المؤامرة ليست نظرية ... (1)
[محمد الوزيري ]

========================
أصحاب الأحكام الجاهزة نتفهم شعوركم بالهزيمة النفسية التاريخية. و لكن ليس إلى حد أن تكونوا عدميين ظلاميين إلى حد التنكر - عن علم أو جهل- للحقيقة الساطعة التي أنتم ضحاياها في الأصل


اليوم أصبحت كلمة "مؤامرة" محط سخرية ساقطة ، و تعرضت لمثل ما تعرضت له كلمة "مقاومة" و "ممانعة" و "ميليشيا" و "تحرير" و "ثورة" و "بعث" و "نهضة" و "مجد" . و هذا السقوط ليس ناتجا عن معلومات موثقة ، و إنما عن رؤية رغبوية أصبحت تعد نوعا من التمرد و الخروج عن الجماعة من أجل "التميز" و (بصو لي أنا مش زيهم)..


و دون إطالة كلام ، عندما نقول أن هذه الأمة تتعرض لمؤامرة تاريخية ، فليس لأننا فشلنا في تحقيق نجاح نفخر به كما يقول أصحابنا ، بل لأن حجم المؤامرة أكبر من حجم الإرادة الذاتية ، و المؤامرة تجاوزت الوعي المنتصر إلى صناعة الشعور الإنهزامي في نفوس الجماهير ..


دعوني أحصر الكلام في الأمة العربية .
عندما أقول هناك مؤامرة ، فليس كما تتوهم جماعة "التميز" أننا نيام و هناك حركة و قوى خفية تتآمر علينا و تصنع الأحداث وفق تصوراتها و كأنها رب الكون . بل إن هذه القوى فعلا موجودة و ليست خفية ، بل ظاهرة و تشتغل في وضح النهار. و لم نكن يوما نياما و متواكلين و ندعي أن العالم يتآمر علينا و يجعلنا في مؤخرة الأمم ، بل طورنا فعل "المقاومة" نظرية و تطبيقا ، فبرهنا على أننا لسنا كما يدعون .


و لم تأت كلمة "المقاومة" إلا من صميم ألم "المؤامرة" .. إن التفسير الوحيد لوجود المقاومة هو وجود المؤامرة ، و سترون أن أي موضع ظهرت فيه المؤامرة إلا و تجسدت فيه المقاومة ، و هذه سنة كونية منذ خلق الإنسان ، ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدّسُ لَكَ) ، سفك الدم ممارسة أزلية لا تأتي إلا من صميم "المؤامرة" ، أما إيقافه و نشر السلام فيأتي عن طريق "المقاومة" .


المؤامرة تدل على القوة و الكثرة ، أما المقاومة فتدل على الضعف و القلة . المؤامرة تملك قوة السلاح ، أما المقاومة فتملك قوة الإيمان . المؤامرة تنشر الموت في سبيل الإستكبار ، أما المقاومة فتنشر النضال في سبيل الحياة .


"قابيل" مؤامرة ، و "هابيل" مقاومة . جالوت مؤامرة ، و طالوت مقاومة . فرعون مؤامرة ، و موسى مقاومة . أولاد يعقوب مؤامرة ، و يوسف مقاومة . قريش مؤامرة ، و محمد مقاومة . يزيد مؤامرة ، و الحسين مقاومة . باتيستا مؤامرة ، و جيفارا مقاومة . و لم يذكر التاريخ قط المؤامرة في صورتها المرعبة إلا و ذكر إلى جانبها المقاومة في صورتها المكافحة.


هناك مؤامرة داخلية و مؤامرة خارجية .


أولا : المؤامرة الداخلية ..
و هذه في كل الأزمنة و الأجيال ، يقودها الرعاة ضد رعيتهم ، أو بالتعبير الحديث ، تقودها الأنظمة السياسية ضد شعوبها .
ففي المنطق ، إن خروج دولة احتلال من البلد المحتل يعني أن ينال ذلك البلد استقلاله السياسي و الجغرافي و الثقافي . و يشرع في بناء ذاته و تكوين أجياله و صناعة قوته الذاتية ..


و لكن منذ أن خرج ما يسمى "الإستعمار" الإحتلال ، من المشرق و المغرب العربيين لم يتحقق أي شيء مما سبق في أغلب الأقطار العربية ، و السبب أن ما سمي ب "الإستقلال" كان شكليا و صوريا فقط ، لأنه لم يخرج إلا بعد أن ضمن بقاء مصالحه إلى الأبد ، و ذلك عن طريق اتفاقيات سرية بين الإحتلال و النظام الذي يخلف الإحتلال و إليكم نموذج " اتفاقية إكس ليبان" بين الإحتلال الفرنسي و المغرب في 30 غشت 1955 التي جاء على إثرها الإستقلال الصوري .. فهل يمكن أن تشبهوا استقلال "سنغافورة" مثلا باستقلال "المغرب"؟! .


لا يمكن طبعا ، فإذا كان استقلال المغرب -و هو بلد متخلف يقبع في مؤخرة الدول- هو الإستقلال فماذا نسمي استقلال سنغافورة الدولة المتقدمة و الصاعدة إذن؟!! و من هنا نتحدث عن "المؤامرة" الداخلية التي نرى أعراضها و نتائجها على أرض الواقع دون التفصيل فيها . و أولئك الذين ينكرون استهزاء أن هناك مؤامرة ، فهم إما جاهلون بالتاريخ أو أنهم جبناء عن قول الحقيقة .


إذا كان تأبيد الجهل و الجشع الأخلاقي متشابه إلى حد كبير في المجتمعات العربية ، فإنه لم ينتج إلا عن اتفاقيات الإستقلال المذل للشعوب و الذي وقعه خلفاء الإحتلال المتمثلون في الأنظمة السياسية . و أقصد هنا تلك التي ركبت على نضالات المقاومات الشعبية و لم تدفع أي ثمن سوى المتاجرة بدماء الشهداء حينها .


ثم إليكم نموذج "اتفاقية النفط مقابل الأمن" المعروفة باتفاقية "كوينسي باكت" ، و التي وقعتها الويلات المتحدة الأمريكية مع السعودية في 14 فبراير 1945 . و فيها تتعهد أمريكا بتوفير الحماية التامة لعائلة سعود و تأبيد حكمهم ، و يتعهد أولاد سعود بتوفير جميع السوائل و الغازات الطاقية لأمريكا لمدى ستين عاما ، و تم تجديدها عام 2005 مع جورش بوش .


و أعود إلى جماعة "التميز" الذين يقفزون إلى اتهام شعب شبه الجزيرة العربية بالتخلف لأنه -حسب هرطقاتهم- خلق متخلفا ، إنما يجهلون هذه المعطيات التاريخية التي هي مؤامرات كبيرة من الأنظمة تجاه شعوبها . فإذا كانت ثاني أقوى قوة عالمية لم تستطع مجابهة أمريكا فكيف يجابهها السعوديون إذن ؟! أليست هذه مؤامرة واضحة المعالم و كاملة الأركان ؟! هل تعرف ماذا يعني التعمد بحماية عرش سعود ؟!


إنه يعني التصدي لأي حركة فردية أو جماعية تسول لها نفسها ذكر السلطان بسوء أو حتى الوصول إلى مركز قرار في المحمية . و لا يقتصر الأمر على الصراع السياسي العملي ، بل حتى الطرق التي تؤدي إلى الوعي السياسي النظري يتم طمسا و تهجينها ، مثل التعليم و دور الثقافة و المؤسسة الإعلامية و الصحافة و السينما و الفن .. كل ذلك يتم توجيهه لخدمة اتجاه واحد و هو استحمار العامة .. و إذا لم تكن هذه مؤامرة فأخبرونا ماذا تكون ؟!!


ثم هل قام الشعب المصري بتفويض السادات لكي يوقع أفظع و أقبح و أذل و أفضح و أغبى معاهدة في تاريخ الدبلوماسية العالمية ؟! أم أن السادات فعل ذلك غصبا عن العامة ؟! و عندما نقول السادات فإننا لا نتحدث عن شخص ، و إنما عن مؤسسة عسكرية بكامل ثقلها ، نتحدث عن القوة الأولى التي لا يعصى لها أمر في البلد .


ألم تكن تلك مؤامرة داخلية على شعب لم يستوعب بعد حتى تلك السنين الطويلة التي دمرت فيها (إسرائيل) و أحرقت و شوهت و قتلت من الشعب ما قتلت. ؟! فلو كان الشعب هو الذي يمثل نفسه ، هل كان ليوقع سلاما ذليلا خانعا على جثث أبنائه و أجيال مضت ؟


و النماذج كثيييرة جدا لا تحصى . قد يقول أحدكم ، إذا كانت الشعوب تراها مؤامرات فلم لا تتحرك ؟! . أعود و أقول إن مستوى الحركات التحررية مهما بلغ فإنه لن يتعدى منطق "المقاومة" كما ذكرت آنفا ، و اغتيال السادات كان أقوى رد على ذلك . لأن مستوى التآمر يكون أكبر و أعظم من مستوى المقاومة .


إذ لا يمكن لشعب ما زال يناقش مشاكل الأكل و الشرب و اللباس أن يناقش الدراسات المستقبلية و المشاريع الدولية على أرضه ، بكل بساطة لأنه يمثل الأغلبية ، و الأغلبية فيه لا تعرف مصلحتها . حتى حركة الضباط الأحرار جاءت عبر أقلية ، و الذين صنعوا التغيير كانوا أقلية تحولوا إلى أغلبية في الوطن ، و لكن عندما انبرى العدو الخارجي لمهاجمتهم أصبحوا حينها أقلية مقاومة في مواجهة أغلبية متآمرة . و هي ما نسميها المؤامرة الخارجية و نتحدث عنها في الجزء الثاني ......... يتبع .
____
محمد الوزيري
12-6-2019