كانت الكهنة العرب لهم أتباع من الشياطين يسترقون السمع ويأتونهم بالأخبار، فيلقونها لمن يتبعهم، ويسألهم عن خفيات الأمور حتى جاء الإسلام، فمنعت الشياطين من استراق السمع، كما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه العزيز " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً " فعند ذلك انقطعت الكهانة فلم يسمع في الإسلام بكاهن، وهذا من معجزات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوال الإشكال في الوحي، فمن أخبار الكهنة، خبر سطيح الكاهن حين ورد عليه ابن أخته عبد المسيح وهو يعالج الموت، فأخبره خبر ما جاء لأجله، وذلك أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقط منه أربع عشرة شرفةً، وخمدت نار فارس، ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام، وغارت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد فارس، فلما أصبح كسرى تصبر تشجعا ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرزبته، فلبس تاجه، وقعد على سريره، وجمعهم وأخبرهم الخبر فبيناهم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار فازداد غماً وسأل الموبذان وكان أعلمهم فقال: حادثٌ يكون من قبل العرب، فكتب كسرى إلى النعمان ابن المنذر: أن وجه إلي رجلاً عالما بما أريد أن أسأله عنه فوجه إليه عبد المسيح بن حسان بن نفيلة الغساني فقال له كسرى: أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرني الملك فإن كان عندي منه علم، وإلا اخبرته بمن يعلمه، فأخبره بما رآه فقال: علم ذلك عند خالٍ لي يسكن مشارق الشام يقال له: سطيح، فأرسله كسرى إليه فورد على سطيح وقد أشفى على الموت فسلم عليه وحياه فلم يحر سطيحٌ جوابا فأنشد يقول:
أصم أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاز فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن ... وكاشف الكربة عن وجه الغضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن ... وأمه من آل ذئب بن حجن
أزرق ممهى الناب صرار الأذن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يسري بالوسن ... لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
يجوب في الأرض على ذات شجن ... ترفعني وجناً وتهوي بي وجن
حتى أتى عاري الجآجي والقطن ... تلفه في الريح بوغاء الدمن
كأنما حثحث من حضني ثكن
ففتح سطيح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جملٍ مشيح، أتى إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد فارس، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوه، وبعث صاحب الهراوه، وفاض وادي السماوه، وغاصت بحيرة ساوه، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، ولا بابل للفرس مقاما، يملك فيهم ملوك وملكات، بعدد الشرفات، وكل ما هو آت آت، ثم قضى سطيح لوقته، فثار عبد المسيح إلى رحله وهو يقول:
شمر فإنك ماضي العزم شمير ... لا يفزعنك تفريقٌ وتغيير
إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوارٌ دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابورٌ وشابور
والناس أولاد علاتٍ فمن علموا ... أن قد أقل فمحقورٌ ومهجور
وهم بنو الأم أما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرنٍ ... فالخير متبع والشر محذور
فلما قص الخبر على كسرى قال: إلى أن يملك منا أربعة عشر تكون أمورٌ، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى زمن عثمان رضي الله عنه.