في الامامة لأبي حامد الغزالي من كتاب الاقتصاد في الاعتقاد

النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات، وليس أيضاً من فن المعقولات فيها من الفقهيات، ثم إنها مثار للتعصبات والمعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض بل وإن أصاب، فكيف إذا أخطأ ! ولكن إذا جرى الرسم باختتام المعتقدات به أردنا أن نسلك المنهج المعتاد فإن القلوب عن المنهج المخالف للمألوف شديدة النفار، ولكنا نوجز القول فيه ونقول: النظر فيه يدور على ثلاثة أطراف: الطرف الأول: في بيان وجوب نصب الإمام.

ولا ينبغي أن تظن أن وجوب ذلك مأخوذ من العقل، فإنا بينا أن الوجوب يؤخذ من الشرع إلا أن يفسر الواجب بالفعل الذي فيه فائدة وفي تركه أدنى مضرة، وعند ذلك لا ينكر وجوب نصب الإمام لما فيه من الفوائد ودفع المضار في الدنيا، ولكنا نقيم البرهان القطعي الشرعي على وجوبه ولسنا نكتفي بما فيه من إجماع الأمة، بل ننبه على مستند الإجماع ونقول: نظام أمر الدين مقصود لصاحب الشرع عليه السلام قطعاً، وهذه مقدمة قطعية لا يتصور النزاع فيها، ونضيف إليها مقدمة أخرى وهو أنه لا يحصل نظام الدين إلا بإمام مطاع فيحصل من المقدمتين صحة الدعوى وهو وجوب نصب الإمام.

فإن قيل: المقدمة الأخيرة غير مسلمة وهو أن نظام الدين لا يحصل إلا بإمام مطاع، فدلوا عليها.
فنقول: البرهان عيه أن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع، فهاتان مقدمتان ففي أيهما النزاع ؟ فإن قيل لم قلتم إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، بل لا يحصل إلا بخراب الدنيا، فإن الدين والدنيا ضدان والاشتغال بعمارة أحدهما خراب الآخر، قلنا: هذا كلام من لا يفهم ما نريده بالدنيا الآن، فإنه لفظ مشترك قد يطلق على فضول التنعم والتلذذ والزيادة على الحاجة والضرورة، وقد يطلق على جميع ما هو محتاج إليه قبل الموت. وأحدهما ضد الدين والآخر شرطه، وهكذا يغلط من لا يميز بين معاني الألفاظ المشتركة. فنقول: نظام الدين بالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات، والأمن هو آخر الآفات، ولعمري من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وليس يأمن الإنسان على روحه وبدنه وماله ومسكنه وقوته في جميع الأحوال بل في بعضها، فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة، فإذن بان نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة شرط لنظام الدين.


وأما المقدمة الثانية وهو أن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وإن ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعم السيف وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات، وكان كل غلب سلب ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حياً، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف، ولهذا قيل: الدين والسلطان توأمان، ولهذا قيل: الدين أس والسلطان حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. وعلى الجملة لا يتمارى العاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم وما هم عليه من تشتت الأهواء وتباين الآراء لو خلوا وراءهم ولمي كن رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا من عند آخرهم، وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء، فبان أن السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة وهو مقصود الأنبياء قطعاً، فكان وجوب نصب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه فاعلم ذلك.

الطرف الثاني: في بيان من يتعين من سائر الخلق لأن ينصب إماماً.


فنقول:
ليس يخفى أن التنصيص على واحد نجعله إماماً بالتشهي غير ممكن، فلا بد له من تميز بخاصية يفارق سائر الخلق بهذا، فتلك خاصية في نفسه وخاصية من جهة غيره. أما من نفسه فأن يكون أهلاً لتدبير الخلق وحملهم على مراشدهم.

وذلك بالكفاية والعلم والورع، وبالجملة خصائص القضاة تشترط فيه مع زيادة نسب قريش؛ وعلم هذا الشرط الرابع بالسمع حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش فهذا تميزه عن أكثر الخلق ولكن ربما يجتمع في قريش جماعة موصوفون بهذه الصفة فلا بد من خاصية أخرى تميزه، وليس ذلك إلا التولية أو التفويض من غيره، فإنما يتعين للإمامة مهما وجدت التولية في حقه على الخصوص من دون غيره، فيبقى الآن النظر في صفة المولى فإن ذلك لا يسلم لكل أحد بل لا بد فيه من خاصية وذلك لا يصدر إلا من أحد ثلاثة:

إما التنصيص من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وإما التنصيص من جهة إمام العصر بأن يعين لولاية العهد شخصاً معيناً من أولاده أو سائر قريش، وإما التفويض من رجل ذي شوكة يقتضي انقياده وتفويضه متابعة الآخرين ومبادرتهم إلى المبايعة، وذلك قد يسلم في بعض الأعصار لشخص واحد مرموق في نفسه مرزوق بالمتابعة مسؤول على الكافة، ففي بيعته وتفويضه كفاية عن تفويض غيره لأن المقصود أن يجتمع شتات الآراء لشخص مطاع وقد صار الإمام بمبايعة هذا المطاع مطاعاً، وقد لا يتفق ذلك لشخص واحد بل لشخصين أو ثلاثة أو جماعة فلا بد من اجتماعهم وبيعتهم واتفاقهم على التفويض حتى تتم الطاعة.

بل أقول: لو لم يكن بعد وفاة الإمام الاقرشي واحد مطاع متبع فنهض بالإمامة وتولاها بنفسه ونشأ بشوكته وتشاغل بها واستتبع كافة الخلق بشوكته وكفايته وكان موصوفاً بصفات الأئمة فقد انعقدت إمامته ووجبت طاعته، فإنه تعين بحكم شوكته وكفايته، وفي منازعته إثارة الفتن إلا أن من هذا حاله فلا يعجز أيضاً عن أخذ البيعة من أكابر الزمان وأهل الحل والعقد، وذلك أبعد من الشبهة فلذلك لا يتفق مثل هذا في العادة إلا عن بيعة وتفويض. فإن قيل: فإن كان المقصود حصول ذي رأي مطاع يجمع شتات الآراء ويمنع الخلق من المحاربة والقتال ويحملهم على مصالح المعاش والمعاد، فلو انتهض لهذا الأمر من فيه الشروط كلها سوى شروط القضاء ولكنه مع ذلك يراجع العلماء ويعمل بقولهم فماذا ترون فيه، أيجب خلعه ومخالفته أم تجب طاعته ؟

قلنا: الذي نراه ونقطع أنه يجب خلعه إن قدر على أن يستبدل عنه من هو موصوف بجميع الشروط من غير إثارة فتنة وتهييج قتال، وإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامته لأن ما يفوتنا من المصارفة بين كونه عالماً بنفسه أو مستفتياً من غيره دون ما يفوتنا بتقليد غيره إذا افتقرنا إلى تهييج فتنة لا ندري عاقبتها. وربما يؤدي ذلك إلى هلاك النفوس والأموال، وزيادة صفة العلم إنما تراعى مزية وتتمة للمصالح فلا يجوز أن يعطل أصل المصالح في التشوق إلى مزاياها وتكملاتها، وهذه مسائل فقهية فيلون المستعبد لمخالفته المشهود على نفسه استبعاده ولينزل من غلوائه فالأمر أهون مما يظنه، وقد استقضينا تحقيق هذا المعنى في الكتاب الملقب بالمستظهري المصنف في الرد على الباطنية، فإن قيل فإن تسامحتم بخصلة العلم لزمكم التسامح بخصلة العدالة وغير ذلك من الخصال، قلنا: ليست هذه مسامحة عن الاختيار ولكن الضرورات تبيح المحظوارت، فنحن نعلم أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه، فليت شعري من لا يساعد على هذا ويقضي ببطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها وهو عاجز عن الاستبدال بالمتصدي لها بل هو فاقد للمتصف بشروطها،

فأي أحواله أحسن: أن يقول القضاة معزولون والولايات باطلة والأنكحة غير منعقدة وجميع تصرفات الولاة في أقطار العالم غير نافذة، وإنما الخلق كلهم مقدمون على الحرام، أو أن يقول الإمامة منعقدة والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار، فهو بين ثلاثة أمور إما أن يمنع الناس من الأنكحة والتصرفات المنوطة بالقضاة وهو مستحيل ومؤدي إلى تعطيل المعايش كلها ويفضي إلى تشتيت الآراء ومهلك للجماهير والدهماء أو يقول إنهم يقدمون على الأنكحة والتصرفات ولكنهم مقدمون على الحرام، إلا أنه لا يحكم بفسقهم ومعصيتهم لضرورة الحال، وإما أن نقول يحكم بانعقاد الإمامة مع فوات شروطها لضرورة الحال ومعلوم أن البعيد مع
الأبعد قريب، وأهون الشرين خير بالاضافة، ويجب على العاقل اختياره، فهذا تحقيق هذا الفصل وفيه غنية عند البصير عن التطويل ولكن من لم يفهم حقيقة الشيء وعلته وإنما يثبت بطول الألفة في سمعه فلا تزال النفرة عن نقيضه في طبعه إذ فطام الضعفاء عن المألوف شديد عجز عنه الأنبياء فكيف غيرهم.أبعد قريب، وأهون الشرين خير بالاضافة، ويجب على العاقل اختياره، فهذا تحقيق هذا الفصل وفيه غنية عند البصير عن التطويل ولكن من لم يفهم حقيقة الشيء وعلته وإنما يثبت بطول الألفة في سمعه فلا تزال النفرة عن نقيضه في طبعه إذ فطام الضعفاء عن المألوف شديد عجز عنه الأنبياء فكيف غيرهم.


فإن قيل: فهلا قلتم إن التنصيص واجب من النبي والخليفة كي يقطع ذلك دابر الاختلاف كما قالت بعض الإمامية إذ ادعوا أنه واجب، قلنا: لأنه لو كان واجباً لنص عليه الرسول عليه السلام، ولم ينص هو ولم ينص عمر أيضاً بل ثبتت إمامة أبو بكر وإمامة عثمان وإمامة علي رضي الله عنهم بالتفويض، فلا تلتفت إلى تجاهل من يدعي أنه صلى الله عليه وسلم نص على علي لقطع النزاع ولكن الصحابة كابروا النص وكتموه، فأمثال ذلك يعارض بمثله ويقال: بم تنكرون على من قال إنه نص على أبي بكر فأجمع الصحابة على موافقته النص ومتابعته، وهو أقرب من تقدير مكابرتهم النص وكتمانه، ثم إنما يتخيل وجوب ذلك لتعذر قطع الاختلاف وليس ذلك بمعتذر، فإن البيعة تقطع مادة الاختلاف والدليل عليه عدم الاختلاف في زمان أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم، وقد توليا البيعة، وكثرته في زمان علي رضي الله عنه ومعتقد الإمامية أنه تولى بالنص.
الطرف الثالث: في شرح عقيدة أهل السنة في الصحابة والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.


اعلم أن للناس في الصحابة والخلفاء إسراف في أطراف؛ فمن مبالغ في الثناء حتى يدعي العصمة للأئمة، ومنهم متهجم على الطعن بطلق اللسان بذم الصحابة. فلا تكونن من الفريقين واسلك طريق الاقتصاد في الاعتقاد. واعلم أن كتاب الله مشتمل على الثناء على المهاجرين والأنصار وتواترت الأخبار بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بألفاظ مختلفة، كقوله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وكقوله: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم وما من واحد إلا وورد عليه ثناء خاص في حقه يطول نقله، فينبغي أن تستصحب هذا الاعتقاد في حقهم ولا تسيء الظن بهم كما يحكى عن أحوال تخالف مقتضى حسن الظن، فأكثر ما ينقل مخترع بالتعصب في حقهم ولا أصل له وما ثبت نقله فالتأويل متطرق إليه ولم يجز ما لا يتسع العقل لتجويز الخطأ والسهو فيه، وحمل أفعالهم على قصد الخير وإن لم يصيبوه. والمشهور من قتال معاوية مع علي ومسير عائشه رضي الله عنهم إلى البصرة والظن بعائشة أنها كانت تطلب تطفئة الفتنة ولكن خرج الأمر من الضبط، فأواخر الأمور لا تبقى على وفق طلب أوائلها، بل تنسل عن الضبط، والظن بمعاوية أنه كان على تأويل وظن فيما كان يتعاطاه وما يحكى سوى هذا من روايات الآحاد فالصحيح منه مختلط بالباطل والاختلاف أكثره اختراعات الروافض والخوارج وأرباب الفضول الخائضون في هذه الفنون. فينبغي أن تلازم الإنكار في كل ما لم يثبت، وما ثبت فيستنبط له تأويلاً. فما تعذر عليك فقل: لعل له تأويلاً وعذراً لم أطلع عليه.

واعلم أنك في هذا المقام بين أن تسيء الظن بمسلم وتطعن عليه وتكون كاذباً أو تحسن الظن به وتكف لسانك عن الطعن وأنت مخطئ مثلاً، والخطأ في حسن الظن بالمسلم أسلم من الصواب بالطعن فيهم، فلو سكت إنسان مثلاً عن لعن ابليس أو لعن أبي جهل أو أبي لهب أو من شئت من الأشرار طول عمره لم يضره السكوت، ولو هفا هفوة بالطعن في مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرض للهلاك، بل أكثر ما يعلم في الناس لا يحل النطق به لتعظيم الشرع الزجر عن الغيبة، مع أنه إخبار عما هو متحقق في المغتاب. فمن يلاحظ هذه الفصول ولم يكن في طبعه ميل إلى الفضول آثر ملازمته السكوت وحسن الظن بكافة المسلمين وإطلاق اللسان بالثناء على جميع السلف الصالحين. هذا حكم الصحابة عامة. فأما الخلفاء الراشدون فهم أفضل من غيرهم، وترتيبهم في الفضل عند أهل السنة كترتيبهم في الإمامة، وهذا لمكان أن قولنا فلان أفضل من فلان أن معناه إن محله عند الله تعالى في الآخرة أرفع، وهذا غيب لا يطلع عليه إلا الله ورسوله إن أطلعه عليه، ولا يمكن أن يدعي نصوص قاطعة من صاحب الشرع متواترة مقتضية للفضيلة على هذا الترتيب، بل المنقول الثناء على جميعهم.

واستنباط حكم الترجيحات في الفضل من دقائق ثنائه عليهم رمي في عماية واقتحام أمر آخر أغنانا الله عنه، ويعرف الفضل عند الله تعالى بالأعمال مشكل أيضاً وغايته رجم ظن، فكم من شخص متحرم الظاهر وهو عند الله بمكان ليس في قلبه وخلق خفي في باطنه، وكم من مزين بالعبادات الظاهرة وهو في سخط الله لخبث مستكن في باطنه فلا مطلع على السرائر إلا الله تعالى. ولكن إذا ثبت أنه لا يعرف الفضل إلا بالوحي ولا يعرف من النبي إلا بالسماع وأولى الناس بالسماع ما يدل على تفاوت الفضائل الصحابة الملازمون لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وهم قد أجمعوا على تقديم أبي بكر، ثم نص أبو بكر على عمر، ثم أجمعوا بعده على عثمان، ثم على علي رضي الله عنهم. وليس يظن منهم الخيانة في دين الله تعالى لغرض من الأغراض، وكان إجماعهم على ذلك من أحسن ما يستدل به على مراتبهم في الفضل، ومن هذا اعتقد أهل السنة هذا الترتيب في الفضل ثم بحثوا عن الأخبار فوجدوا فيها ما عرف به مستند الصحابة وأهل الإجماع في هذا الترتيب. فهذا ما أردنا أن نقتصر عليه من أحكام الإمامة والله أعلم وأحكم.