* المقامة الحُوشيّـــــة
بقلم : البشير بوكثير / الجزائر

*الحُوشِيّ من الكلام : وحشيُّه وغريبه .

حدّثنا كاهن الدّشرة في حسرة،بكلام أعدْتُه ألف مرّة، ولم أفهمْه بالمَرّة، فتجرّعْتُه علقما مُرّا ..قال:
يافارس البيداء، وياليْث الصّحراء، اطرحْ فكر الدّهماء، ودعْ عنك نقدَ الغوغاء، وخُذْ من حكمة الحكماء وبلاغة البُلغاء، ما يخفّف عنك الأرزاء والأعباء .
قلتُ: هاتِ يا بليغ البلغاء، ويا حكيم الحكماء ...
قال: خُذْ عنّي ، واسمع منّي ، ولاتُخيّب ظنّي ...
يابشير الخير ...أنتَ نسيجٌ وحدك، ولو وقفَ الجميعُ ضدّك...
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا ** إنّ الحياةَ عقيدةٌ وجهاد .
لاتكترثنّ بالقيل والقال... فكم من لبيب أريب رمَوْه بالخبال، وجاهلٍ نصّبوه أميرا للبيان وللخيال ، لأنّه حاز الجاه والمال .
ولله درّ من قال:
إنّ الدّراهم كالمراهم ** تجبر العظم الكسيـــــرا
لو نالهُنّ ثُعيْلــــــــبٌ ** في صُبحه أضحى أميرا
يا بشير ...
ازرع الأزهار، وانثر النّوّار، في طريق الأخيار كما الأشرار، فلابدّ يوما أن تورق الأزهار، وتنضج الثّمار،وتطلع شمس النّهار، ويشدو البلبل والهزّار، وستحصد يوما الشّذى الفوّاح، والورد الأقاح،ولاتنتظر الشّكر من قاتلي الأشجار، وزارعي الخراب والدّمار، "فمن يبذر الشّوك يجنِ الجراح"...

يا بشير الخير ..الدّنيا لازالتْ بخير ، فأكثرْ من عمل الخير ،ولاتلتفت لِما يقوله الغير ...

فَبِناء الإنسان قبل بناء الحيطان والجدران...فكم من هياكل بلا روح، وأزهار بلا فَوْح، وأشعار بلا نبض ولا بوْح ، احتار فيها سيّدنا نوح !

كنّا أمّة إسراء ومعراج، فصرنا أمّة تهريج تهيم في الفجاج ،بل صرنا أمّة نِعاج ، حين قادنا دعاةُ فتنةٍ و اعوجاج، وأمراء علوج يحتاجون إلى علاج ...

الإسلام دينُ علم ورفعُ هامة، وليس تقصير لحية وإطالة عمامة ...

ما أضرّ بالإسلام سوى رهطٍ سُخْط، ادّعوا خدمة الإسلام والأنام، وهم نيام ، بلا عقول ولا أحلام ، نَشَروا الفكر الهدّام ، فأطلقوا سراح الغراب وسجنوا الحَمام ...

يا بشير الخير...

لقد انتشروا في البطاح، وسجنوا الشّذى الفوّاح، وأزهقوا العقول ومعها الأرواح، وتنكّروا لفكر " البنّا" و"النّحناح"، حين تعمْلقَ فيهم " الدَّحْداح"...!

ادّعوا التّضحية بالنّفس والنّفيس، حين حمِيَ الوطيس ، وتعنّز التّيس، ودُقّتِ الأعناق بــ"الفَطيس" ..

هذه سنَةٌ جدباء حَسُوس، انتشر فيها الجراد والسّوس، وانتعش فيها فعلُ "ساسَ -يسوس" ، فكانتْ بحقّ أشأم على الأمّة من "ناقةِ البسوس"... هذا "زهْركْ يا المتعوس "...!

أضحى سجْعُ القُمريّ غير مسموع، وبيان "سحبان" غير مسجوع، والقلب مكلوم مفجوع، والرّعيّة ينهشها الجوع "الدّيْقوع"، و غَدتِ الدّهماءُ تقتاتُ على الجيفة و"المصروع" ...

نساؤكم كالحرّ اللّافح، والغراب الفائح، شرّهم كاشح فاضح، ورجالكم في المقاهي والملاهي بين غادٍ ورائح ، يختلفون في فقه "المُنافِح"، و يتّفقون على فقه "نكاح المُسافح "!

أمّا شبابكم فأحلامهم كأحلام "الدّيلم"، وآمالهم كآمال صغار "الغيلم"، بل سلعتهم ولسعتهم كلسعة"الخشرم".. وحين تبعد عنهم العنب يقولون لك: إنّه "حصرم"...

تسمع لهم جعجعة وبعبعة، ولاترى لهم طحنا في المعمعة ، تسمع طورا صرصرة وقرقرة، وتارة عرعرة تعتريها غرغرة ، لكن لن تجد فيهم فُتوّة "عنترة"،ولابأس "حيدرة"..

اقتل "الخِشاش" يا "أبا خراش"، ودعْ عنك "الخشخاش"، فذاك إكسير الأوباش ، وعقيدة رهط كلّ "قرمطيّ حشّاش "... ولاتسلني عن مُفكّريكم، فأنتَ أدرى بواقع الحال، أيّها "الرّئبال"، فقد اعتلى المنابر كلّ "زَعِر"و " عَزْور"، في الملأ يزأر، ولايرعوي ولا يزْورّ ،بينما أُبعِد السّميذع الجحْجاح، الذّي يرتشف من ماء ضحْضاح، وهذا "محمد العيد آل خليفة" هزّته الأريحيّة فرحّب بالسّميذع الجحْجاح في زمن الأقحاح ، فأثلج الصّدور حين صاح :

جحاجحةٌ عُرْبُ القرائح واللُّغى **فأهلا وسهلا بالجحاجحة العُرْب .

كسدتْ تجارة سوق "عكاظ"، لمّا تصدّر المجلسَ أشباهُ وُعّاظ، ونُقّاد يقودهم "مُرتاض"، بلكنةٍ جعلت قلبي يغتاظ ، فتبكي الحيّة "النّضناض"، بعد أنْ صامتْ عن نفث السّمّ وفاء لسوق عكاظ ..

أمّا إعلامكم فَطعناتُه نجلاء قاتلة، ووخزاتُه مُدمّرة هائلة، وضغائنه بالشّرّ مُتدفّقةٌ سائلة، وهذه جرائر "الجريرة" في الأذهان لاتزال ماثلة ...

فقد ساد "القرضوب"و"الثّعلوب" ، وهُمّش العنتريّ والشّيبوب ، وحُورب "الغطريف"الظريف، وقُرّبَ الداعر السّخيف ..

أمّا مشايخكم فَديْدنهم : التّشدّق ، والتّملّق، والتّحذلق، والتّنطّع والتّمنطق، حتى ضحك من عيّهم "الشّمقمق"،فراحَ يمزج الفستق بالبندق،ويصيح على بساط الرّيح : هاكم الخليط المُفسْتق، لتخصيب مفاعلكم "المنوي" المُعتّق ،علّكم تعيدون مَلْهاةَ "دليلة والزّئبق"...فهل وعيتَ كلامي يا أحمق؟

أمّا ملوككم فثغاء ورغاء ، وعواء ومواء، وعويل وبكاء، لا شهامة ولانخوة بل شهوة تعقبها رغوة، لاعهد ولاميثاق، بل عهر ونفاق، ونعيق وسُعار وخُناق...

جرّعوا الحرائر والأحرار كؤوس الحنظل واليأس ،وجزّوا رقاب الأبرار بالسّيف وبالفأس، وتدافعوا يتباكون على الجدث والرّمس، ثمّ أتوا أباهم عشاء يبكون : يا للنّحس ! هلكتْ بنو عبس ..!

باعوا الخرطوم و الشّام وطرابلس والعراق ، ورهنوا من قبل حائط البُراق ، لشذّاذ الآفاق ...وتراهم يسكبون دموع التماسيح، ويُريقون دم العهر والسّحاق ، ويتنادون مُصبحين: آهٍ يا عراق !

أمّا شيخكم ففقيه مأجور، حاز الدّثور والقصور، وملكَ الدّور والحور ،بينما ضعيفكم مهيض الجناح مكسور، وقويّكم مجبور الخاطر منصور ... أين أنتَ أيّها السّيّاف "مسرور" ،لترى مافعل بعدك أحفاد" الرّشيد" و "المنصور" ؟!

لقد ساد العاهر ، وقاد الفاجر الدّاعر، وأبعِد الضّرغام الهُمام، وقُبِر الشّهم "القَمقام"...

كانت جدّتي تخشى أنْ تقصَع" القمْلة، وأنْ "تصدغ" النّملة، وأنْ تُرهِبَ النّحلة، فمابال جبهة الحُقرة والتكفير، و كتيبة الشّرّ المستطير ، تجزّ الرّؤوس، وتنحر العريس والعروس، في حلب وحمص وطرطوس، بحجّة إحياء أمجاد الإسلام وإطفاء نار المجوس !

يا ولدي البارّ: لقد "نفق" الحمار ، و"طفَسَ" البِرذونُ واستفْيَلَ الفأر، وتُوّج اللّصّ الهاربُ الفار ، بأكاليل الغار ، فهل وعيت كلامي يا حمار؟

قلت: كفاكَ من التّجريح، والكلام القبيح، وخاطبْني بلفظ فصيح ، وكلام صريح ...

ضحك وقال: كلامي لفظ مفيدٌ كاستقم ... يا "شلقم" ، لقد آن للحرّ أن ينتقم ؟ قلتُ : دعكَ من "شلقم" ، وحدّثْني عن وزراء الهمّ ...

أجابني بملء الفم :

أمّا وزراؤكم فهم غارقون في الآثام والدّنايا، ومارقون سارقون يسبحون في بحر الأماني والمنايا، يغتسلون بالأشلاء ويتيمّمون بالشظايا، بعدما قطعوا حبلَ الشّمائل وحُسنَ السّجايا. واعجباه منهم يضمّون الضّلوع والحنايا، ويدّعون وفاءهم وولاءهم للزوايا والتّكايا ...! ويوزّعون على الأموات عراجين التّمر والهدايا ...

إنّك تجدهم في كلّ مقام ، وقد ضخّموا الأرقام، فحوّلوا الوطواط إلى حمام ؟

أمّا مافيا الفساد، فقرآنهم البورصة والعقّار، وذِكرهم الأسهم وارتفاع الأسعار، ووِردهم اليومي الدينار واليورو والدّولار ، فلاتُكثر النّبشَ في رِمم القبور، أيها الغرّ المغرور، وإلاّ تقاذفتْكَ السّجون واحتوتْك القبور ...!

قلتُ : يكفي من الهرس والدّعس ، فقد وعيتُ الدّرس، قال مداعبا ملاعبا: انتهى الدّرس ، وحان وقتُ الطّعام والهرْس، فاشحذِ النّــابَ والضّرس ..

قلتُ وأمعاء بطني تُزمّر وتُصَرْصِر ،وتُطبّل وتُقرقر: لايقربنّ طعامنا "عُمْروط"، ولا يشربنّ شرابَنا "زيطوط"..