يرى الباحث و الناقد الجزائري «لخضر مذبوح» في كتابه هذا الذي هو بالأصل أطروحة دكتوراه تقدَّم بها إلى جامعة «منتوري» بقسَّنطينة؛ أنَّ الدعوة لفلسفات مفتوحة تُعتبر خاصية من خصائص فكر وعلم القرن العشرين يكمن في الدرجات والاتجاهات التي يدعو إليها علماء وفلاسفة هذا القرن؛ فمنهم من يدعو إلى التفتح على اللامعقول أكثر.ومنهم من يدعو إلى التفتح على الميتافيزيقا ونبذ النموذج العلموي الطبيعي كدعوة نيتشه وهيدغر؛ وأتباعهما المعاصرين أصحاب الخطاب الحداثي وما بعد الحداثي كـ «ليوتار» مثلاً، ومنهم من يدعو إلى تفتح على المقاربات النفسية والاجتماعية والفلسفية الهامة، كأعضاء مدرسة فرانكفورت في محاولتهم تطوير نظرية البراكسيس الماركسية، بترك الماركسية الدوغمائية، والتفتح على التحليل النفسي الفرويدي، وإعادة قراءة هيغل وماركس بمنظور معاصر، جنباً إلى جنب مع هيدغر ونيتشه.ولكنَّها بقيت «نظرية نقدية» عقلانية تفتَّحت على العقل ورفضت اللاعقلانية والعدمية ولم تستسلم لإغراءاتها، وهي القناعة التي تجمعها بفيلسوف علم ومناهج معاصر أسَّس نظرية (العقلانية النقدية) التي أقامها على فكرة محورية هي فكرة التفتُّح؛إذ إن «كارل بوبر» استبدل نموذج ومثال العلم الفيزيقي؛ الاستقرائي؛ الحتمي، المغلق- بنموذج ومثال العلم البيولوجي الاستنباطي اللاحتمي، المفتوح.لقد جاءت فلسفة كارل ريموند بوبر 1902- 1994 ؟ العقلانية النقدية- في وقت كاد يستقرُّ فيه الرأي على اعتبار الفلسفة العلمية المعاصرة ممثَّلة في التجريبية المنطقية والفلسفة التحليلية في العالم الأنغلو سكسوني على الأقل، أرقى نموذج معرفي فلسفي، معبِّر عن موقف الإنسان المعاصر، باعتمادها مناهج وطرائق في البحث نابعة من الواقع أو الحس والتجربة، متَّخذة من النموذج الفيزيقي في العلوم الطبيعية مثلاً وغايةً لتطويرِ خطابٍ فلسفي علمي معاصر أي البحث عن الحقيقة الممكنة والتعبير عنها تعبيراً علمياً دقيقاً في نظرية علمية يقينيةٍ تخضع لمبدأ التحقيق، ولدرجة يقينٍ ضعيفة أو قوية، باللجوء إلى الاحتمالات. وامتدَّ هذا التوجه إلى الفلسفة الاجتماعية أيضاً التي استعانت بالمنهج العلمي الوضعي في تقديم تفسيرات لحركة التاريخ والمجتمع أفراداً وجماعات.فكما كان «لوك» و «هيوم» و «باركلي» ، ومن قبلهما «فرنسيس بيكون» يزعمون أنَّهم نجحوا في تعويض علم اللاهوت، بعلمٍ طبيعي قائم على التبرير الوضعي الايجابي، والقائم على ادِّعاء حيازة قوانين الطبيعة التي عوَّضت فكرة الإله بفكرة الاستقراء بناء على تصوُّرٍ مغلق للكون يقوم على مبدأ الحتمية، ذلك المبدأ الذي آمن به كل من هيغل و ماركس، وحاولا أن يحدِّدا اعتماداً عليه مساراً لمجرى التاريخ وللقوانين المتحكِّمة فيه.وهكذا تبدأ محاولة بوبر الأصيلة بتنبيهه إلى الرافد المشترك لكلِّ أصحاب النزعات الدوغمائية في العلم والاجتماع والسياسة القائمة على فكرة التعميم التعسُّفي المتعالم، الذي تسمح به ما يسميه (أسطورة الاستقراء) الذي يعتبر كتابه «منطق الكشف العلمي» 1934، محاولة منهجية جريئة جديدة تنقدها في الاتجاهين معاً، وتقوض أسسها الابستمولوجية، فهي محاولة تشمل نقد العلم الطبيعي في نسخته الفيزيائية،.كما مثَّلتها فلسفة التجريبيين المناطقة، والفلاسفة التحليليين التي يسقط بموجبها كلُّ منطوق ميتافيزيقي، ويسكت، ويُطرد من حقل المعرفة والعلم، أو في نسخته التاريخانية، اليوتوبية، الكليانية التوتاليتارية، التي تقهر وتتجاهل حرية وإبداعية الأفراد في صنع التاريخ وانفلاتهم من نبوءات أي يوتوبيات مهما كان بريقها الفلسفي والإيديولوجي، فالبشر أعضاء نشطون مغالون في التاريخ، وليسوا مجرَّد أدوات أو وسائل أو حيل لعقل مطلق، أو طبقة طليعية متحيِّزة كما يدَّعي ماركس وهيغل.ثمَّ يُشير د- لخضر مذبوح إلى خيبة أمل أصحاب التأويل، من موقف بوبر منه، ومن رواده، فلا تأويلات هيغل للتاريخ ولا ماركس حسب بوبر يمكن اعتبارها علماً، بل هي نبوءات مزيَّفة، ولا حتى دعوة «دلتاي» لتأسيس علم اجتماعي له منهجه الخاص، ولا فرويد، وكذلك موقفه من نيتشه وهيدغر، القطبين الهامين اللذين ينهل منهما الخطاب الحداثي وما بعد الحداثي، الذي ينقده بوبر، فهو تفتَّح على كلِّ شيء إلا على اللامعقول والعدمية. إنَّه يتحدَّث عن العصر، وعن التقدم الحاصل فيه بتقريظ، ولا يربط تحليلاته للمشكلات التي يواجهها عالمنا المعاصر بالمصير، ولا بالانحطاط.لذا فإنَّ فكرة ( التفتُّح) عند بوبر تنبعث من التصوُّر الذي صاغه عن العلم، وتقف على قمَّة الخصائص التي تشكِّل مفهوم العلم، وهدف العلم في فلسفته في العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية سواء بسواء، وتتأسس هذه الفكرة من تأكيد كارل بوبر أنَّ هدف العلم، ليس هو اكتساب اليقين، أو الاحتمال القوي الممكن، فمهمة العلم هي: أنَّ البحث عن الحقيقة- البحث عن نظريات سابقة- كما أشار إلى ذلك كزينوفان، أمرٌ لم نتوصَّل إليه كوننا لا نصل إلى معرفة نهائية لعالم الأشياء، وإنَّ توصَّلنا إليها فإنَّنا لا نعرف أنَّها صادقة.وهكذا تصبح فكرة التفتُّح ذلك السعي الإنساني الدؤوب لنشدان الحقيقة، دون تحديد أو استناد إلى أسسٍ راسخة أو إلى مصادر غير معصومة تؤسِّس يقينه.
وبوبر يتبنَّى مقاربةً متعارضة مع مقاربات الفلسفة النقدية، فالحقيقة هدف وغاية أيِّ علمٍ وأيِّ فلسفة تبقى صعبة المنال. لأنَّ الحقيقة ليست مدفونة في الماضي، لكنَّها موضوع اكتشاف في المستقبل، والهيئة العلمية هي نفسها يجب أن تكون دائماً مجتمعاً مفتوحاً، وهذا لا يعني البتة مجتمعاً لا تراببية فيه- أي مجتمعاً خالياً من القيم، وهذه حماقة.إنَّه مجتمع لا يكون فيه التراتب طبيعياً معطى إلى الأبد كما ذهب إلى ذلك أفلاطون في جمهوريته، إنَّ هذه القيم التي يحوزها المجتمع المفتوح لهيئة العلماء يمكن أن تتطوَّر وتنمو دون قهر ولا عنف، تحت ثقل وزن الحجج النقدية والبراهين- أي بالإقناع ، وبالاكتشافات، لا بالإكراه والتسلط.وعبارة المجتمع المفتوح كما يقول كارل بوبر تثير هكذا شحنة عاطفية انفعالية، لأنَّه يستمدُّ جذوره من إحساسه بها، ذلك عندما وصل( انجلترا) أوَّل مرَّة وقال: إنَّ نوافذ فُتحت فجأةً. لكن هذا المصطلح كان قد استعمل أوَّل مرَّة من قِبَل «هنري برغسون» ، لكن كارل بوبر يستعمله بمعنى مختلف ليحيل وليشيرَ إلى المجتمع الذي يكونُ فيه الأفراد في مواجهة قراءات شخصية- كمصطلحٍ متعارض مع مصطلح ( المجتمع المغلق) المتميِّز باعتقاده الخاصم في التابوهات السحرية، ويستمد أساسه وقاعدته من المجتمع الجمعوي والقبلي. فالمجتمع المفتوح بحسب بوبر يتضمَّن فقدان هذا الطابع الذي يجعل المجتمع يحسُّ مثل مجموعة واقعية حقيقية، والمجتمع المفتوح يحمل مجازفة التجريدية لأنَّه لا يتميَّز بمحتواه، لكنَّه يتميَّز بالأحرى بالقواعد التي توجه النزاعات الاجتماعية.الكتاب: فكرة التفتح في فلسفة كارل بوبر دراسة المؤلف: د. لخضر مذبوح الناشر: مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم دبي 2009 الدار العربية للعلوم ـ بيروت منشورات الاختلاف الجزائرالصفحات :591 صفحة القطع: الكبير
أنور محمد - البيان