بحيرى الراهب يبشر بسيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم

عن داود بن الحصين قال:
لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المرة الأولى،وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فلما نزل الركب بصرى من الشام وبها راهب يقال له بحيرى فيصومعة له، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه.
فلما نزلوا بحيرى وكان كثيراً ما يمرون به لا يكلمهم حتى إذا كان ذلك العام ونزلوامنزلاً قريباً من صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا، فصنع لهم طعاما ثم دعاهم،وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وسلممن بين القوم حتى نزلوا تحت الشجرة، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة، واخضلتأغصان الشجرة على النبي صلى الله عليه وسلم حين أستظل تحتها، فلما رأى بحيرى ذلك نزلمن صومعته وأمر بذلك الطعام فأتي به وأرسل إليهم.

فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يامعشر قريش، وأنا أحب أن تحضروه كلكم ولا تخلفوا منكم صغيراً ولا كبيراً حراً ولا عبداً،فإن هذا شيء تكرموني به.
فقال رجل: إن لك لشأناً يا بحيرى ما كنت تصنع بنا هذا، فماشأنك اليوم؟

قال: فإني أحببت أن أكرمكم ولكم حق فاجتمعوا إليه.
وتخلف رسول الله صلىالله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه ليس في القوم أصغر منه في رحالهم تحتالشجرة.
فلما نظر بحيرى إلى القوم، فلم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده، وجعل ينظر ولايرى الغمامة على أحد من القوم ويراها متخلفة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال بحيرى: يا معشر قريش لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي.
قالوا ما تخلف أحد إلا غلام هوأحدث القوم سنا في رحالهم فقال: ادعوه فليحضر طعامي، فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجلواحد مع أني أراه من أنفسكم، فقال القوم هو والله أوسطنا نسبا، وهو بن أخي هذا الرجليعنون أبا طالب، وهو من ولد عبد المطلب.
فقال الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف: واللهإن كان بنا للؤم أن يتخلف بن عبد المطلب من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه، وأقبل بهحتى أجلسه على الطعام والغمامة تسير على رأسه، وجعل بحيرى يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى
أشياء في جسده قد كان يجدها عنده من صفته.
فلما تفرقوا عن طعامهم قام إليه الراهبفقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم لا تسألني باللات والعزى، فو الله ما أبغضت شيئا بغضهما.

قال: فباللهإلا أخبرتني عما أسألك عنه.
قال: سلني عما بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله حتىنومه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بينعينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضع الصفة التي عنده.
قال:فقبل موضع الخاتم، وقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا، وجعل أبو طالب، لما يرىمن الراهب، يخاف على ابن أخيه.
فقال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟
قال أبو طالب:ابني.
قال: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا.
قال: فابن أخي.
قال: فمافعل أبوه؟
قال: هلك وأمه حبلى به.
قال: فما فعلت أمه؟
قال: توفيت قريبا.
قال: صدقت، ارجعبابن أخيك إلى بلده، وأحذر عليه اليهود فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليبغنهعنتا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا، وما روينا عن آبائنا، وأعلمأني قد أديت إليك النصيحة.
فلما فرغوا من تجاراتهم خرج به سريعاً، وكان رجال من يهودقد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه، فذهبوا إلىبحيرى، فذاكروه أمره، فنهاهم أشد النهي، وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم، قال: فما لكمإليه سبيل فصدقوه وتركوه.

د. أبو شامة المغربي