التسرع فى استنتاجات حول مواقف ترامب فيما يتعلق بسياسته الخارجية لا يبدو منطقيا



تستند أمريكا فى قيامها واستمرارها إلى ما يعرف بأغلبية الواسب wasp، وهو ما يعنى البيض الأنجلو ساكسون البروتستانت، ونحن نعرف أن أمريكا ظلت حتى حركة حقوق الإنسان التى قادها «مارتن لوثر كينج» فى مطلع الستينيات تحمل وجها عنصريا لا يعترف للسود بحقوق متساوية لتلك النخبة التى تحكم أمريكا، عبر فوز ترامب عن مخاطبته لتلك النخبة بأنها خلال عقود ثلاثة ستفقد الأغلبية وتفقد القدرة على السيطرة على البلاد فى أمريكا، وهذا يفسر لماذا صوتت الولايات البيضاء التى عادة ما كانت تصوت للديمقراطيين، لترامب، مثل ولاية فلوريدا وبنسلفانيا وويسكنسن، ومن ثم فإن خطابه ضد المهاجرين والمسلمين والأقليات بشكل واضح كان موجها للعرق الأبيض فى أمريكا الذى يشعر بالتهديد من فقدانه للأغلبية لحساب الملونين.

لايزال المجتمع الأمريكى بسماته البروتستانتية البيضاء يعتقد أنه لا يمكن لسيدة أن تصل إلى البيت الأبيض، ومن ثم فقد كان «ترامب» بالنسبة له يمثل الخيار الأفضل كرجل مغامر يستخدم لهجة اقتحامية شعبوية غير مراوغة لا تعرف النفاق، كما أنه مثل بالنسبة للطبقات العمالية وحتى الطبقة الوسطى البيضاء تجسيدا للحلم الأمريكى الذى عبر عنه بنجاحه كرجل أعمال، وتلك هى المفارقة، أن العمال وسكان القرى والطبقة الوسطى والفئات المحافظة والمتدينة صوتت لرجل غنى جدا يسكن قصرا شاسعا ولديه طائرته الخاصة ويعد مليارديرا، لقد أيقظ داخل تلك الفئات حلم الإمكانية أن تكون مثله، وإن لم تكن مثله فعلى الأقل فإنه يجسد حلما يتحقق على أرض أمريكا التى لاتزال الأحلام ممكنة التحقيق فيها.

النخب الإعلامية والمثقفة والفنانون وعالم الميديا وهوليوود منحازون بالضرورة للقيم الديمقراطية التى تقوم على الانفتاح والإبداع والعلاقات الحرة والمفتوحة وقيم المساواة، وهو ما جعلهم يخرجون مشهد ما قبل الانتخابات وكأن كلينتون هى التى ستفوز، كما ذهبت أغلب استطلاعات الرأى، بيد أن الفئات الشعبوية البيضاء والعمال والفقراء والطبقة الوسطى البيضاء كانت قد قررت دون أن تعلن أنها ستصوت لترامب، لأنه تحدث عن «أمريكا قوية»، أن «خير أمريكا لها»، «أمريكا أولا»، «فرض قوانين حمائية لصالح رجال الأعمال والصناعة والعمال الأمريكيين»، و«منع الهجرة وبناء حائط يحول دون قدوم المكسيكيين إلى أمريكا»، وأن «السياسات الديمقراطية التى أنهكت الطبقات الوسطى عليها أن تتغير لصالح تلك الفئات».

الديمقراطية تعنى التغيير وعدم البقاء فى الحكم طويلا، ومزاج الشعوب يميل للتغيير، والناس قد ضاقوا ذرعا بسياسات أوباما الديمقراطية التى استمرت ثمانى سنوات وكانت كلينتون تعنى استمرار تلك السياسات خاصة مع دعم الرئيس غير المحدود وزوجته لها، ومن ثم سعى الناس لانتخاب ترامب ليجربوا لونا سياسيا جديدا، صحيح هو شعبوى، لكن الناس أيضا ضاقت بخطابات النخبة وسعت للاقتناع بالشعبوية المغامرة العاطفية والتلقائية والحاسمة، كما أن الجمهوريين سعوا فى النهاية للتكتل خلف مرشحهم رغم أنهم كانوا قد ضاقوا به فى بداية ترشحه وحملاته الانتخابية بسبب تصريحاته غير المتحسبة عن المرأة وعن المسلمين على وجه الخصوص.

التسرع فى استنتاجات حول مواقف ترامب فيما يتعلق بسياسته الخارجية لا يبدو منطقيا، ذلك أنه إذا كان لديه الحرية والقدرة فى العمل داخل بلاده فإن السياسة الخارجية ورسمها لا يتعلق بإرادة الرئيس وعقيدته وحدها، هى لها تأثير بلا شك، بيد أن السياسات العليا ومنطق الجغرافيا والتاريخ والمصالح القومية هى الحاكم فى رسم السياسة الخارجية لرئيس أكبر دولة فى العالم، ومن ثم فإن تصريحات ترامب حول بوتين وروسيا أو حول دول الخليج أو حول الاتفاق النووى فى إيران أو حول داعش، أو حول قيام الدول التى يوجد لأمريكا بها قواعد عسكرية وتعد جزءًا من تحالفها الاستراتيجى فى آسيا مثل كوريا الجنوبية واليابان، هى بمسؤولية الدفاع عن نفسها وسحب أمريكا قواعدها العسكرية من هناك، تبدو تصريحات انتخابية وإمكان تحقيقها فى الواقع لا يبدو ممكنا، نحن أمام حالة جديدة لاتزال لم يتم اختبارها بعد، ومن المؤكد أن الإلمام بقيود السياسة الخارجية على وجه الخصوص ستجعل ترامب أقل اندفاعا وأكثر تعقلا مما يخيفنا منه الآن.

اليوم السابع