلك، يخضع النظرية للاختبار التجربي. والواضح أن بوبر يستعيد هنا موقف بعض فلاسفة العلم من أمثال دوهيم وبوانكاري. غير أنه يتميز عنهم بالتصور الذي قدمه لاختبار النظريات العلمية. فبما أن الاختبار التجربي لا يمكنه أبدا إثبات صدق النظريات، عليه أن يتجه صوب تفنيدها. غير أن هذا التصور تعترضه جملة من الصعوبات الحقيقية منها:

من الوجهة المنطقية، يقوم هذا التصور على أساس صلب: تكذب العبارة الشاملة بالتأكيد إذا كذبت إحدى عباراتها المفردة. فالعبارة الشاملة “كل الغربان سوداء” تكذب بمجرد ملاحظة غراب واحد غير أسود. أما في النشاط العلمي، فلا شيء يفرض الإقرار بكذب نظرية ما بمجرد ظهور ملاحظات أو تجارب معارضة لها. فما الذي يمنع من تكذيب هذه الملاحظات أو التجارب بدلا من النظرية؟ أو ما الذي يمنع من تأويلهما بكيفية تجعلهما متوافقين مع النظرية؟ تتأكد مشروعية هذه التساؤلات، بل وينجلي عمقها، إذا أضفنا أن تاريخ العلوم حافل بالأمثلة عن الملاحظات التي كذبت وأهملت أو أولت بكيفية جعلتها متوافقة مع النظرية السائدة[51].

من ناحية ثانية، لا يمكن تحقيق تفنيد حاسم لنظرية علمية إلا بملاحظات نقية وتجارب حاسمة. غير أن الدراسات الإبستمولوجية المعاصرة أثبتت استحالة وجود مثل هذه الملاحظات والتجارب: ذلك أن الملاحظات والتجارب العلمية تكون دائما مؤطرة نظريا. فلا وجود ل”عبارات قاعدية” قادرة على تكذيب عبارة شاملة على نحو حاسم. يبدو أن بوبر نفسه كان واعيا بذلك. ففي الفصل السابع من كتابه منطق البحث العلمي، قدم تصوره لعبارات الملاحظة واستخلص أن الإدراكات الحسية لا تسمح بقيام ملاحظات موضوعية ومؤكدة، ذلك أن عوامل ذاتية عدة مثل رصيد الملاحظ المعرفي ووضعه النفسي وطموحاته الشخصية تتدخل في تلك الإدراكات.

وأخيرا، يبدو لنا أن اجتهادات بوبر لم تفلح في حل هذه المشكلة، بل زادتها تعقيدا. ففي غياب عبارات قاعدية مؤكدة، ذهب بوبر إلى القول إن اعتماد عبارات قاعدية هو مسألة اتفاق في نهاية المطاف. فبهذا الصدد كتب: «ينجم قبولنا بعبارات قاعدية عن قرار أو اتفاق. ومن هذا المنظور، تعد هذه العبارات مواضعات»[52]. وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يحق لنا تأسيس العلم على المواضعات؟ تزداد أهمية هذا التساؤل إذا أضفنا أن بوبر نفسه أقر مرارا أن المجمع العلمي برمته قد يخطأ. ومن جهة أخرى، إذا كان بوبر يعترف بكون العبارات القاعدية لا تخلو من حمولة ذاتية، أفلا يؤدي اعتماد تلك العبارات إلى تلطيخ العلم بالذاتية؟ وهو أمر يتعارض كلية مع ما قاله بوبر عن “موضوعية العلم”.

(*) كاتب وباحث أكاديمي من المغرب.

إحالات:

[1]– Karl Popper, La connaissance objective, Traduction de Catherine Bastyns, Ed. Complexe, P.U.F, Paris, 1972, note 1, p.11.

[2] . « Ein Kriterium des empirischen charakters theoretischer systeme », Erkenntis, n° 3, 1933

[3] . Karl Popper, Logik der Forschung, Julius Springer Verlag, Vienna, 1934

ظهرت الترجمة الإنجليزية لهذا الكتاب سنة 1959. أما الترجمة الفرنسية فلم تظهر إلا في سنة 1973: . La logique de la découverte scientifique, Trad. Nicole : Thyssen-Rutten et Philippe Devaux, Payot, Paris.ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية من طرف د. محمد البغدادي تحت عنوان منطق البحث العلمي، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 2006 (اعتمدت هذه الترجمة على الطبعة العاشرة من النسخة الألمانية). من جهتنا، سنعتمد على الطبعة الثانية من الترجمة الفرنسية التي ظهرت سنة1984 .

[4] . عرف المعجم الفلسفي لجميل صليبا الاستقراء على النحو التالي: “الاستقراء في اللغة: التتبع، من استقرأ الأمر، إذن تتبعه لمعرفة أحواله، و عند المنطقيين هو الحكم على الكلي لثبوت ذلك الحكم في الجزئي”، دار الكتاب اللبناني، مكتبة المدرسة، بيروت، لبنان، 1982، ص.71 .

[5] . أنظر سالم يفوت، مفهوم الواقع في التفكير العلمي المعاصر، مظاهر النزعة الاختبارية لدى الوضعيين الجدد و ستروس، منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة الأطروحات و الرسائل، رقم 7، مطبعة دار النشر المغربية، بدون تاريخ.

[6] . يرتبط فكر بيكون ارتباطا وثيقا بتجربته الحياتية إلى درجة تسمح بالقول إن هذه الأخيرة تسمح بتسليط الأضواء الكافية على إنتاجاته الفكرية. ولهذا السبب استقطبت حياة بيكون اهتمام عدد مهم من الباحثين المنشغلين بالفكر الحديث. و يعتبر راولي W. Rawley أول من انشغل بحياة بيكون و كتب حولها مقالا نشر سنة .1657 أعيد نشر هذا المقال في F. Bacon, The Philosophical Works of Francis Bacon. Reprinted from the texts and translations of Ellis and Spedding, by John M. Robertson, Routledge, London, 1905, pp.1-11.. و بعد ذلك ظهرت عدة محاولات جعلت من هذا المقال مصدرا أساسيا لها.

و الواقع أن حياة فرنسيس بيكون يكتنفها غموض كبير جعلها تخضع لتأويلات مختلفة، نسجت صورا مختلفة، بل و متباينة أحيانا حول شخصيته. فمن المؤرخين من جعل منه الأب الروحي للمجتمع الغربي الحديث، إذ تفانى في خدمة العرش، تمرد على التقاليد و حرص على إشاعة قيم العدل والقانون (أنظر مقدمة روبرتسن لأعمال بيكون الفلسفية). و منهم من قدمه بوصفه إنسانا وصوليا، كرس كل حياته للهث وراء الجاه و المال، مستعملا في ذلك كل الوسائل الممكنة. و يبدو لنا أنه من المستحيل الحسم في هذا الخلاف، ذلك أن الأمر يتعلق بأحداث بالغة التعقيد، حدثت في مجتمع معقد للغاية، تداخلت فيه عوامل شتى: سياسية و اقتصادية و فكرية. فلا يمكن البتة فصل حياة بيكون عن سياقها العام، أي سياق المجتمع الإنجليزي في أواخر القرن السادس عشر و بداية القرن السابع عشر، على عهد الملكة إليزبيتElisabeth و الملك جيمس الأول James 1er .

[7] . بهذا الصدد كتب بيكون: “…تحولت المعرفة النظرية إلى معرفة كلامية لفظية، و أصبحت النتائج تستخلص من أقيسة لفظية لا تقدم و لا تؤخر، فابتعد الإنسان تدريجيا عن واقع الأشياء، و عن عالم الطبيعة، متخذا من مبدأ المعرفة ذريعة لذلك”. أورده قيس هادي أحمد، نظرية العلم عند فرنسيس بيكون، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الثانية، 1986، ص..72 وفي معرض حديثه عن فلسفة القرون الوسطى أضاف: “إن هذا النوع المنحط من المعرفة (المعرفة النظرية) ساد أيضا بين المدرسيين الذين كان لديهم ذكاء قوي حاد، و أوقات فراغ طويلة، و قراءات قليلة التنوع، و لكن ذكاءهم كان حبيسا في زنزانات كتاب قلائل، أهمهم أرسطو، حاكمهم المستبد، مثلما كانت شخصياتهم حبيسة في زنزانات الأديرة ودور العلم. و لما كانوا لا يعرفون من التاريخ الطبيعي أو التجربة إلا قليلا، فإنهم تمكنوا من استخدام مادة ضئيلة، و لكن مع استعمال مفرط للعقل، من أن يحيكوا أنسجة العنكبوت المضنية التي نجدها في كتاباتهم، و ذلك لأن ذكاء الإنسان و ذهنه، إذا ما مورسا على مادة مثل تأمل مخلوقات الله، فإنهما يعملان تبعا لمقدار هذه المادة، و يتحددان بها. أما إذا مورسا على ذاتهما، مثلما ينسج العنكبوت خيوطه، فعندئذ لا يكون لعملهما نهاية، ويأتيان حقا بمعرفة أشبه بنسيج العنكبوت، تعجبنا فيها دقة الخيوط و حبكة النسيج، و لكن ليس لها قوام و لا منها جدوى”، المرجع نفسه، ص.81.

[8] . المرجع نفسه، ص.178.

[9] . يؤكد بيكون على وجود تواز بين اللغة و الطبيعة. فكما أن الجملة تركب من كلمات و تنحل إليها، و كما أن الكلمة تركب من حروف و تنحل إليها، فإن الظواهر الطبيعية تركب من طبائع بسيطة و تنحل إليها.

[10] . استعمل بيكون كلمة “صور” بمعنى قوانين. فبهذا الصدد كتب: “عندما أتحدث عن الصور، فلا أعني سوى تلك القوانين و التحديدات الخاصة بالفعالية المطلقة، و هي التي تتحكم في الطبائع البسيطة، كالحرارة و الضوء و الوزن، في كل صور المادة و الموضوعات التي تنطبق عليها. وهكذا فإن صورة الحرارة أو صورة الضوء تعني نفس ما يعنيه قانون الحرارة أو قانون الضوء”، أورده محمد أحمد السيد في التمييز بين العلم واللاعلم، دراسة في مشكلات المنهج العلمي، منشأة المعارف بالاسكندرية، مصر، 1996، ص.16 -17 .

[11] . بيكون، الأورجانون الجديد، أوردته يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989، ص.47 .

[12] . هذا لا يعني البتة أن بيكون ألغى العقل كلية، بل اعترف مرارا بضرورة تدخله البعدي في البحث الطبيعي. و هذا ما وضحه بالقول: “إن الذين تناولوا العلوم كانوا إما تجريبيين و إما اعتقاديين: الفئة الأولى كالنمل تكدس خزينها و تستعمله. و الثانية كالعناكب تغزل من إفرازها نسيجها. أما النحلة، و هي وسط بين الإثنين، فهي تستخرج المادة من أزهار الحديقة و الحقل، و لكنها تعمل فيها و تشكلها بجهودها الخاصة. و العمل الحقيقي للفلسفة يماثل عمل النحلة، لأن الفلسفة لا تعتمد اعتمادا كليا و أساسيا على قوى العقل، و لا هي كذلك تدخر في الذاكرة المادة التي تنتجها تجارب التاريخ الطبيعي و الميكانيكا في حالتها الفجة، و إنما هي تغيرها و تعمل فيها الذهن. لدينا إذن مبرر كاف لأن نستمد الأمل من اتحاد أوثق و أنقى لهذه القوى (التجريبية و العقلية) من أية محاولة سابقة. ترجمة حبيب الشاروني، فلسفة فرنسيس بيكون، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 1981، ص.124 .

[13] . من أبرز المفكرين الذين انتقدوا بشدة موقف بيكون من الفرضيات و الرياضيات نذكر كلود برنار C. Bernard. فمن جهة أولى، اعترض بوضوح على رفض بيكون و أتباعه للفرضيات بوصفها “استباقا للطبيعة”. و يرد هذا الرفض إلى الخلط الحاصل لديهم بين إبتداع التجربة و تسجيل نتائجها. فبهذا الصدد كتب: “صحيح، إنه من الواجب تسجيل نتائج التجربة بذهن خلا من الفروض و تجرد من الأفكار السابق تصورها. لكن من واجب المجرب في الوقت نفسه أن يحذر العدول عن استخدام الفروض و الأفكار حين يكون الأمر خاصا بوضع التجربة أو تصور وسائل الملاحظة. وعلى المرء أن يفعل عكس هذا فيطلق لخياله العنان، ذلك أن الفكرة هي أصل كل استدلال و اختراع، و إليها يرجع الفضل في البدء. و لا يجوز للمرء وأدها أو استبعادها بحجة أنها قد تضر، و كل ما يقتضيه هو تنظيمها و إخضاعها لمقياس”، أوردته يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر، ص. 50. و بذلك، لا يمكن البتة الاستغناء عن الفرضيات، إذ لا يمكن تصور قيام تجربة بدونها. و علاوة على ذلك، أضاف برنار، تزداد أهمية الفرضية في العمل العلمي إذا علمنا أنها قد تسمح باكتشاف وقائع جديدة و تساهم بالتالي في تقدم المعرفة العلمية. و من جهة أخرى، انتبه برنار إلى خطورة تهميش الرياضيات و ألح على ضرورة اعتماد التكميم. لقد أكد صراحة أن قانونا ما لن يكون قانونا علميا ما لم يكن كميا، أي ما لم يحدد كميا العلاقات القائمة بين الظواهر.

[14] . يتفق مؤرخو العلوم على القول إن ثقافة بيكون العلمية كانت جد متواضعة. فلم يكن ملما بأعمال فيساليوسVesalius (1514-1564) في علم التشريح و لا بأعمال وليم هارفيWilliam Harvey (1578-1657)، مكتشف الدورة الدموية، كما أنه رفض نظرية كوبرنيكN. Copernic الفلكية و أعمال جلبرت William Gilbert (1544-1603 ) حول المغناطيس. وإضافة إلى ذلك، لم يستطع استثمار منهجه لتقديم إضافة أصيلة إلى صرح المعرفة العلمية القائم آنذاك.

[15] . D, Hume, A treatise of Human Nature, 1739. Traité de la nature humaine, Traduction de A. Leroy, Aubier Montaigne, Paris, 1946, 2 vol

[16] . D. Hume, Enquiry concernaing the humain understanding, 1748, Enquête sur l’entendement humain,

[17] . بوبر مثلا لم يتردد في تسمية هذه المشكلة ب”مشكلة هيوم”، تماما كما لم يتردد في تسمية مشكلة الفصل ب”مشكلة كانط”.

[18] . K. Popper, La connaissance objective, p.14

[19] . D. Hume, Enquête sur l’entendement humain, p.215

[20] . K. Popper, La connaissance objective, p.14

[21] .K. Popper, La logique de la découverte scientifique, note 1, p.26

[22] . المرجع نفسه، ص.23.

[23] . هذا ما وضحه بوبر بالقول: “يمكنني أن أعبر عن تصوري بالقول أن كل اكتشاف يشتمل على “عنصر لاعقلي” أو “حدس مبدع” بالمعنى البرغسوني لهذه الكلمات”. وبالمناسبة، يستشهد بوبر بقولة مشهورة لإنشتين وردت في سياق حديثه عن العبارات الشاملة: “لا وجود لطريق منطقي يؤدي إلى هذه القوانين. فلا يمكننا بلوغها إلا بواسطة حدس قائم على نوع من الحب الفكري لموضوعات التجربة”، المرجع نفسه، ص.28 .

[24] . المرجع نفسه، ص.24.

[25] . المرجع نفسه.

[26] . المرجع نفسه، ص.26.

[27] . إنها، على حد تعبير كارناب “تصف مضامين التجربة المباشرة أو الظواهر و الوقائع الأكثر بساطة التي يمكن معرفتها”، المرجع نفسه، ص.95.

[28] . نفس المرجع، ص.97.

[29] . المرجع نفسه، ص.46.

[30] . المرجع نفسه، ص.106.

[31] . في مقاله “الصورة: وهم الاستنساخ و استيهامات النظرة”، وضح سعيد بنكراد هذا الوضع بالقول: “الصورة شيء آخر غير استنساخ حرفي لواقع لا مراء فيه. فما يأتي إلى العين هو “نظرة تنظر” إلى الأشياء لا الأشياء ذاتها….إن العالم موضوعي في ذاته لا في وعي الذات التي تلتقطه في كليتها و في تفاصيله. فالعين ترى عبر وسائط الثقافة و المخيال و المعتقدات (ترى العين ما تود أن تراه لا ما يمثل أمامها) بل هي محكومة أيضا بهشاشة الإبصار ذاته (بما فيها خالات السن و المرض و التعب)” جريدة الأحداث المغربية، عدد3709 ، السبت/الأحد 19 أبريل 2009 ، ص.10.

[32] . K. Popper, la logique de la découverte scientifique, pp.36-37

[33] . K. Popper, Conjectures et réfutations, p.54

[34] . أنظر مقالنا “الفرضية والتجربة في فلسفة نيوتن الطبيعية”، نشر بكتاب التفسير والتأويل في العلم، تنسيق سالم يفوت، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات و مناظرات، رقم 62،1997 .

[35] . “لا يجب أن نتوقف عن البحث عن قوانين شاملة و عن نسق نظري منسجم…”، Conjectures et refutations, p.59 . تجب الإشارة أيضا إلى أن هذا الموقف فرض على بوبر التخلي عن لغة السيكولوجيا، أي استبدال الكلمات ذات الحمولة السيكلوجية ) الذاتية( بكلمات موضوعية. فعلى سبيل المثال، استعمل كلمة “إقرار” أو “نظرية تفسيرية” بدلا من كلمة “قناعة” و استعمل عبارة “تقرير الملاحظة” بدلا من كلمة “انطباع”…

[36] . المرجع نفسه، ص.41.

[37] . لا ينطبق هذا التمييز، حسب بوبر، على العبارات التركيبية فحسب، و لكنه ينطبق أيضا على العبارات التحليلية. ففي الرياضيات مثلا، تعتبر العبارة “لكل عدد طبيعي تال” عبارة شاملة بالمعنى الدقيق، في حين أن العبارة “باستثناء الأعداد 11 و 13 و 17 و 19، كل الأعداد ما بين 10 و 20 تقبل القسمة” هي عبارة شاملة عدديا.

[38] . المرجع نفسه، ص.27 .

[39] . K. Popper, La logique de la découverte scientifique, P.78

[40] . المرجع نفسه، ص. 44

[41] . هذا ما وضحه بالقول:”يختلف الموقف الذي أدافع عنه هنا جذريا عن ما سمي في العصر الحديث، منذ الإصلاح على الأقل، ب”الشكانية”. وبالفعل، يقدم العصر الحديث الشكانية بوصفها نظرية متشائمة بالنظر لإمكانية [قيام المعرفة]، في حين أن وجهة النظر المقترحة هنا تبدو مليئة بالأمل بصدد إمكانية نمو المعرفة و بالتالي إمكانية [قيامها]”K. Popper, La connaissance objective, p.112

[42] . تشتمل كل نظرية علمية، حسب بوبر، على “محتوى الصدق”Contenu de vérité و “محتوى الكذب”Contenu de fausseté و يمكن حساب درجة اقترابها من الصدق بواسطة المعادلة التالية:Vs(a) = CTv – CTf(a) بحيث تشيرVs(a) إلى درجة اقتراب القضية a من الصدق و CTv إلى “محتوى صدق” a و CTf إلى “محتوى كذب” a.

[43] . استهل بوبر الفصل الأول من كتابه منطق البحث العلمي بالقول: “يقترح العالم، منظرا كان أم تطبيقيا، عبارات أو أنساق من العبارات ويختبرها خطوة خطوة. ففي مجال العلوم التجربية على وجه الخصوص، يشيد العالم نظريات أو أنساق نظرية و يخضها لاختبار التجربة بالملاحظة و التجريب”، ص.23 .

[44] . المرجع نفسه،

[45] . لا ينفي بوبر أهمية هذا الموضوع، و لكنه يكتفي بالتأكيد على أمرين: فمن جهة، إن هذا الموضوع لا يهم “منطق البحث العلمي”، و لكنه من اختصاص مجالات معرفية أخرى مثل علم الاجتماع و علم النفس المعرفي. و من جهة أخرى، لازلنا نفتقد لفهم دقيق له بالرغم من وفرة الدراسات السوسيولوجية و السيكولوجية في حقل الإبداع العلمي.

[46] . Karl Popper, La connaissance objective, p.24

[47] . K. Popper, La logique de la découverte scientifique, p.29.

[48] . K. Popper, La connaissance objective, p.18.

[49] . يتم الاختبار السلبي في شروط خاصة و يعتمد على آليات محددة فصل بوبر القول فيها في كتابه منطق البحث العلمي. سنتناول تلك الشروط والآليات في مقال لاحق خول “مشكلة الفصل لدى بوبر”.

[50] . لما لم يكن بإمكان الاستقراءانيين الرد على انتقادات بوبر هاته، عمدوا إلى إدخال بعض التعديلات على تصورهم الأصلي للاستقراء. فلم يعودوا يتكلمون مثلا عن إمكانية إثبات صدق العبارات الشاملة، بل أصبحوا ينظرون إليها بوصفها عبارات نسبية ومؤقتة.

[51] . لتوضيح ذلك، نستحضر هنا قصة خيالية أوردها لاكاتوسI. Lakatos : نفترض أن عالم فيزياء نيوتني قام بتحديد مدار كوكب ما بالاستناد إلى قانون التجاذب الكوني النيوتني و شروط ابتدائية محددة. بعد ذلك، لوحظ أن الكوكب المعني ينحرف عن المدار المقترح. سيرفض العالم النيوتني الإقرار بكون تلك الملاحظة تفند النظرية النيوتنية بالتأكيد و سيفترض وجود كوكب آخر يجذب الكوكب الأول و يجعله ينحرف عن المسار المحدد. وبعد تحديده لمدار الكوكب الجديد، سيطلب من العلماء اختبار هذه الفرضية. فإذا أكدت الملاحظات الفلكية تلك النظرية، سيعتبر ذلك نصرا مبينا للنظرية النيوتنية. أما إذا عارضتها، فلن يعتبرها تكذيبا لها، بل سيعمل على تقديم فرضية أخرى كفيلة بإنقاذها. سيفترض مثلا أن كتلة من الغبار الكوني تحيط بذلك الكوكب و تحول دون رؤيته. و بعد تحديد موقع و خصائص ذلك الغبار، يدعو العلماء إلى العمل على اختبار تلك الفرضية. و لهذه الغاية، يبعث العلماء بسفينة فضائية، مزودة بأجهزة رصد جد متطورة، إلى الموقع المحدد. فإذا التقطت تلك الأجهزة ذلك الغبار، سيعتبر العالم النيوتني ذلك الإنجاز تأكيدا صارخا لنظرية نيوتن. أما إذا لم تلتقط اي شيء، فلن يعتبر ذلك تفنيدا للنظرية، بل سيقدم فرضية مساعدة جديدة تروم إنقاذ النظرية مثل وجود حقل مغناطيسي منع أجهزة الرصد من التقاط الغبار. و هكذا دواليك إلى أن يطوى الملف نهائيا. Imre Lakatos, Histoire et Méthodologie des Sciences. Programmes de recherche et reconstruction rationnelle, Traduction de l’anglais par Catherine Malamoud et Jean-Fabien Spitz, sous la direction de Luce Giard. P.U.F, Paris, 1994.

[52] . K. Popper, La logique de la découverte scientifique, p.105

ثقافات