تسريب أميركي لمشروع «الشرق الأوسط الكبير» - فهمي هويدي
نشر هذا المقال عام 2004
ليس المستهدف الشرق الأوسط وحسب، ولكنه العالم الاسلامي كله، والحديث الاميركي المتواتر عن تغييرات مرجوة في خرائط «المنطقة» يبدو انه كان أول الكلام وليس آخره، ان شئت فقل انه «الوجبة الأولى» من المخطط الاميركي لاحداث التغيير الذي يرفع راية «الحرب على الإرهاب»، وهذا ليس استنتاجا ولا هو استسلام لمنطق «المؤامرة» التي يصر بعض «الأبرياء» على نفي وجودها، ولكنه قراءة لاحداث الاخبار الآتية من العاصمة التركية أنقرة، ذلك ان صحيفة «يني شفق» (معناها الفجر) ونشرت في 1/30 الماضي خبرا مفاده ان الرئيس الاميركي جورج بوش عرض على رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان خلال استقباله في البيت الأبيض يوم الاربعاء الماضي 1/28 معالم المشروع الاميركي الجديد لـ«الشرق الأوسط الكبير»، الذي يمتد من المغرب حتى اندونيسيا، مرورا بجنوب آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز.
حسب الصحيفة فإن المشروع طبقا لما عرضه الرئيس الاميركي في لقائه مع اردوغان، جعل من تركيا عمودا فقريا، حيث تريد واشنطن منها ان تقوم بدور محوري فيه، حيث تتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي و«اعتدالها» الديني، لدرجة ان الرئيس الاميركي اقترح ان تبادر تركيا الى ارسال وعاظ وأئمة الى مختلف أنحاء العالم الاسلامي لكي يتولوا التبشير بنموذج «الاعتدال» المطبق في بلادهم.
عندي قرائن وشواهد عدة ترجح صحة الخبر، منها ان صحيفة «يني شفق» قريبة من أوساط الحركة الاسلامية التركية، ومحررها الرئيسي فهمي قورو الذي كان ضمن الوفد الصحفي التركي المرافق للسيد اردوغان أكد لي في اتصال هاتفي أجريته معه يوم الاثنين ـ أول أمس ـ في نيويورك انه هو الذي بعث بالخبر الى صحيفته، ضمن تقرير له عن الزيارة وقال ان كل الصحفيين الذين رافقوا رئيس الوزراء احيطوا علماً بالأمر، وقيل لهم ان الرئيس بوش عرض على اردوغان تفاصيل كثيرة لمشروعه، وان فكرة ارسال وعاظ وأئمة الى العالم الاسلامي كانت تسريبا من جانب العاملين في البيت الأبيض.
من تلك القرائن أيضا ان الادارة الاميركية لديها اقتناع قوي بأن النموذج التركي هو الأصلح للتطبيق في العالم الاسلامي، ومن ثم الأجدر بالتعميم لأسباب ثلاثة، أولها انه ملتزم بالعلمانية التي تهمش دور الدين الى حد كبير، بل وتعارض أي دور للدين في الحياة العامة، وهو مطلب تلح عليه واشنطن خصوصا بعد 11 سبتمبر، كما انها تمارس عندئذ أقصى ما تملك من ضغوط على الدول الاسلامية للاقتراب منه أو الالتزام به.
السبب الثاني ان تركيا تعتبر نفسها جزءا من الغرب، وموالاتها للولايات المتحدة ثابتة ولا شبهة فيها، وبالتالي فهي تعد جزءا من العائلة الغربية، وتحتفظ مع العالم الاسلامي بعلاقات شكلية.
السبب الثالث ان تركيا لها علاقاتها الوثيقة مع اسرائيل، الأمر الذي يلقى ترحيبا وتشجيعا كبيرين من جانب واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي.
لهذه الاعتبارات فإن تركيا تعد من وجهة النظر الاميركية الحليف النموذجي الذي ترشحه لكي يؤدي الدور الرائد في مشروعها ليس فقط لترويض المنطقة، ولكن أيضا لتقديم نموذج الاسلام الذي تتوافر فيه شروط الاعتدال كما تراها واشنطن.
من القرائن الدالة على صحة الخبر أيضا ان ما سمي بمشروع الشرق الاوسط الكبير ينسجم مع هدفين رئيسيين للولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، أولهما تحديد جبهة الحرب الاميركية ضد الإرهاب، وثانيهما التقدم الى الأمام صوب تحقيق حلم الامبراطورية الاميركية، وصياغة ما سمي بالقرن الاميركي، وللعلم فإن حلم الامبراطورية الاميركية ليس طموحا سياسيا لدى بعض عناصر الادارة الاميركية فحسب، ولكنه أيضا عقيدة إيمانية لدى البعض الآخر، والأخيرون هم الأصوليون الانجيليون الذين يعتبرون المسلمين أشرارا، وعائقا يحول دون تنفيذ «إرادة الله» التي يرونها متمثلة في وجوب دعم اسرائيل وبناء الهيكل (في مكان المسجد الأقصى بالقدس) قبل وقوع معركة «هرمجيدون» الفاصلة بين الخير والشر، وهي التي تسبق بالضرورة العودة الثانية للمسيح، التي سيعقبها دخول جميع اليهود في المسيحية، الأمر الذي يمهد الطريق لتحقيق الهدف النهائي المتمثل في تمسيح العالم بأسره!
قبل انتهاء الحرب الباردة كان حرص الولايات المتحدة منصبا على اقامة الأحلاف في العالم العربي والاسلامي لمواجهة الاتحاد السوفيتي، وكان غاية أملها ومناها أن تضم الى تلك الأحلاف أكبر عدد ممكن من الدول العربية والاسلامية، ولكن الأمر اختلف تماما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حيث انفتحت شهية البعض لبسط الهيمنة الاميركية على العالم، ومنع ظهور أية قوة يمكن أن تنافسها أو تتحدى ارادتها في الحاضر أو المستقبل، وبعد وصول الرئيس بوش الابن الى صدارة البيت الأبيض انتعشت آمال القوى اليمينية الأصولية المتحالفة مع الصهيونية في التمدد خارج الحدود، وتحقيق الهيمنة المنشودة، التي التقى عليها الطرفان، الراغبون في اقامة الامبراطورية الاميركية، والمتطلعون الى تمسيح العالم والتقرب الى الله بمساعدة اسرائيل وإلحاق الهزيمة الكاملة بالعرب والمسلمين.
ان ما يطلق عليه «الشرق الأوسط الكبير» يشمل في حقيقة الأمر العالم العربي والاسلامي (الآسيوي بوجه أخص)، الأمر الذي يشير بوضوح الى ان هذه المنطقة هي المستهدفة في مخططات الاخضاع وبسط الهيمنة، وما الحاصل في افغانستان والعراق من ناحية، وما الضغوط التي تمارس على باكستان وبقية الدول العربية لاحداث التغييرات الداخلية في مجالات السياسة والاعلام والتعليم، هذه الأمور كلها ينبغي أن تقرأ بحسبانها خطى على ذلك الطريق.
بطبيعة الحال فإن الادارة الاميركية مشغولة الآن بكسب معركة الانتخابات الرئاسية التي يحين موعدها في شهر نوفمبر المقبل، ولذلك فاننا لا نتوقع أن تنشط جهود بناء المشروع إلا في الحدود التي تخدم الحملة الانتخابية المرتقبة، ذلك ان اجراء الانتخابات الرئاسية في افغانستان ـ مثلا ـ وتسليم السلطة في العراق واجراء بعض الاصلاحات التجميلية في بعض الدول العربية، من شأنه أن يبيض صفحة الرئيس بوش، ويعطي انطباعا للناخب الأميركي بأنه يحقق انجازات على تلك الأصعدة، تشهد بالدور «الرسالي» الذي تقوم به الولايات المتحدة.
إزاء ذلك فمشروع «الشرق الأوسط الكبير» هو مشروع الولاية الثانية للرئيس بوش، على فرض اعادة انتخابه بطبيعة الحال، وذلك كله سيصبح في مهب الريح اذا فشلت مراهنته على استتباب الأوضاع في العراق وافغانستان، علما بأنه تجاهل القضية الفلسطينية في خطاب الاتحاد الأخير لأنها تجسد إحدى ساحات الفشل الناجم عن الانحياز الاميركي لاسرائيل، الذي يتضاعف هذه الأيام بوجه أخص في أجواء حملة الانتخابات الرئاسية.
بل لعلي لا أبالغ اذا قلت ان مصير الرئيس بوش أصبح مرتبطا بمصير المقاومة العراقية بوجه أخص، وهذا ما يقوله الاميركيون أنفسهم، حتى سمعت من أحدهم قوله ان مسألة العراق أصبحت بالنسبة الى الرئيس الاميركي مسألة «حياة أو موت».
اذا صح ذلك التحليل فإن ما يخططه الاميركيون للعالم العربي أو لما يسمى بـ«الشرق الأوسط الكبير» يصبح معلقا بدوره على مصيرالمقاومة العراقية، وتلك شهادة لصالح المقاومة بقدر ما انها شهادة ضد العالم العربي، الذي تراجع وزنه كثيرا في الساحة الدولية، وأصبح كثيرون يرونه مجرد كيان جغرافي، وفي أحسن أحواله واحدا من مصادر الطاقة. وفيما عدا ذلك فليست له قيمة سياسية أو ثقل يذكر. وإزاء ما شاع عنه من ضعف وهشاشة فإن الولايات المتحدة تحديدا اصبحت تتعامل معه باعتباره منطقة رخوة ومنزوعة العافية، تصلح لأن تكون مختبرا لتطلعاتها المختلفة مهما كانت درجة جموحها أو تطرفها.
اننا لا نستطيع أن نلوم الولايات المتحدة حينما نتصور ان بوسعها اعادة تشكيل العالم الاسلامي بأسره، وليس العالم العربي وحده، وان كنا نستغرب مراهنتها على ذلك وتصورها ان أمراً بهذه الجسامة يمكن ان يمر بهدوء أو يتحقق بغير تكلفة، ولكن لومنا ينبغي ان يوجه الى الذين أعطوا انطباعا للادارة الاميركية بأن فضاء المنطقة قابل للتشكيل على أي وجه، وبأن الأمة العربية قد استسلمت ورفعت الرايات البيضاء، وأصبحت جاهزة للانصياع لكل ما يفرض عليها من أوضاع ومخططات، وأظن أن مصير الرهان سوف يحسم مع نهاية العام، ولذلك فان انتظارنا لن يطول كثيرا.