الدراسات العربية للتراث الأندلسي لم تأت إلا على نزر قليل منه
حاوره: محمد باوزير
أدرك الدكتور سعيد المالكي أستاذ الأدب الأندلسي بآداب جامعة الملك عبدالعزيز أهمية التراث الأدبي والفكري الأندلسي وجدوى دراسته وتحليله فأخذ على نفسه أن يتعمق في دراسة هذا التراث الذي يشكل جزءاً هاماً من تراثنا العربي ناهيك عما تميز به هذا التراث من ابتكار أنماط جديدة في الشعر العربي إلى جانب ابتكاره لأغراض جديدة في الموضوعات الشعرية كوصف الطبيعة ورثاء المدن.
ولما وجد الدكتور المالكي أن الدراسات العربية التي عالجت التراث الأندلسي درساً وتحقيقاً كانت في مجملها لا توازي هذا التراث الضخم، زاد من إيمانه بأهمية اكتشاف معالم جديدة في هذا التراث فتوقف أمام تجربة الأديب والوزير والشاعر لسان الدين بن الخطيب وأخذ في تحليل تجربته الشعرية واستكناه قدرته الإبداعية، فخرج بعد جهد طويل بمحصلة معرفية كشفت وأوضحت عن أهمية هذه التجربة.
ولم يستكن الدكتور المالكي عند هذا المنجز بل هو يعكف الآن على تحقيق مخطوطة (الحديث شجون شرح الرسالة الجدية لابن زيدون) للأديب المكي جعفر لبني ويتطلع إلى إنجاز دراسة عن الأدب السعودي باللغة الأسبانية ليعكس من خلالها ما وصلت إليه الحركة الأدبية في المملكة.
وهو يرأس الآن اللجنة الثقافية بكلية الآداب بالجامعة ويسعى من خلالها إلى تفعيل دورها.
"ثقافة اليوم" توقفت مع الدكتور المالكي لتقدم له حزمة من الأسئلة عن الأدب الأندلسي فكانت هذه الإجابات:
@ ما مرد اختيارك دراسة الأدب الأندلسي والتخصص فيه، بالرغم من وجود تيارات أدبية حديثة هي أقرب للمعاصرة؟
- الأدب الأندلسي بطبيعته أدب يحبذه الكثير من متذوقي الأدب العاديين، هذا ناهيك عن كونه أنه يستميل إليه العديد من أفئدة أهل الاختصاص في الأدب والنقد، ومرد ذلك والباعث عليه، هو ما يميز هذا الأدب عن غيره من العصور الأدبية الأخرى في تراثنا الأدبي، فهو أدب تمتاز قسماته - بالعذوبة ومعانيه بالوضوح وألفاظه بالرقة، كما أن تاريخه الأدبي حافل ببوتقة جميلة من الأحداث - المشوقة والأخبار المتنوعة، كما لا يمكن أن نغفل المساحة الزمنية التي عاش خلالها هذا الأدب والتي امتدت قرابة ثمانية قرون، إذ أنه أمر يتيح لدارس الأدب ومتذوقه الإبحار الممتع وسط هذا الثراء المعرفي ويوفر له العديد من الخيارات المختلفة، أضف إلى ذلك أن نشأة هذا الأدب في أقصى الغرب وفي بيئة جديدة كلياً، لم يعهدها العرب من قبل. ثم فقدان موطن هذا الأدب وضياعه لا بد وأنه ساهم بشكل قوي في لفت أنظار متابعي الأدب ومرتاديه إلى هذا الفردوس الأدبي المفقود.
هذه المعطيات جميعها كفيلة بأن تجذبني نحو هذا النوع من الأدب، بل إنها دفعتني إلى أن يكون هو مدار اختصاصي في مرحلة الدراسات العليا للماجستير والدكتوراه.
@ هل صحيح ما يشاع عن الأدب الأندلسي أنه ما يزال زاخراً بالآداب والحضارة الإسلامية التي تبحث عمن يقدمها للمتلقي بعد درسها وتحقيقها؟
- الفكر الأندلسي عبر امتداده العريض كماً واتساعه الكبير زمناً ترك لنا تراثاً ضخماً وحضارة عريقة في مجالات شتى من العلوم والمعارف، وحظ الأدب ضمن ذلك كان حظاً وافراً وغزيراً والدراسات العربية لم تأت إلا على جزء يسير ونزر قليل من التراكمات المعرفية للفكر الأندلسي، فهناك جوانب عديدة إن في الأدب أو في مجالات أخرى، كالتاريخ والفلسفة مثلاً لم يتم التطرق لها. لكن - هنا - تجدر الإشارة إلى أن الدراسات الأسبانية للتراث الفكري الأندلسي، لا سيما الأدبية منها أكثر عمقاً وأفضل تنظيماً من الدراسات العربية المقابلة، هذا في حال غضِّنا الطرف عن جهود التحقيق العربية التي أخرجت لنا مكنونات الفكر الأندلسي.
إن عمق وتنظيم الدراسات الأسبانية الحديثة تتمثل في تضافر الجهود وتوحيد الأهداف وترجمتها فعلياً في إنشاء العديد من المراكز الفكرية والمؤسسات المعرفية، بحيث تضم كل مؤسسة معرفية أو مركز فكري عدداً من الباحثين والأكاديميين المختصين، وهذه الجهات تتبنى توجهات موحدة ورؤى محددة تجاه مناقشة قضية فكرية أو دراسة شخصية إبداعية في التراث الأندلسي، فنجد مثلاً مؤسسة ابن الخطيب التي تهتم بالدراسة والبحث في تراثه الفكري المتنوع ما بين: أدب وتاريخ وفلسفة وطب وفلك وغير ذلك، والأمر نفسه نجده في مؤسسة ابن خلدون، وكذلك مؤسسة ابن زيدون، في حين أن مؤسسة ابن الطفيل لا تقف عند حدود فكر وتراث ابن الطفيل المعرفي، بل تمتد إلى مناقشة عدد من القضايا الأخرى، لعل من أبرزها الاهتمام بإصدار موسوعة أندلسية ضخمة للشخصيات الفكرية الأندلسية والتي أصدرت منها المؤسسة حالياً ثلاثة أجزاء وتبقى ثلاثة أخرى، وقد اشترك في هذا العمل الضخم مجموعة كبيرة من الأكاديميين الأسبان.
@ اتخذت من الكاتب والشاعر لسان الدين بن الخطيب محوراً لنيل شهادة الدكتوراه، ما أبرز السمات الفنية والأغراض التي خرجت بها من تجربته الشعرية؟
- بفضل الله ناقشت في رسالة الدكتوراه التي حصلت عليها من جامعة كومبلوتني بمدريد موضوعاً باللغة الأسبانية تحت عنوان: (البناء الفني في شعر لسان الدين بن الخطيب) بإشراف المستشرقة الأسبانية الدكتورة ماريا تيريسا قارولو، وقد جاءت الرسالة في ثلاثة فصول: الأول منها التجربة الشعرية عند ابن الخطيب، في حين كان فصلها الثاني: البناء الداخلي، أما فصلها الثالث: البناء الخارجي في شعر ابن الخطيب، ولعل مما تميزت به هذه الأطروحة هو ترجمة أكثر من 300بيت من ديوان ابن الخطيب، وربما شجع ذلك غيري من الباحثين الأسبان على إنجاز ما تبقى، كما أن هذه الأطروحة وبإشادة أعضاء لجنة المناقشة كان فصلها الأول بمثابة أطروحة دكتوراه مستقلة، لتميز معطياته والجدة في طرحه، وهو ما قد يدفعني إلى ترجمته إلى العربية، فقد ناقش التجربة الشعرية عند ابن الخطيب من خلال ثلاثة محاور هي:
1- مفهوم الشعر عند ابن الخطيب.
2- المؤثرات في شعره.
3- مراحل التكوين الشعري عند ابن الخطيب.
لقد كشفت هذه الرسالة النقاب عن القدرة الفنية عند ابن الخطيب في المجال الشعري، حيث أبرزت الرسالة النهج الشعري الخاص بابن الخطيب، والذي لم يقف عند حدود الموهبة الشعرية، بل امتد إلى آفاق مميزة من الصنعة الشعرية.
@ هل الملامح الأدبية في الأندلس تحمل تشابهاً كبيراً في العصور والمضامين والأغراض مع أدب المشارقة؟
- احتلت قضية كون الأدب الأندلسي مقلداً أم مبتكراً بالنسبة للأدب المشرقي مساحة شاسعة في الدراسات الأدبية حديثاً وقديماً، ولذلك ترددت مقولة (بضاعتنا رُدتء إلينا).
والحق أن الأدب الأندلسي شب عن الطوق وكوَّن لنفسه شخصية مستقلة ومميزة، ممثل ذلك أولاً في توسع شعراء الأندلس في نظم عدد من الموضوعات الشعرية: كوصف الطبيعة، ورثاء المدن، وشعر الاستصراخ والاستنجاد حتى وكأن هذه الأغراض هي من اختراعهم دون غيرهم لتميزهم الفني فيها، ويتمثل ثانياً في اختراعهم لفني الموشحات والزجل اللتين فاقوا عبرهما أهل المشرق بصورة لا تقبل الجدال.
@ كيف يرى الأدب الأسباني المعاصر صورة الأدب العربي الحديث، لا سيما بعد بروز كثير من الأدباء والشعراء والمفكرين العرب وحضورهم في الذهنية الغربية؟
- المنصفون من الأدباء الأسبان ينظرون إلى الأدب العربي في عمومه نظرة إعجاب وتقدير، ولذا ظهرت العديد من الترجمات للشعر العربي القديم، لعل من أبرزها جهود الأديب الأسباني الكبير قارثيا قوميث، وترجمة الأديب المعروف ميجل آسين بلاثيوس الرائعة لشعر ابن عربي الصوفي والتي بلا شك اطلع عليها الجيل السابق من كبار الشعراء الأسبان وربما تأثر بها عدد منهم، أمثال: انطونيو ماتشادو، وخوان رامون خمينيث الحاصل على جائزة نوبل للأدب عام 1956، وكذلك لوركا، ورفائيل البرتا.
وقد واصل الأدباء الأسبان إعجابهم وتقديرهم بالأدب العربي الحديث فظهرت العديد من الدراسات والترجمات لأعمال أدبية عربية حديثة شعراً ونثراً، فظهر الاهتمام بترجمة بعض أعمال نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتي، الذي اهتم بترجمة شعره الأكاديمي آربوس.
@ ما الذي سيقدمه الدكتور سعيد المالكي للمكتبة العربية في قادم الأيام؟
- أتمنى أن أقدم للمكتبة العربية نتاجاً مميزاً يضيف لها شيئاً ذا بال، ولذا أنا بصدد ترجمة رسالة الماجستير وهي عبارة عن دراسة لمخطوطة (الحديث شجون شرح الرسالة الجدية لابن زيدون) للأديب المكي جعفر اللبني، كما أنني قد شارفت على الانتهاء من تحقيق المخطوطة، وأتمنى أن أجد من يدعم نشرها وتوزيعها لا سيما أولئك المهتمين بتحقيق التراث المكي.
@ عرف عن الدكتور سعيد المالكي أنه كان أحد أعضاء المجتمع الصحفي من خلال عمله بصحيفة الندوة في قسمها الثقافي قبل ابتعاثه لأسبانيا، فهل نرى عودتك مرة أخرى للصحافة؟
- المجال الصحفي أرضية خصبة للإبداع وتحقيق الذات، وهي أهداف أسعى لتحقيقها، ولذا كنت طيلة ابتعاثي لأسبانيا أبحث عما يقوي حضوري في البيئة الصحفية، وهو ما تحقق عبر قيامي بدور المنسق الإعلامي لعدد من المؤتمرات العالمية في أسبانيا، وكذلك حصولي على دبلوم في الصحافة والنشر الإلكتروني والتدرب على عدد من البرامج الإلكترونية في هذا المجال، لكن لا بد أن أجد فرصة جيدة ومناسبة استطيع أن أعود من خلالها إلى الوسط الصحفي.
المصدر