يعود اهتمامنا بجورج مقدسي (1920-2002) إلى أهميته في مجال الدراسات الإسلامية التي كتبت باللغة الإنجليزية، فقد وهب حياته كلها للبحث في تاريخ الفقه والتعليم في البلاد الإسلامية في العصور الوسطى. وكان قد اشتغل بالتدريس بصفته أستاذاً للغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك لم يركّز على تاريخ الفكر الإسلامي وحده، بل اعتمد مقاربة عابرة للثقافات لمقارنة تطور النظام التعليمي في الإسلام الوسيط بمقابله في الغرب المسيحي.أفاد مقدسي القارئ العربي من خلال عدّة كتب حققها للفقيه الحنبلي ابن عقيل (ت513هـ) منها كتاب "الجدل على طريقة الفقهاء"، طبع سنة 1967، وكتاب "الفنون"، طبع في بيروت سنة 1970-1971، و"أربع رسائل في القرآن وإثبات الحرف والصوت ردّاً على الأشاعرة"، وكتاب "الواضح في أصول الفقه" الذي ظهرت الطبعة الأولى منه خلال سنة 1996.وقد اهتمّ بالقضايا الفقهية والأصولية في عدد من كتبه ومقالاته، منها مقالة حول الجوانب الفقهية والكلامية عند الشافعي من خلال منظومته الأصولية[1]، وقد ارتأينا التركيز على هذا المقال لتفكيك عناصر مقاربة جورج مقدسي لرؤية الشافعي الأصولية وصلتها بعلم الكلام.يرى مقدسي أنّ هناك بعض المشاكل المتّصلة بتاريخ التشريع الإسلامي، وهو علم وصلنا من خلال مسمّى أصول الفقه، ويعني حرفياً مصادر الفقه، وهذه المشاكل تتعلق بنشأته وتسميته والعناصر المكونة له وغايته. وتقترن أسماء الكثير من علماء الفقه بجذور هذا العلم.ولا يمكن تقديم تاريخ دقيق لتأسيس هذا العلم في ضوء المعطيات المتوفرة حالياً. والتسمية المعطاة لهذا العلم تنتمي إلى فترة بالرغم من أنّه لا يمكن تحديدها بدقّة فإنّها أكثر تأخّراً من أوّل أثر أصولي. وقد يكون الفارق الزمني بين التسمية وأوّل أثر أكثر من قرنين.وتختلف الكتب المصنّفة في أصول الفقه اختلافاً مهمّاً منهجاً ومحتوى. والمؤلّفون القدامى لهذه الكتب منقسمون حول مادّة العناصر المكوّنة لكتبهم، أمّا العلماء المعاصرون فإنّهم مختلفون حول غاية هذا العلم.حاول الباحث أن يجيب عن هذه المشاكل، وهي أجوبة تظلّ مؤقتة ومعلّقة في انتظار دراسة أكثر عمقاً، ذكر الباحث أنّه بصدد إنجازها.مؤسّس علم الأصول وتاريخ التأسيسيبدو أنّ ميلاد أصول الفقه باعتباره علماً للتشريع الإسلامي قد حدث قبل وفاة عبد الرحمن بن مهدي سنة 198هـ (813-814م). ويُروى أنّ ابن مهدي أرسل إلى الشافعي يطلب منه أن يؤلّف كتاباً فيه "معاني القرآن ويجمع مقبول الأخبار فيه وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنّة، فوضع له كتاب الرسالة"2، ويُروى أنّ رسالة الشافعي كتبت استجابة لهذا الطلب، ويذكر الفقيه الذي سلّم رسالة الشافعي إلى ابن مهدي هو الحارث بن سريج النقال (ت. 236هـ/850م).وتورد روايات المذاهب الشافعية والحنبلية والمالكية بالخصوص أنّ الشافعي مؤسس علم أصول الفقه في حين ينقل أنّ فقهاء آخرين يذكرون إمّا باعتبارهم أسّسوا هذا العلم أو باعتبارهم كتبوا فيه ومنهم ابن لهيعة (ت. 174هـ/790م) وأبو يوسف (182هـ/798) والشيباني (ت. 189هـ/805م).ويذكر الخطيب البغدادي (ت. 463/1071) أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة باعتباره أوّل من كتب في أصول الفقه باعتماد مذهب أبي حنيفة، يقول: "هو أوّل من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة"3.ويذكر ابن النديم (377/987) الشيباني تلميذ أبي حنيفة وأبي يوسف باعتباره كتب كتاباً في أصول الفقه4.ويذكر السبكي أبا يحيى الساجي (ت 307هـ/919م) باعتبار أنّ "له مصنّفاً في الفقه والخلافيات سمّاه أصول الفقه استوعب فيه الفقه، وذكر أنّه اختصره من كتابه الكبير في الخلافيات، وهو عندي في مجلّد ضخم".5وعندما ذكر غولدزيهر (Goldziher) الشافعي باعتباره مؤسس علم أصول الفقه نبّه في إحدى إحالاته على أنّ الثوري ذكر أنّ ابن لهيعة ماهر في الأصول، وأنّه هو ماهر في الفروع6. ونجد لدى ابن العماد الخبر الأصلي المروي عن الثوري وهو "عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع"7.تسمية أصول الفقهرغم أنّ المسألة التي تخصّ مؤسّس العلم الجديد لا يمكن أن تحلّ على قاعدة وحيدة هي استخدام مصطلح أصول الفقه، فقد أسّس هذا العلم قبل ظهور اسمه بفترة طويلة.ففي حياة الشافعي وبعد ذلك بفترة تتراوح بين القرن ونصف القرن والقرنين كان لفظ أصول مستخدماً بالمعنى نفسه الذي منح في وقت متأخّر للفظ الفروع.من ذلك أنّه حتى عهد متأخر هو الربع الأخير من القرن الرابع للهجرة يذكر ابن النديم آثار أبي يوسف مستخدماً العبارات التالية: "لأبي يوسف من الكتب في الأصول والأمالي: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة"8، ومن الواضح في هذه الحالة أنّ لفظ أصول مستخدم بمعنى ما أضحى يُسمّى فروع الفقه.ويضيف ابن النديم: "وممّن روى عن أبي يوسف مُعلّى، روى عنه فقهه وأصوله وكتبه. وهنا أيضاً استخدم مصطلح أصول بمعنى المبادئ والعناصر وقواعد الفقه9.وحين يوجد لفظ أصول أو أصول الفقه في عنوان نسبه كاتب تراجم متأخّر إلى كتاب مؤلّف متقدّم (مبكّر) من القرن الثالث أو القرن الرابع، فإنّه لا يمكن التأكّد من أنّ العنوان خالٍ من المفارقة التاريخية، لكن حتى وإن لم يكن فيه مفارقة فإنّه يمكن أن يعني ببساطة أنّ الكتاب المعني يتطرّق بشكل استثنائي إلى الفروع أو إلى القرآن أو السنّة أو الإجماع أو القياس، أي يتطرّق إلى واحد أو أكثر من مصادر التشريع لا إلى التشريع باعتباره علماً مكتمل التكوين.وما يمكن استخلاصه من خلال الآثار المتوفّرة في الموضوع أنّ عنوان أصول الفقه لم يبدأ في الدلالة - بشكل لا لبس فيه- على العلم المعروف إلا في أواخر القرن الرابع وبداية القرن الخامس.وتتضمّن آثار هذه الفترة في أغلب الأحوال - وحتى وقت متأخّر وإلى العصور الحديثة- تفسيراً للفظي أصول وفقه بشكل منفصل، ثم يتبع ذلك شرح اللفظين مجتمعين. ومن اللافت للنظر أنّ الإلحاح على تفسير اللفظين كان قد ظهر بعد قرنين من كتابة الشافعي رسالته التي مثلت مدخلاً لهذا العلم الجديد.وهذا التفسير كان ضرورياً للتمييز بين علم الفقه وعلم أصول الفقه ووضع الحدّ للاستخدام الباعث على الالتباس لهذا اللفظ في معنى العناصر أو المبادئ الفقهية.ومن الدّال أيضاً أنّ عبارة أصول الفقه لم يستخدمها الشافعي أبداً عنواناً لأثر من آثاره، كما لم يستعملها إطلاقاً في ثنايا النصوص التي تكون أعماله.وحتى عنوان الرّسالة، فقد أضيف عليها في وقت مبكّر، وهو يحيل فقط إلى أنّها كتبت ردّاً على طلب ابن مهدي. وفي كلّ الأحوال فإنّ علم أصول الفقه مثلما نعرفه منذ كتاب الشافعي كان موجوداً قبل استقرار دلالة لفظي أصول وفقه، كما أنّ المؤلّفات كتبت قبل أن يتطرق الشافعي إلى أحد المصادر التشريعية الأساسية 10.محتويات علم أصول الفقه وغايتهذكر فخر الدين الرازي (ت. 606/1209) أنّ علماء الفقه قبل الشافعي كانوا قد تطرّقوا إلى مسائل أصول الفقه إلا أنّهم لم تكن لهم مبادئ عامّة يتّبعونها إزاء هذه المسائل، وهذا ما حاول الشافعي أن يقوم به، ولذلك فإنّه في علم الأصول شبيه بأرسطو في علم المنطق.اهتمّ عالمان بارزان بمساهمة الشافعي وهما غولدزيهر وشاخت.وقد استخلص غولدزيهر من بحوثه أنّ القياس أصبح عاملاً من عوامل التشريع لا يمكن إلغاؤه بين مصادر التشريع بسبب المجهود الذي بذله أبو حنيفة وقوّة الظّروف. ولم تكن نيّة الشافعي أن يقوم بمثل هذا العمل، وحتى إن رغب في ذلك فإنّه لم يكن قادراً على إنهاء أيّ شيء على غرار المحاولات السطحية لأتباع مدرسته المتأخّرين. وما كان يستطيع أن يفعله هو أن يروّض تطبيق المصدر الجديد (القياس) دون أن يقلّص ضوابط النصّ والحديث ويحدّد التطبيق الحرّ والاعتباطي للقياس من خلال قواعد فقهية مع احترام استخدامه 11. وكان هذا هدف علم أصول الفقه ونتيجته في الآن نفسه12. ولم تكن رسالة الشافعي قد طبعت بعد عندما نشر غولدزيهر كتابه سنة188413.يواصل غولدزيهر قائلاً إنّه لو وصلتنا رسالة الشافعي التي يبرّر فيها العلم الجديد الذي يعتبر أمراً ثورياً في التشريع الإسلامي لكان الباحثون في تاريخ الفكر الإسلامي قادرين على التحديد الدقيق لموقف الشافعي في الجدال السنّي ضدّ شرعية القياس.كان غولدزيهر منشغلاً بلفت الانتباه إلى نظرية الشافعي الأصولية التي تدافع عن استخدام الأحاديث في الفقه. كما أبرز اهتمام الشافعي الموازي ببقية المصادر، بما فيها القياس، وإثر ذلك أظهر كيف أنّ مؤسس المدرسة الظاهرية داود بن علي وهو تلميذ الشافعي الذي تجاوز كلّ نوايا أستاذه وأنكر إنكاراً تاماً مشروعية الرأي والقياس14.إذن فإنّ اهتمام غولدزيهر بآثار الشافعي يتأتّى من اهتمام مباشر أكثر من كونه مركزيّاً بالنسبة إلى دراسته للمدرسة الظاهرية في التشريع. ففي كتابه الذي يظلّ إلى يومنا هذا أثراً أساسياً في دراسة التشريع الإسلامي كان هدف غولدزيهر إبراز الموقف الظاهري باعتباره ممثّلاً للجانب المتطرّف في الفكر السنّي المتولّد عن المذهب الشافعي.وعلى الرغم من وصف الشافعي باعتباره "ناصر أهل السنّة" فإنّ موقفه في صلته بالموقف المتطرّف لتلميذه داود (مؤسّس المذهب الظاهري) يوصف على النقيض من ذلك بأنّه معتدل ووسطي، 15 ونتيجة ذلك وصل إلى علم غولدزيهر وجود مخطوطين من رسالة الشافعي محفوظين في دار الكتب الوطنية بالقاهرة16.وإذا كان غولدزيهر لم يتبع غاية الشافعي من العلم الجديد الثوري بالنسبة إلى التشريع الإسلامي فإنّ ذلك علامة على الطبيعة الثانوية لاهتمامه بالشافعي ونظريته، باعتبارها نقطة انطلاق للمذهب الظاهري الذي تطوّر إلى مذهب سنّي متطرّف.ينتقل جورج مقدسي بعد ذلك إلى بحث موقف شاخت من الشافعي، فقد صدر كتاب يوسف شاخت "أصول التشريع المحمدي" «The origins of muhammadan jurisprudence» بعد ظهور طبعتين من رسالة الشافعي، وقد تركّز على أثره الأخير فحاول تحليله بشكل مفصّل. وهذا الكتاب ليس أقلّ مركزيّة من كتاب غولدزيهر. وهو يأتي ليؤكّد أطروحات غولدزيهر، وليذهب أبعد منها لإنجاز ما كان يأمل غولدزيهر أن يكون قد وقع القيام به عندما يكتشف أثر الشافعي ويطبع.ويقدّم شاخت الآثار الشخصية للشافعي في المجال الفقهي باعتبارها تمثل في المقام الأول تطويراً لنظرية جديدة في التأويل مطبقة على المصدرين الأساسيّين للقانون الموحى به: القرآن والسنّة النبويّة17.وتمثّل على صعيد ثانٍ المطابقة شبه الكاملة بين السنّة والأحاديث التي ستصبح في زمن لاحق جزءاً من النظرية الأصولية التقليدية18. وتخبر في مستوى ثالث عن ترتيب مصادر التشريع الأربعة وإدماج الإجماع والقياس ضمنها.وفي الدراسة الحالية يقترح الباحث التطرّق إلى ما يعتبره الحافز الأساسي للشافعي في كتابة الرسالة. ويأمل أن يظهر أنّ الشافعي برفعه السنّة النبوية إلى منزلة القرآن وتحديد استخدام القياس داخل حدود معيّنة كان يبتغي إنشاء علم ـ لصالح الفكر السنّي- يمكن أن يستخدمه ضديداً لعلم الكلام، وهو علم كان قد أسّس قبل ذلك واقترن بالمعتزلة العقلانيين الذين يسمّيهم أهل الكلام ويعتبرهم خصومه.اختار الرازي اللفظ الصحيح ليعني به العلم الذي أسّسه الشافعي وهو "علم الشرع"، وقد وضع له مقابلاً هو علم العقل الذي بالرغم من اقترانه بأرسطو، فإنّه كذلك من علامات المعتزلة وأهل الكلام الذين قاربوا المسائل الكلامية ونادوا بأولوية العقل.وكان همّ المعتزلة الذين تسربوا في وقت لاحق إلى علم أصول الفقه هو إبراز أنّ العقل والوحي لا يتعارضان. وفي القرن الخامس للهجرة/ الحادي عشر للميلاد نجد هذا مقرّراً بوضوح في أكثر من مناسبة في كتاب "الفنون" لابن عقيل الذي كان نتاج جمع بين المنزع العقلي والميل السنّي. وقد ظلّ ذلك إلى وقت متأخّر، ففي القرن الثالث عشر للميلاد نجد الجملة نفسها مذكورة بوضوح في كتاب St. Thomas Aquinas’s summa contra Gentile19.ويواجه دارس أصول الفقه ظاهرة تصدم، هي المسافة الزمنية الكبيرة بين ظهور الرسالة وأوّل أثر مستقل ومفهوم وصلنا في موضوع الرسالة أصول الفقه.ويعتبر مقدسي أنّه ليس لنا إلا معرفة قليلة أو غير محدّدة بتطوّر هذا العلم لمدّة قرنين أو أكثر بعد الشافعي. والقليل الذي نعلمه ينبغي أن يجمع من الآثار المتوفّرة التي أحال فيها المؤلّفون إلى الكتب المتقدّمة.وقد قدّم كاتبان متأخّران قائمتين مطوّلتين تضمّان مصادر أصولية للسابقين (السبكي والزركشي)، وتبدأ القائمتان برسالة الشافعي وتتبعها شروحها. وقد كانت خمسة شروح معروفة للأجيال المتأخّرة، لكن لا يوجد أيّ منها الآن. وأوّل شرح ظهر بعد أكثر من قرن إثر وفاة الشافعي، والشرح الأخير ظهر بعد أكثر من قرنين20.وأوّل الآثار الأصولية المستقلّة والشاملة في هاتين القائمتين تعود إلى كُتّاب ماتوا في بداية القرن الخامس للهجرة أي بعد قرنين من وفاة الشافعي.ونعرف على كلّ حال أنّ الكثير من المؤلّفين عالجوا مسائل من أصول الفقه في القرنين الثالث والرابع للهجرة/التاسع والعاشر للميلاد، وقد ذكر العدد الكبير منهم في آثار متأخّرة مثل "المُسودّة في أصول الفقه" لابن تيمية ووالده وجدّه، وقد بيّض هذه المسودّة تلميذ لابن تيمية. وكلّ المؤلفين الثلاثة أنجزوا جذاذاتهم حول الموضوع لكن ماتوا وتركوا مساهمتهم في شكل مسودّة. وقد ذكروا الكثير من المؤلّفين من بين معاصري الشافعي وإلى حدّ القرن الخامس للهجرة/الحادي عشر للميلاد.كان هناك الكثير من الكتّاب في أصول الفقه ومن بينهم متكلّمون معتزلة وأشاعرة ممّن كانت كتبهم أو أفكارهم متوفّرة للكتّاب الثلاثة للمسودّة سواء بشكل مباشر أو عبر ما يقوله مؤلّفون متأخّرون.وتظهر القراءة المتمعّنة لأغلب الآثار الأصولية المتوفّرة لدينا من القرن الخامس وما بعده أنّها انحرفت بشكل كامل عن الطريق التي اتبعها الشافعي في رسالته. وتبرز إحالات "المسوّدة" إلى الكتاب المبكّرين أنّ الانحراف (العدول) كان قد بدأ في زمن الشافعي، لكن ما طبيعة هذا الانحراف؟لا تتطرّق رسالة الشافعي إلى أيّة مسألة كلامية أو فلسفية. ومن خلال كلّ الرسالة ظلّ محافظاً على مقاربة المسائل داخل حدود مجال الفقه الصارمة. وعلى هذا الأساس فإنّ فروع الفقه أو المنهجية الأصولية تستمدّ مصادرها من النصوص المقدّسة.ومن جهة أخرى فإنّ أول أثرين أصوليين شاملين يقدّمان باعتبارهما ضمن علم أصول الفقه في منعرج القرن الخامس كتبهما متكلّمان، ومع ذلك فلا يوجد أيّ منهما. وقد وصف أحدهما بدقّة من طرف شارحه ممّا لا يترك أيّ شكّ في أنّه يعالج أدقّ المسائل في علم الكلام وكاتبه هو القاضي المعتزلي المشهور عبد الجبّار (ت 415 هـ).وقد كتب أبو الحسين البصري (ت 436 هـ) صاحب "المعتمد في أصول الفقه" شرحاً لكتاب "العمد" للقاضي عبد الجبار21. وهذا الشرح على غرار الكتاب الأصلي غير موجود، لكنّ البصري في مقدّمة المعتمد يقدّم المعطيات التالية حول خصائص كتاب العمد للقاضي عبد الجبّار22، غير أنّ أغلب كتب أصول الفقه تطرّقت في الواقع إلى مسائل لا تُعدّ ضمن حقل أصول الفقه، بل تنتمي إلى مجال الكلام والفلسفة الشرعية وتنتمي المسائل التالية إلى هذين الحقلين: (1) التحسين والتقبيح (2) العقل والشرع (3) حكم الأفعال قبل ورود الشرع (4) الحظر والإباحة (5) تكليف ما لا يطاق (6) مسألة المعدوم. ولا توجد أيّة مسألة من هذه المسائل في رسالة الشافعي.أظهر شاخت أنّ الشافعي لا يناقش مسألة الحظر والإباحة التي يهتمّ بها الفلاسفة، ولكنّه يناقش العلاقة بين الأصناف المسموح بها والمحرّمة. ويبرز شاخت أنّ الشافعي كان ينطلق أساساً من الفقه23.سيعود الباحث إلى هذه المسألة المتّصلة بالفلسفة التشريعية، لأنّه يعتقد أنّها وفّرت للمعتزلة أحد مجالات النفاذ إلى حقل أصول الفقه. وقد تطرّق الغزالي طويلاً إلى مظاهر نفاذ العلوم الأخرى في مجال أصول الفقه. وقد ذكر في مقدّمة "المستصفى" أنّ الكثير من الآثار الأصولية مليء بالفقه والكلام والنحو حسب الاهتمام الخاص للكاتب، والغزالي نفسه بدأ بمقدّمة من علم المنطق التي نبّه فيها إلى إمكانية الاستغناء عنها والبدء بقراءة أوّل الكتب في "المستصفى". يتساءل مقدسي عن سبب هذا التغيير في طابع أصول الفقه على النحو الذي تشكلت عليه على يد الشافعي؟كان هذا العلم في البداية تقليدياً محضاً لا يتوفّر على أيّ مبحث فلسفي أو كلامي، لكنّه منذ مطلع القرن الخامس للهجرة أدمجت فيه المباحث التي تنتمي بشكل خاص إلى الكلام وأصبح يحرّر مصادر هذا العلم المتكلّمون من أعضاء الحركة التي كان الشافعي ينفر منها "ما من شيء أبغض عليّ من الكلام وأهله".24وللإجابة عن السؤال السابق يجب أن نبحث في تاريخ القرون الفاصلة بين رسالة الشافعي ومصادر القرن الخامس للهجرة أي القرن الثالث والرابع والخامس، فكلّ قرن يحمل الحدث المهمّ الخاص به. فهناك المحنة ثم الانسلاخ ثم إعلان العقيدة، وهي ثلاث علامات متميّزة في تاريخ الدّين الإسلامي.ثلاث محطات حاسمة في ثلاثة قرون (الثالث والرابع والخامس)- المحنة: بدأت المحنة في عهد المأمون، وتواصلت في عهود المعتصم والواثق والمتوكّل، أي أنّها دامت زهاء 15 سنة من 218 إلى 233هـ (833-848م)، وعندما انتهت في السنة الثانية من خلافة المتوكّل كانت نهايتها على حساب المعتزلة.وفي نهاية الثلث الأوّل من هذا القرن الموافق لمنتصف القرن التاسع للميلاد خرجت حركة أهل الحديث منتصرة على المعتزلة تحت راية بطل المحنة أحمد بن حنبل حسب عبارة جورج مقدسي، وهو وإن كان يعتبر الشافعي وآثاره انتصاراً على الحركة العقلية في زمنه فإنّ أحمد بن حنبل هو الذي ألحق الهزيمة الثانية بذوي النزعة العقلية. وبين الهزيمتين سعت المعتزلة بكلّ قوّتها إلى سحق المقاومة العنيدة للسنّيّين، وكان للمعتزلة في هذه الفترة مساندة السلطة السياسية ممثلة في الخلفاء الثلاثة.وعندما جاء المتوكّل اعتبر الحركة الاعتزالية قضية خاسرة لذلك انحاز إلى خصومها بشكل انتهازي. وهكذا انتهت المعتزلة في الحقل السياسي، لكنها ظلّت بعيدة عن الانتهاء فكرياً، فما زالت لها أسلحتها العقلية.- الانسلاخ: انسلخ الأشعري عن المعتزلة والتحق بصفوف أهل السنّة، ففي كتاب "الإبانة" الذي قيل إنّه آخر كتبه وضع نفسه تحت راية "أحمد بن حنبل"، وقد استخدم الأشعري في وقت متأخّر من طرف أتباعه للدّفاع عنه باعتباره حجّة على عقيدته السنّيّة ضدّ من يتّهمونه بأنّه ذو نزعة عقلية. وكان انسلاخ الأشعري انتصاراً آخر للفكر السنّي. وقد خزّنت انتصارات أخرى لأهل السنّة في هذا القرن، من ذلك على سبيل المثال: محاولة "ابن شنبوذ" الذي كانت له قراءة شاذّة للقرآن كادت تكلّفه حياته، وقد اضطرّ إلى التوقيع على بيان يعلن فيه توبته عمّا كان يقوم به25.وقد شهد القرن الرابع للهجرة انتشار الفقه الشافعي عبر العالم الإسلامي. وهو أيضاً قرن تطوّر أصول الفقه على قاعدة التطوّر الكامل لفنّ المناظرة26.وقد أبرز شاخت الأهمية التي أولاها الشافعي للحديث عندما جعله مرادفاً للسنّة، وطوّر الشافعي الفقه انطلاقاً من الحديث عبر خطوط تميّزه عن مسار تطوّر فقه أبي حنيفة وأتباع المذهب الحنفي. إنّ تطوّر الفقه حفزه إدخال الجدل لمقاربة المسائل الخلافية وهو ما ارتقى بالخلاف الفقهي إلى فن. وفي مجال التشريع أصبحت ألفاظ العلم والمعرفة والتعلّم مرادفة للفقه والدراسات الفقهية عموماً.وعندما كتب الشيرازي الفقيه الشافعي في القرن الخامس للهجرة كتابه الموسوم بـ"طبقات الفقهاء" كان هدفه المعلن إبراز خطوط السلطة في مجال الفقه، وقد فعل ذلك من خلال رسم انتقال المعرفة السلطوية من النبي نفسه إلى كتّاب عصره. وقد حاول أن يبرز سلاسل السلطة والإسناد عبر الأجيال للتأكيد على أنّ الحديث والفقه وليس الكلام أو الفلسفة لهما أصول تعود إلى النبي، كما سعى إلى توضيح أنّ الشافعي هو ناصر السنّة النبويّة وليس أبا حنيفة.ويروي الشيرازي طرفتين تتضمنان رؤيا يشاهد فيها النبي، ويسأل إن كان الأجدر بالاتباع رأي أبي حنيفة أو الشافعي، وهو يأمر باتباع رأي أبي حنيفة إن كان موافقاً للسنّة، واتّباع مذهب الشافعي لأنّه ليس رأي ولكنّه مطابق للسنّة رافض لمن وقف ضدّها27، غير أنّ القرن الرابع للهجرة/ العاشر للميلاد شهد أيضاً ظهور حركة جديدة عقلية هي "الأشعرية"، وهي حركة تتصف بالوسطية، على خلاف التطرّف الاعتزالي حسب مقدسي.وكان من الضروري لهذه الحركة الكلامية لكي تكتسب مشروعيتها أن تنخرط ضمن مذهب فقهي، وكانت المعتزلة قد تسرّبت إلى المدرسة الحنفية، وأصبح واضحاً عن طريق نظام إقصائي أنّ المكان الوحيد الذي بقي شاغراً للأشاعرة الجدد هو المذهب الشافعي، وتوجد أدلّة على أنّ المعتزلة كانوا يأملون في أن يكون لهم موطئ قدم في المذهب الشافعي، 28 وبالمثل كان الأشاعرة يأملون في أن يكون لهم موطىء قدم في المذهب الحنفي، ولكنّ الجمع بين الأمرين كان نادراً، مثلما نرى في حالة القاضي عبد الجبّار الشافعي المعتزلي، وفي الحالة النادرة لأبي جعفر السمناني (ت. 444هـ)، وهو حنفي أشعري.إعلان العقيدةفي بداية القرن الخامس للهجرة وصلت الأمور إلى الذروة من خلال إعلان الخليفة القادر (ت. 422) العقيدة السنيّة المعروفة بالاعتقاد القادري الذي يدين كلّ انحراف عن التعاليم السنيّة، وقد روى السيوطي في كتابه الموسوم بـ"تاريخ الخلفاء" قول الذهبي إنّه في هذه الفترة كان رأس الأشاعرة هو أبو إسحاق الإسفراييني (ت. 418هـ)، ورأس المعتزلة القاضي، ورأس الرافضة الشيخ المفيد، ورأس الكرامية محمد بن هيضم (Haidam)، ورأس قرّاء القرآن أبو الحسن الحمامي (ت. 417)، ورأس المحدّثين عبد الغني بن سعيد (ت. 409)، ورأس المتصوّفة أبو عبد الرحمن السلمي (ت. 412)، ورأس الشعراء أبو عمرو بن درّاج، ورأس الخطّاطين ابن البوّاب (ت. 413)، ورأس السلاطين محمود بن سبكتكين (ت. 421)29.وأهمّ ما يلفت الانتباه في هذه القائمة غياب العلوم الفقهية: الفقه وأصول الفقه. ولم يُذكر المجالان أيضاً في القائمة التكميلية للسيوطي التي تتضمن "رأس الزنادقة" الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (ت. 411)، ورأس اللغويين الجوهري (ت. 398)، ورأس النحويين ابن جني (ت. 392)، ورأس البلاغيّين بديع الزمان الهمذاني، ورأس الخطباء ابن نُباحة (ت. 405)، ورأس مفسّري القرآن الخطيب النيسابوري (ت. 406)، ورأس الخلفاء القادر (ت. 422). وقد اعتبره ابن الصلاح فقيهاً شافعياً، وقد تطوّرت الدراسات الفقهية وانتشرت عبر المملكة شرقي الخلافة، ولم يكن باستطاعة الذهبي أن يكون غير واع بالتطوّر المأساوي.وكما ذكر فإنّ القرن الرابع كان قرن المعاهد الفقهية والقرن الذي تطوّر فيه الجدل والتعليق في الدراسات الفقهية ممّا أدّى إلى كتابة المختصرات الكبرى.وإذن شهد النصف الثاني من القرن الرابع تطور الدراسات الفقهية والمعاهد التي تدرس فيها. فكيف يمكن للذهبي كاتب تاريخ الإسلام أن يغفل عن ذكر العلماء المتزعّمين لعلمي الفقه وأصول الفقه؟ يكمن الجواب حسب ظنّ مقدسي في أنّ هؤلاء مشهورون جداً. فهو يفضّل أن يكشف انتماءهم إلى ذوي النزعة العقلية، وهو ما قد يغفل عنه إن لم يفعله في حين أنّه يودّ أن يرسم مشهداً مأسوياً لهذا الانتماء.وقد كان العلمان المذكوران في القائمة من العلماء القياديين في الفقه وأصول الفقه، لكنّ الذهبي فضّل إلقاء الضوء على صلاتهما بالأشعرية والاعتزال باعتبارهما عالمين متكلّمين عقليين، وكلاهما ينتمي إلى المذهب الشافعي.لقد كان الذهبي يعرف أنّ أبا إسحاق الإسفراييني المذكور في رأس القائمة من العلماء المتزعّمين للفقه والأصول ومن كبار الفقهاء الشافعية في عصره، وكان بإمكانه أن يذكر آخرين بدل الإسفراييني مثل أبي حامد الإسفراييني وهو سنّي شافعي (ت. 406). كان يمكن للذهبي أن يذكره في صدارة علماء الفقه والأصول لكنّه لم يذكره مطلقاً، فما سبب هذا الحذف؟ من الأكيد أنّ السبب ليس عدم معرفته به لأنّه ترجم له وذكره بكلّ احترام، وقد يكون السبب أنّ الذهبي كان مهتمّاً بذكر أحد الأشاعرة القياديين، وأبو حامد لم يكن أشعرياً. ولكن لماذا لم يختر الباقلاني (ت. 403) وفضّل عليه أبا إسحاق؟وقد كان الذهبي بلا شك واعياً للتقدير الكبير الذي يكنّه أستاذه ابن تيمية للباقلاني، فهو يقول عنه: "هو أفضل المتكلّمين المنتسبين إلى الأشعري ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده30.كان الذهبي يأمل في إبراز أنّ العلوم الفقهية في بداية القرن الخامس لم تتأثر بعلم الكلام المعتزلي فحسب بل أيضاً بالمذهب الأشعري، وقد كان الفقهاء السنيّون من بين الشافعية والحنبلية والحنفية أيضاً واعين أتمّ الوعي لهذا التطوّر الذي كان يخيفهم. وقد سرّب الكلام إلى أصول الفقه أثراً عقلياً كبيراً. وهكذا فإنّ العلم الديني الذي أسّسه الشافعي للدّفاع عن الفكر السنّي أصبح الآن مرتبطاً بالكلام العقلاني.لقد كتبت أصول الفقه حسب طريقتين: طريقة الفقهاء وطريقة المتكلّمين.إنّ دخول الكلام العقلي الفلسفي في أصول الفقه قد أخذ مكانه في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس، وقد استخدم أبو حامد الإسفراييني السنّي أسلحته ضدّ الكلام. وإذا نظرنا في مواقف سنيّين آخرين شافعيّين نجد قول ابن تيمية (ت. 728) وهو أستاذ الذهبي في الحديث "إنّ تشدّد أبي حامد ضدّ المتكلّمين العقليين مشهور جداً".فقد ذهب بعيداً إلى حدّ التمييز بين أصول الفقه الشافعية وأصول الفقه الأشعرية، وهذا التمييز لاحظه عالم من كبار علماء عصره هو أبو بكر الراذقاني الذي يملك الباحث جورج مقدسي نسخة من تعليقه له. وقد كانت هذه التعليقة نموذجاً احتذاه الشيرازي في كتابيه "اللمع" و"التبصرة".في ضوء الحقائق والأقوال السابقة فإنّ اشتراط الوقف في المدرسة النظامية معقل المذهب الشافعي في بغداد يكتسب مدلولاً جديداً. وقد كان أبو إسحاق الشيرازي (ت. 476) المذكور سابقاً في قولة ابن تيمية أوّل منتمٍ إلى مدرّسي الفقه في مدرسة بغداد النظامية، وقد روى قول نظام الملك أنّه بنى هذه المدرسة للشيرازي31.ويشترط الوقف الموضوع على ذمّة المدرسة النظامية الشافعية أن تكون بعض الوظائف خاصّة لا بعلماء شافعية في الفقه فحسب ولكن أيضاً في أصول الفقه.إنّ تمنّي نظام الملك أن تكون تلك المدرسة شافعية لا يبعث على الدّهشة، فقد كان ذلك اختياره باعتباره مؤسس المدرسة والواقف عليها (أحباساً خاصة)، لكن ما يدعو إلى الدهشة أن يشترط أمراً خاصاً هو ألا يكون المدرّس فيها فقيهاً فقط، بل أن يكون عارفاً بأصول الفقه أيضاً، باعتبار العنصرين شرطين للتعيين في بعض المناصب في المدرسة.إنّ إضافة أصول الفقه إلى الفقه يعني أنّ أصول الفقه يمكن أن تكون أمراً مختلفاً عمّا أراد الشافعي نفسه أن يكون عليه هذا العلم. أي أن يكون علم أصول الفقه عقلياً وبشكل خاص أشعرياً. وهو ما كان أبو إسحاق الشيرازي الذي أسّس المدرسة النظامية معترضاً عليه، فقد كان معروفاً أنّه ضدّ الأشعرية في أصول الفقه. وهو يصرّح بهذا "هذه كتبي في أصول الفقه التي عرضت فيها تعاليمي المناقضة لأصول الفقه الأشعرية"32.ويحتوى "اللمع في أصول الفقه" الكثير من الأقوال التي تبرز هذه المعارضة للأشعرية، ويبدو اشتراط أن يكون المدرّس متبنياً لأصول الفقه الشافعية موافقاً لمذهب الشيرازي في هذا الحقل، غير أنّ تعيين أصول الفقه بأنّها شافعية لا ينبغي أن يفهم باعتبار أنّ كلّ مدرسة فقهية لها مجموعة أصولها الخاصة إلى حدّ يمكن معه أن ننتظر في هذه المدارس أربع مجموعات من هذا العلم الديني، فأصول الفقه الشافعية تعني إذن أصول فقه الشافعي نفسه التي اتبعها السنيّون في كلّ المذاهب الفقهية.وقد بقي الاعتقاد القادري الذي وصلنا للمرّة الأولى عام 431 أو 432 على حد علمنا، وكان نتيجة سلسلة من الرسائل من الخليفة القادر بداية من 408 و409. وهذا الاعتقاد نفسه ودلالته عولج في مكان آخر.33إنّ دراسة هذا الاعتقاد تبرز حسب مقدسي أنّ محتواه كان موجّهاً ضدّ المشبّهة والكرامية والشيعة، وخاصة المتطرفين الرافضة والإسماعيلية والأشعرية والمعتزلة، وهذا جانبه السلبي، أمّا طابعه الإيجابي فهو تعريفه لأصول الدين باعتبارها الفصول الأساسية للعقيدة مميزة إيّاه عن المتكلمين الفلاسفة.وهذا الاعتقاد يعتبر الكلام موضوعاً للدراسة ضمن البرنامج الدراسي للمدارس الفقهية والواقعة في كلّ المؤسسات التعليمية المؤسسة على الوقف، وأكثر من هذا هناك صلة دالة بين الاعتقاد القادري وقائمة الذهبي للعلماء القياديين في بداية القرن الخامس للهجرة، فالقائمة والاعتقاد تبثان الرسالة نفسها.القائمتان البيبليوغرافيتان للسبكي والزركشيقدّم السبكي والزركشي وكلاهما فقيهان شافعيان قائمتين تتضمنان كتباً في أصول الفقه ساعدتهما على كتابة كتبهم الخاصة في هذا العلم.قائمة السبكي 771 هـ /1370م نجدها في "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب34، وهو شرح في جزأين على حاشية المالكي ابن الحاجب (ت. 646 / 1249)35.وهذه القوائم محوّرة هنا لتقديم المؤلفين وأعمالهم مرتبين في الزمن انطلاقاً من الشافعي إلى من بعده. وقد أضيفت تواريخ الوفاة.هناك بعض التساؤلات حول تاريخ وفاة الشارح الثالث 336 أو 365.قائمة السبكي (ت. 771/1370)
الكاتب الكتاب تاريخ الوفاة
الشافعيأبو بكر الصيرفيأبو الوليد النيسابوريأبو بكر القفال الشاشي الكبير أبو محمد الجوينيالباقلانيأبو حامد الإسفرايينيأبو بكر بن فوركالقاضي عبد الجبار أبو إسحاق الإسفراييني أبو زيد الدبوسي أبو الحسين البصريسليم الرازيأبو الطيب الطبريأبو الطيب الطبريأبو القاسم القشيريأبو إسحاق الشيرازي" "" "" "أبو نصر بن الصباغإمام الحرمين الجويني" "أبو المظفر السمعانيإلكيا الهرّاسي"الغزالي"""أبو نصر القشيريأبو الفتح بن برهانأسعد المهني الرسالةشرح الرسالة" " " التقريب والإرشاد التعليقةكتابالعمدالتعليقةكتاب الأسرارالمعتمدشرح الكفايةالتقريب المنهاجأصول الفقهاللمعالملخص في الجدلالمعونة في الجدلالنكت"عُدّة العالم"البرهانالأساليب قواطع الأدلّةالتعليقةشفاء المسترشدينالمستصفىالمنخولشفاء الغليل التحسينأصول الفقهالوجيزالتعليقة 204330349336 أو365438403406406415418430436447450450465476"""477478"489504504505"505"514518523
قائمة الزركشي36
الشافعيالصيرفيأبو الوليد النيسابوريالقفّال الشاشيأبو محمد الجوينيالمزنيابن سريج"السيرافيابن القاصأبو إسحاق المروزيأبو عبد الله بن أبي هريرةأبو الحسين بن القطانالقفال الشاشيأبو الحسن السهيليالباقلاني أبو القاسم بن الكج أبو بكر بن فوركأبو حامد الإسفرايينيأبوالحسين محمد بن يحيى بن سراقة العامريأبو إسحاق الاسفرايينيأبو منصور البغدادي أبو الطيب الطبري" "أبو القاسم القشيريأبو إسحاق الشيرازيإمام الحرمين الجوينيالجوينيأبو المظفر السمعانيالغزاليأبو نصر القشيريابن برهانفخر الدين الرازي الآمدي الرسالةشرح الرسالة"""كتاب القياسكتاب الرد على داود في إنكاره القياسكتاب الإعذار والإنذارالدلائل والأعلامرياض المتعلمينكتابكتابالتقريب والإرشادالتحصيلشرح الكفايةالجدلكتاب"اللمع" "شرح اللمع" "التبصرة""الملخص" "المعونة" "الحدود" وآثار أخرىالتلخيص ـ شرح التقريب للباقلاني البرهان (مع دكر شروح البرهان وملاحظات عليهالقواطع المستصفى (شروح وملاحظات وملخصات مذكورة)كتابالأوسطالمحصول (ذكر شرح وملخص)الإحكام 204330349365438264306"330340345359365400403405406406410429450465"476478478489505514518606631
علم الكلام في أصول الفقه: من التبرير إلى الحظريظهر لنا من خلال إلقاء نظرة سريعة على المصادر الأصولية التي وصلتنا من القائمتين السابقتين أنّه منذ القرن الخامس الهجري أضحى هذا العلم الذي أسّسه الشافعي دفاعاً عن الاتجاه النقلي مخترقاً من الاتجاه العقلي.ويعتبر مقدسي أنّ أول أثر أصولي فقهي مستقل وشامل وصلنا بعد رسالة الشافعي هو "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري، وتخبرنا مقدمة هذا الكتاب عن خصائص كتاب العمد للقاضي عبد الجبار. وأصبحت المؤلفات الأصولية منذ ذلك التاريخ تتطرّق أيضاً إلى مسائل تنتمي بشكل خاص إلى المجال الكلامي والفلسفي و/أو مجال الفلسفة التشريعية، وقد انتشرت هذه الظاهرة في القرن الخامس وما بعده إلى حد ارتفعت معه الأصوات التي تدين هذه الممارسة.تبرز هذه الجهود المبذولة لحصر موضوع أصول الفقه الخلافات في الرأي وكذلك في المضمون، كما تُعدّ علامة على المحاولات الهادفة إلى حفظ علم أصول الفقه من الامتزاج بمواضيع أجنبية عنه. إلا أنّ هذه المحاولات لم تنجح، لأنّه حتى الكتاب المحافظون وجدوا أنفسهم مجبرين على التطرق إلى مسائل لم يخض فيها الشافعي في رسالته على غرار مسائل الفلسفة التشريعية من قبيل "الأعيان والأفعال قبل ورود الشرع".وكان السمعاني ـ قبل الغزالي - قد انتقد مزج الكلام بأصول الفقه في كتابه "قواطع الأدلة"، وقد وصف السبكي هذا الكتاب بأنّه "أنفع كتاب للشافعية في الأصول وأجلّه"37. وعلى الرغم من أنّ علم الكلام الذي يسمّيه السمعاني بعلم الأصول في الديانات علم شريف في ذاته وأنّه أساس كلّ مبادىء الدين وقاعدة كلّ العلوم الدينية فإنّ بنيته محدودة، ذلك أنّ مادته المعرفية مقتصرة على ما أمرنا الله بطاعته وأنّه ما من شيء يمكن لنا أن نزيده عليه أو أن ننقصه.يتوقف مقدسي بعد ذلك على موقف يدافع عن العودة إلى أصول الفقه على النحو الذي أسّسه الشافعي، وهو ما تجلّى من خلال كتاب الفقيه الشافعي والمؤرخ أبو شامة38 (ت665هـ/1267م)، وليس لعلم الكلام عند أبي شامة ـ على غرار الشافعي - أيّة مكانة في تصنيفه للعلوم، لكنّه يعتبره منفرداً باعتباره مصدراً لكلّ العلوم الإسلامية بما فيها أصول الفقه.خاتمةيرى مقدسي في خاتمة بحثه أنّ علم أصول الفقه اتخذ لدى الشافعي بعدين: أحدهما فقهي والآخر كلامي، وقد ركّز العلماء إلى الآن في نظره على البعد الفقهي، وكان غولدزيهر أوّل من لفت الانتباه إليه معتبراً أنّ هدف الشافعي يتمثل في تطبيق معتدل للقياس باعتباره أصلاً من أصول الفقه.ولم يكن غولدزيهر في رأي مقدسي مهتماً بإسهام الشافعي في المقام الأول، فالشافعي بالنسبة إليه كان مجرد نقطة مرجعية للمذهب الفقهي الظاهري، وهو فرع شاذ عن المذهب الشافعي ينكر حجية القياس، ومع ذلك بيّن غولدزيهر أهمية دراسة أثر الشافعي عندما يقع العثور عليه.وقد درس شاخت من جهة أخرى إسهام الشافعي في أصول الفقه بشكل مفصل آخذاً بعين الاعتبار مقترح غولدزيهر، معتبراً أنّ للشافعي منظومة رائعة متماسكة تفضل بكثير المذاهب الفقهية القديمة39.ولئن كان البعد الفقهي لإسهام الشافعي قد تمّ التركيز عليه بفضل غولدزيهر وخاصة شاخت فإنّ الموقف المضاد للعقل والبعد الكلامي بقي خارج دائرة الاهتمام، ويعود هذا جزئياً إلى أنّ الشافعي لم يظهر عداءه للمعتزلة والمتكلمين في رسالته مباشرة، لكنّه ذكر ما يفهم منه انتماءه بالأساس إلى فريق المحدّثين وتقديمه للنقل والاعتماد على العقل الذي يرد عنده في المرتبة الثانية.لقد كانت غاية الشافعي من كتابة "الرسالة" مواجهة أيّة منظومة معرفية دينية تزعم أنّها تتجاوز القرآن والسنّة النبوية، وعلى خلاف الكلام الذي يتعدّى نصوص الوحي ليخوض في كاتبها وفي الله نفسه تصرّح نظرية الشافعي بأنّ كلّ ما نحتاج إليه للنجاة هو نصوص الوحي.وبداية من أواخر القرن العاشر أو بداية القرن الحادي عشر للهجرة نجد أنّ كتب أصول الفقه التي وصلتنا لم يكتبها المنتمون إلى الاتجاه العقلي فحسب، بل شاركهم في ذلك أيضاً الكتّاب المنتمون إلى اتجاه الفقهاء وأهل الحديث، ويمثل هذه الحقيقة كتاب "المسوّدة" لآل تيمية المنتمين إلى فريق المحدّثين، وتفترض هذه الظاهرة حسب مقدسي أن يكون مستقبل علم الكلام الإسلامي في أيدي الأصوليين بدلاً من المتكلمين.فإلى أيّ مدى يصحّ هذا الرأي؟ وهل هذه فعلاً الإشكالية الجوهرية التي ينبغي على الباحث المعاصر أن يطرحها، أم هناك إشكاليات أخرى أكثر أهمية، من قبيل تجديد علم الكلام وعلم أصول الفقه، بما من شأنه تأصيل تفاعلهما مع المكتسبات المعرفية والمنهجية الحديثة؟
[1]- George Makdisi: The Juridical Theology of Shâf’i. Origins ans Significance of usûl al-Fiqh. Studia Islamica, LIX, 1984.2ـ ابن العماد، شذرات الذهب، 2/10.3- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 14/245-246.4ـ ابن النديم، الفهرست، القاهرة، المطبعة الرحمانية، د.ت، ص 2885ـ السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، 3/300.6- Goldziher: The Zahiris, Their Doctrine and their History: A contribution to the history of Islamic theology, (Leiden Brill, 1971) 21, n.1.7- ابن العماد I/283-284.8ـ المصدر نفسه، ص 286.9- George Makdisi: The Juridical Theology of Shâf’i, 8.10- Ibid, 9.11- Ibid ,10.12- Zahiriten,p .21.13ـ طبعت الرسالة للمرة الأولى في القاهرة ببولاق سنة 1313هـ/1903م.14- Zahiriten,pp. 22-23.15- Ibid,p p.25-26.16- Goldziher,Muhammedanische studien,2vols.(Halle,1889-1890),II ,83 n.2.17- schacht, Origins,p. 56.18- Ibid,p. 77.19- See G. Makdisi, The Rise of Colleges: Institutions of Learning in Islam and the west (Edinburgh Univ. Press 1981), p. 256.20- هذه الشروح هي للفقهاء الآتي ذكرهم: أبو بكر السيرافي (330/942)، أبو الوليد النيسابوري (349هـ/960)، القفال الشاشي الكبير (365/976)، أبو بكر الجوزقي (388/998)، أبو محمد الجويني (438/1047)، ص 53.21ـ صدر هذا الكتاب سنة 1990 بتحقيق عبد الحميد بن علي أبو زنيد عن مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة.22ـ انظر مقدّمة كتاب المعتمد.23- schacht, Origins p. 13424- ابن العماد، شذرات، 2/9 وانظر أقوالا مماثلة لدىابن قدامة، تحريم النظر في كتب أهل الكلام، ضمن مقال G. Makdisi, Ibn Qudâma’s, Censure of speculative Theology (London: Luzac, 1962, p. 12)25- حول ابن شنبوذ (ت. 328هـ) انظر الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، I/280-281 ابن الجوزي، المنتظم (6 أجزاء) حيدر آباد 1938-1940، 6/275 و307-308 ابن تيمية، فتاوى، ط القاهرة، 1908-1910، 1/314-315 .26- Makdisi, The rise of Colleges pp. 108.27- الشيرازي، طبقات، ص ص 86-87.28- Makdisi: Ashaari and the Ash’arites in. Islamic Religious History, pp. 37-80.29- السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 276.30ـ ابن العماد، شذرات الذهب، 1/15.31- انظر ابن الجوزي، المنتظم، 9/66.Makdisi: «Muslim institutions of Learning» in. Eleventh – century Baghdad in. B. SOAS 24, 1961 pp. 1-56 esp. P. 3732- انظر ابن رجب: الذيل على طبقات الحنابلة، 1/26 ط. بيروت، 1951 - (ط القاهرة، 1952)، 1/20.33- Makdisi, Ibn Aqil et la resurgence de l’islam sunnite,p p299.34- Ms Yahuda 148, Garett collection (Princeton University). Fols 2a – 2bينبغي ان نشير إلى أنّ هذا الكتاب صدر عن عالم الكتب ببيروت سنة 1999 بتحقيق الشيخين علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود في أربعة مجلدات.35- هذه القائمة أخذت من مخطوط في مجموعة Princeton التي تشتمل فقط على جزء واحد من الجزءين، مخطوطات ياهودا 2a, fol, 148, Yahuda36- الزركشي، البحر المحيط، مخطوط عربي باريس 811، fols 1b-2q، وقد حقق هذا الكتاب عبد القادر عبد الله العاني، ط2، الكويت، دار الصفوة للطباعة والنشر والتوزيع بالغردقة، 1992 (6 أجزاء).37ـ السبكي، طبقات الشافعية، 1/19.38ـ كتاب الروضتين، ترجمه إلى الفرنسية Barbier de Meynard، جزءان، باريس، (1898-1906).39ـ شاخت، Origins، ص 137.