ولما اقترب من بيت المقدس خرج إليه أعيانها يعرضون عليه الصلح، فقال لهم إنه يعتقد كما يعتقدون هم أن هذه المدينة بيت الله، وإنه لا يرضيه أن يحاصرها أو يهاجمها. وعرض على أهلها أن تكون لهم الحرية الكاملة في تحصينها، وأن يزرعوا ما حولها من الأرض إلى ما بعد أسوارها بخمسة عشر ميلاً دون أن يقف أحد في سبيلهم، ووعدهم بأن يسد كل ما ينقصهم من المال والطعام إلى يوم عيد العنصرة، فإذا حل هذا اليوم ورأوا أن هناك أملاً في إنقاذهم، كان لهم أن يحتفظوا بالمدينة، ويقاوموا المحاصرين مقاومة شريفة، أما إذا لم يكن لهم أمل في هذه المعونة، فإن عليهم أن يستسلموا من غير قتال، وتعهد في هذه الحال أن يحافظ على أرواح السكان المسيحيين وأموالهم . ورفض المندوبون هذا العرض، وقالوا إنهم لن يسلموا المدينة التي مات فيها المسيح منقذ الخلق(31). ولم يطل حصار المدينة أكثر من اثني عشر يوماً، ولما أن استسلمت بعدها فرض صلاح الدين على أهلها فدية قدرها عشر قطع من الذهب (47.50؟ ريالاً أمريكياً) عن كل رجل، وخمس قطع عن كل امرأة، وقطعة واحدة عن كل طفل، أما فقراء أهلها البالغ عددهم سبعة آلاف فقد وعد بإطلاق سراحهم إذا أدوا إليه الثلاثين ألف بيزانت (270.000؟ ريال أمريكي) التي بعث بها هنري الثاني ملك إنجلترا إلى فرسان المستشفى. وقبلت المدينة هذه الشروط "بالشكر والنحيب" على حد قول أحد الإخباريين المسيحيين، ولعل بعض العارفين من المسيحيين قد وازنوا بين هذه الحوادث وبين ما جرى في عام 1099. وطلب العادل أخو صلاح الدين أن يهدي إليه ألف عبد من الفقراء الذين بقوا من غير فداء، فلما أجيب إلى طلبه أعتقهم جميعاً؛ وطلب بليان Balian زعيم المقاومين


المسيحيين هدية مثلها، وأجيب إلى ما طلب، وأعتق ألفاً آخرين، وحذا حذوه المطران المسيحي وفعل ما فعل صاحبه، وقال صلاح الدين إن أخاه قد أدى الصدقة عن نفسه، وإن المطران وباليان قد تصدقا عن نفسهما، وإنه يفعل فعلهما، ثم أعتنق كل من لم يستطع أداء الفدية من كبار السن؛ ويلوح أن نحو خمسة عشر ألفاً من الأسرى المسيحيين بقوا بعدئذ من غير فداء فكانوا أرقاء. وكان ممن افتدوا زوجات وبنات النبلاء الذين قتلوا أو أسروا في واقعة حطين. ورق قلب صلاح الدين لدموع أولئك النساء والبنات فأطلق سراح من كان في أسر المسلمين من أزواجهم وآبائهن (ومن بينهم جاي) أما "النساء والبنات اللاتي قتل أزواجهن وآباؤهن فقد وزع عليهن منه ماله الخاص ما أطلق ألسنتهن بحمد الله، وبالثناء على ما عاملهن به صلاح الدين من معاملة رحيمة نبيلة" ذلك ما يقوله إرنول Ernoul مولى باليان.
وأقسم الملك والنبلاء الذين أطلق سراحهم ألا يحملوا السلاح ضده مرة أخرى، ولكنهم ما كادوا يشعرون بالأمن في طرابلس وإنطاكية المسيحيتين حتى أحلهما حكم رجال الدين من يمينهما المغلظة، وأخذ يدبرا الخطط للثأر من صلاح الدين(23). وأجاز السلطان لليهود أن يعودوا إلى السكنى في بيت المقدس، وأعطى المسيحيين حق دخولها، على أن يكونوا غير
وكان احتفاظ المسيحيين بمدائن صور أنطاكية، وطرابلس مما ترك قلوبهم إثارة من الأمل


عن قصة الحضارة لول ديورنت