2001 - حلب

اشتياق

ـ يأز الألم في النفس من ثقل وهم وحزن وكدر .. ويزحزح المشاعر التي أثقلت النفس فلا يقدر حتى تثقله ولا يثقلها , فتسقط فوقه ثقلاً جديداً , حجر على حجر على حجر وتتراكم الأنات في القلب .

في الساعات الوسطى من النهار وحين تكون مدينة حلب تغلي بأهلها , وحين يحمى الوطيس يلج الوجود في منتصف المدينة أمراً يشبه الكمون في لقلب الجحيم , الحافلة تسرع بنا ولا أدري في أي لحظة يحدث الحادث , شعور غريب ينتابني في كل مرة أن الحادث سيقع الآن .. الآن .. ضغط السائق على الفرامل بقوة , وعلا صوت حاد اخترق المكان , صوت الزمامير , اندلعت الشتائم والسباب وقد سترنا الله في هذه المرة , تنهدت , يعج ذهني بالترقبات التي أعدها مع مرور كل لحظة , آلاف السيارات بحر من السيارات تدور وتدور , بحر متلاطم الأمواج , وهذه الأمواج غير منتظمة , لا نعرف أين تقف بك وأين تسير وأين تضطرب , أصوات كثيرة كأصوات آلات المعامل تدك أذنك الدقيقة الحجم , تخيل جبال من الأصوات تنفذ لداخل هذه الأذن تلوث سمعي يكاد يصيبني بآلاف الأمراض العصبية , ناهيك عن ضيق الصدر بالهواء الملوث بغازات الاحتراق ناهيك عن آلاف الأضواء الباهرة واللامعة تشعل وتطفئ في وجهك ولا تعرف كيف ومتى تنطفئ.

في قلب المدينة آلاف وآلاف الأمور التي تشد البصر والسمع والفؤاد وينتهون إليها وترحل فجأة تاركة الفراغ والحسرة ورائها, كثيرة هي الأمور التي ترحل عنا, إن حركة الانتباه و اللانتباه تشبه حركة حافلة في طريق طويل يعج بالسيارات , يضغط السائق على البنزين كأن لا أحد في الطريق , ويضغط على الفرامل كأن كل السيارات أمامه , فتقف الحافلة متراً أو مترين , ضغوطات وضغوطات وكأنه يضغط على قلبك أنت , كمتحف كبير لا تكاد تنتهي منه بأيام وإذ بك تمر به في لحظات تعب كلها الحياة وفي وسط هذا التيقظ والانتباه تغدو النفس حائرة وأي حيرة , آلاف الأشياء الصغيرة والكبيرة والجميلة تطرح بالأسواق وتثير الرغبات والشهوات فيك .

وكل شيء يقول لك أنه الأفضل والأجمل , أهو جميل حقاً أم أنك تراه جميلاً , أم السوق يمسي فتّاناً وبراقاً, كل شيء يلمع ويلمع , العين فقط التي ترى والأذن فقط التي تسمع , الحواس كلها فقط والقلب ضائع والقلب ضائع تغيب عنه الحقائق , ويبقى الإنسان متحسراً متحيراً بين الزائف والأكثر زيفاً وأنت لا تملك إلا صفراً في اليدين , في الماضي كان الشاب يرضى بفتاة تخطبها له والدتها الآن هو يرى كل الفتيات ولا يرضى بواحدة , عجيب هو الإنسان وصبره على هذا الأمر أعجب .

ترتفع بك الحافلة وتنخفض وتميل وتضطرب , وأنت لا تعرف متى تسير بتؤدة ويسر , نظرت إلى ساعتي عجيب , أمعقول أني أمضيت ثلاث ساعات وسط المدينة , تكرر ذلك الشعور مرة أخرى , وبين اليقين والشك بماهية الشعور أم ضغوطات الذاكرة , يتسرب على ذهنك إحساس باليقين ثلاث مرات وأنت تحس بأن الوقت مضطرب , تسلسل الأمور اضطرب وتخلخل , وحين هدأ المحيط من حولك وفي غرفتك الباردة , جلست تتأمل هذه المدينة وتلمع الفكرة في رأسك في كل مرة كنت تظنها شكاً لا أكثر , وإضافة إلى سعيك الجهيد ومشاويرك التي لا تنتهي كان اليقين كسراب بعيد , أما الآن فأصبح حقيقة : أنت لا تعرف أين يذهب الوقت , أنت تضيع في كل يوم ساعة من الساعات الأربع والعشرين أولا تعرف أين تمضيها.. وإن حاولت البحث عنها فستجد كل الحسابات منطقية مثلاً اليوم نزلت في السادسة وانتهت الندوة الأدبية في الثامنة عدت في التاسعة والنصف والمفروض أن أعود في الثامنة والنصف هذا كان تفكيرك الذي سبقه , إحساسك بالذهول زاد حيث نظرت إلى ساعتك في الحافلة حتى وبعد أن تأكدت من الزمن من جارك القريب , غريب أمرك أيها الوقت....... أفقدت الإحساس بالزمن بالرغم من أنك متقد الحواس وسط المدينة وإن سهوت لحظة واحدة فسيكون الخطأ جسيماً وقد يتحول إلى مشكلة أو حادث أليم هي ساعة تضيع أم العمر بأسره يضيع ذلك ما لم يستطع العقل إدراكه .

لهاث ولهاث وتضيق النفس وأنت لا تعرف السبيل , مسرعاً تمشي عابراً أمواجاً بشرية لها أشكال وأجسام وتصرفات مختلفة , تساير هذا وتهمل ذاك وتتحاشى آخر ..
ـ إن المشي وسط المدينة أصبح مكلفاً جداً , لو يعرف الناس أي جهنم يعيشون فيه لم يكن صدرك يضيق سابقاً وها هي كل شهقة تدخل صدرك كخنجر مثلم , الحذاء يثن تحت وطأة سيري العجل , وأسمعه يشكو ويتألم ويقول : وما ذنبي أنا إن كان لك كل تلك المهام المتباعدة الأقطاب فابتسم له , ذنبك أنك صمت حين نظرت فيك ولمعت لمعاناً عجيباً وصحت بي فجأة اشتريني . اشتريني , فتحمل العبء معي أنا أحملك وأنت تحملني ,
أذكر شكله وسخاً مضرجاً بالغبار حين كنت أتمشى خلف القرية بجانب سكة القطار والسكة تشق الفيافي وتمتد إلى البعيد ولا يتعب البصر من امتدادها أمامك إلى البعيد يا له من منظر يقسم الأرض شطرين , السهول الخضراء الممتدة تريك اتساع هذه الدنيا وجمالها كل شيء ينطق فيها ويتهامس معك بروية وهدوء , هواء نقي لطيف تحمله النسمات العليلة إليك , هدوء هادئ إلا من زقزقة عصفور أو تحرك حيوان قريب وينعش شعورك بالإحساس بالهدوء بعدها , ألوان الطبيعة الأصلية الهادئة تشعرك بالراحة وينقلب قلق المدينة إلى سكينة , فتهمس بعد شهيق عميق ياالله يا بديع السموات والأرض , لكن هذا الإحساس يمتد لفترة وجيزة في السماء تسافر غمامات صغيرة تمنح فكرك تأملاً خاصاً بإيحاءاتها بأشكالها التي قد يراها غيرك وكأن هذا الكون لك وحدك فتسلم لخيالك العنان وها هو ما تتخيله يصبح حقيقة أحياناً ويأخذ شكلاً آخر أحياناً أخرى , أ أنت تراه هكذا أم هو يقرأ أفكارك وتحتار في الأمور حيرة جميلة .

واللوحة الأخيرة التي ترسمها شمس الأصيل هي عند الغروب ساعة هبوطها إلى ما وراء الأفق الذي لا يمنعك شيء من الوصل إليه , تتسرب الأشرطة لبرتقالية وتتماوج في زخرفة بديعة على صفحة السماء وتكتسب توهجاً كانعكاس حريق هائل , يبعث في النفس ما يبعث , وهو يختلط بزرقة السماء وانعكاسات المروج الخضراء وآلاف من الألوان المختلفة الدرجات الهادئة المحيى , متشربة بنظرات المتأملين وقبل أن يبدأ وحش الليل بالتهام المساحات والأراضي وهو يلاحق تلك الظبية الذهبية اللامعة الهاربة التي تجر خلفها ذيول لباسها الأصفر على السهول والفيافي , يقف الإنسان مبهوتاً وقد اعتمل في النفس ما اعتمل وتوهجت أرجائه كتوهج خراف السحب المسافرة........ إلى أين تسافرين أيها السحابات... أم بقي من العمر إلا القليل وأشعر بتسرب كل شيء من يدي .. لا شيء يبقى .. لا شيء يبقى آه . . . كم أشتاق إليك أيتها الباقية .
حلب 2001

طارق حقي