*المقامة المُعلّقاتِيّـــة

بقلم: البشيـــر بوكثيــــر

إهداء: إلى أرواح شعراء المعلّقات ، وهي تلعننا في الحياة، ومن بعد الممات، بما فعله السّفهاء منّا والطّغاة، أمراء وملوك القهر والعهر الزّناة، الذين تنكّروا لأمجاد الأشاوس الأُباة...

ليتهم تمسّكوا بنزرٍ من الشمائل الجاهلية،بعدما كفروا بالشّمائل المحمّديّة، ونسوا أصلابهم الحنظلية الباهليّة...

-حدّثنا البشير ، عن جدّه سالم الزّير ، قال:

جُبتُ المفازة والبيداء، وجُلْتُ في الصحراء، وصُلْتُ في المضارب والخِباء، وبكيت على أطلال الشعراء، من نجد إلى الأذواء، وحللتُ بالدّيار، وقد سال الدّمع المدرار، كالأنهار، لعلّ البكاء يغسل العار، ويمحو مقولة "كلام الليل يمحوه النهار"...

ناجيتُ الأموات، في القفر وفي الفلاة، وكلّمتُ الرُّفات، فألفيْتُ القوم هم الأحياء ونحن الأموات، فأجابتني الأصداء، ونطقتِ الرّمم الخرساء، بخطب عصماء ، غابت عنّا نحن الأحياء العقلاء...

وقفتُ ناقتي بقبر الوسيم الجميل، الملك الضّليل، والشّاعر ذي القروح، باني مملكةِ الشّعر ومُشيّد عرصاتِ القوافي والصُّروح، فبلغَ سمعي صوته المبحوح، وقلبه المجروح .

قلتُ يا ذا القروح، دعني بسرّي أبوح:

لقد وقفتَ واستوقفت، وتأفّفتَ وتأسفت، وبكيت واستبكيت، وتشبّبتَ بالغيد، كما كنتَ تريد، وقلت فيهنّ "كيت وكيت"، فهل تتركني أحكي ...ودعك من "قفا نبك"...

أيّها الهُمام، هل يا تُرى أحيّيك بتحيّة الإسلام، وقد ضيّعنا سماحة وطُهر الإسلام، أم أصبّحك بالإصباح ، وأمسّي عليك بالليالي المِلاح ..

فقال: وعليك السّلام ، يا "بعر الأرْآم "...

قلتُ : لاتغلظ لي القول ، فأكشف الأسرار، بعدما أفحشتَ القول وتجاوزت في التهتّك بنساء كالأقمار، فتغزّلت بالأرداف ، ومزّقت حُجب العفاف، وفضحتَ الأطهار، وياليتك اكتفيتَ بـ "الرّقبة جمّار"...

فكنت بحقّ حامل لواء الشّعراء إلى النّار.

قابلني بالصدّ، و ردّ عليّ ذاك الرّدّ ،وياليته صَدّ وما رَدّ :

أجبني أيها الغِرّ، ماذا فعل أمراء العهر، وملوك الغدر، في نجد وقطر، بالمُومسات من كلّ قُطر ؟ بل أجبني عن جرائم "الجيش الهرّ"، حين شقّ أستار الطّهر ، عن عفيفات "الشّام" ، في الصّبح وفي الظّهر ...

بل سلْ ملائكتكم الأطهار، وشيوخكم الأخيار، وقد أدخلوا الغريب إلى الدّار، وأفتوا بجواز انتهاك عرض الحرائر، وشرف الأحرار...

يا هذا ...لقد سلّموا هندا ودعدا للتّتار، في وضح النّهار، فماذا يساوي جُرمي أمام جُرم الأعراب الأشرار؟

أطرقتُ برأسي مثل الجريح ، وألقيت برجليّ إلى الرّيح، فصاح في الآفاق:

هاهي "فاطم " و"أمّ جندب"، قد هاجرتْ من أفعالكم إلى "باب المندب "، عندها الحقّ تهزّ "قرْداشْ" وتندب يا كْرَبْ ...

قلت : إنّك امرؤ القيس ، فلا تجانب القياس واللطف والقيس، واترك العنزة للتيس، فقد رتعَ الملوك كما ترعى البهائم والعيس...لكن أين المفرّ ، يا قطر، من لعنة "مكرّ مفرّ" ؟!

ثمّ عرّجتُ على قبر حكيم الشعراء ، وشاعر الحكماء، في عصر العقلاء، فبادرني : لقد صار الكلب منكم أوفى، "من أمّ أوفى"... لاتوقد على قبري السّراج،ولاتقف "بحومانة الدّرّاج"، وقل لجامعة النّعاج، التي غرست فيكم الاعتلال والإعوجاج،هنيئا لكم الزّواج، بطائرات الناتو والميراج .

لقد سئمتُ تكاليف الحياة، حين تجاوزتُ الثّمانين، ولو عشتُ بينكم عشرين، لذقتُ الرّدى في الحين... يا من ضيّعتم الأندلس وبغداد وفلسطين ، فكيف بالله عليكم رضيتم بالذلّ و"الطْحين" ،والعيش المهين ؟!

فعلا لقد سئمتُ الحياة، بعدما أدركتُ فعلا بأنّكم أموات، تموتون ظمأى بعد هدم نهر" الفرات" .

يا بشير ...سأغلق فمي، فلم "يبق إلا صورة اللّحم والدّم" ...

لقد كانت فينا نخوة جاهلية، وأرومة باهلية،ومروءة عربيّة، وشهامة مُضريّة، وكرامة هُذليّة، ورِفادة قُرشيّة ...

أمّا أنتم اليوم فَرغْوة بلا نخوة ، وغثاء ورُغاء، وبطالة وعمالة، وحقارة ونذالة، خفضتم الهامة، وطأطاتم القامة ، ودسسْتُم رؤوسكم في الرّمال مثل النّعامة ...

طأطاتُ رأسي مثل النّعامة ، وتمنّيتُ لو كنت حمامة...

وجدتني في مضارب قبيلة بني عبس ، أولي الشدّة والبأس..

جلستُ قرب قبر "عنترة" الهمام، والليث الضّرغام، ومُطيّر الرّؤوس والْهَام، بالمهنّد اليمانيّ الحُسام ...

انبعث صوت من عالم الموت: اغرب عن وجهي يا أخا العرب، فقد ألحقتم بنا الخراب والعطب ..

قلت : أعرفُ سبب الغضب، فقد حكَمنا "أبو لهب"، وامرأته "حمّالة الحطب"، تأكل الموزة ، وتكسر كلّ يوم الجرّة والكوزة...

يا عنترة الهمام، قد ساسَنا اللئام، وحكَمنا الأوغاد والأزلام، فأحلّوا قومنا دار البوار، وناصروا الكفّار، ودنّسوا أرض الأنبياء الأطهار ...

قال: لقد قلتَ القول الفيصل،ولو عشت معكم لفرّقتُ جمعهم بطعنة فيصل ...

يا بشير ...إذا مرّت "ابنة مالك" فأخبرها بأنّي هالك، بعدما ضيّعتم البوصلة وجميع المسالك .."رُدْ بالك"، من أمراء الطّوائف والممالك ...

قل لها : يا عبلة "على قبري لاتُسلّمي، ويا دار عبلة بالجواء أرجوك لاتتكلّمي"، وإياكِ أن تحلمي ، فلم تعد السيوف والعواضب تلمع كبارق ثغرك المتبسم "

قلت : ماالمشكل ؟ ألا تأكل؟

قال: "وأبيت على الطّوى...حتى أنال به كريم المأكل "..!

فهؤلاء اللئام، لم يتركوا شيئا يُؤكل ، فقد جعلوكم كالأيتام على موائد اللئام، فهم وأنتم أضلّ من الأنعام..!

قلت: هل غادر الشعراء من متردّم ؟

ردّ فأفحَم: لم تعد حرائرُنا تعرف الدار بل صارت تتوهّم، وعلى كلّ "خنفوس" تتوحّم ، بعدما ضيّع رجالُها فحولة "قحطان" و"جُرهم"...

وبعد طول مسير أنختُ قلوصي قرب الغدير ، بجانب قبر الشاعر الجميل ، و"الفتى القتيل" ... فوجدتني في ديار "طرفة بن العبد" ، الذي لم يبلغ سنّ الرشد، حين علم بما فعله "أبو الوليد " و "أبو العبد" ، فبكى أيام "الشنفرى" و "عروة بن الورد"، لما علم بأنّ الإبل أوردها حمد لاسعد .

وقفتُ على القبر، مقدار شبر،فرأيت صورة كالبدر، وسمعت صوتا كالرّعد :

يا قمر، لاتروي لي مافعله أمير قطر، لقد أوردكم المهالك وأحرقكم بلظى سقر، أشعل النار ، في هذي الديار، لمّا أفتى مشايخ البترو دولار، الذين صلّوا للريال والدينار، ونسوا الجنّة والنار، فسالتْ بفتاويهم دماء الأحرار كالأنهار.

لقد أحببتُ النّوق ، وانتظرتُ الشّروق ، فجاءتني منكم بروق ، "لخولة أطلال..." ببرقة البروق ، تبا لكم يا "آل سرّوق"، نكأتم الجراح والحروق، وسلّمتم المفاتيح، لأفعى لها فحيح ...

تعثّرتْ بي القلوص،في قبلية "تغلب" يا فكعوص، وغشيتني الهموم، ولفحتني ريح السّموم، في زمن مشؤوم... لكن زالت الهموم ،حين سمعتُ صوت "عمرو بن كلثوم"، وهو يُدندن و يحوم:

تبّا لكم يا أخلاف... سُحقا لكم يا أجلاف،قبرتُم سيرة الأسلاف، فراياتكم مثلومة، وحقوقكم صارت مهضومة، وسيوفكم مفرومة، ورماحكم مخرومة، وشبابكم يتسكّع في الحومة، ويقع على الجيفة مثل الغراب والبومة ..

قلتُ : رفقا يا ابن كلثوم، لاتزد من الهموم، سأتناول رأس ثوم ، كي تزول الهموم.

ضحك وقال: لاينفع معكم عسل ولا بصل، لافوم ولاثوم، بل تنفع معكم السّياط، والضرب على القفا بالسّباط ، أيها الأنجاس الأرهاط، لقد برىء منكم "محمّد" كما برىء منكم "الأسباط"...

نصيحتي لكم "البسوا الفساتين ، وضعوا "المناقش" والأقراط ..

قلتُ : لاتعجل لقد لبس شبابنا الفساتين ، ووضعوا المناقش والأقراط ...

قال : يا بشير .."لاتعجل علينا ...وأنظرنا نُخبّرك اليقينا ...بأنّا نورد الرايات بيضا ...ونُصدرهنّ حُمرا قد روينا .".

قلتُ : حنانيك ، هذا في زمن " ألا لايجهلنّ أحد علينا ...فنجهل فوق جهل الجاهلينا "...

غادرتُ رمسَه وتركته يتجرّع بؤسي وبؤسه، ويهمس همسه:

يا بشير ...لاتعجل علينا ...فهذه القدس تشكركم ... يا من رفعتم شعار " الموت في سبيل الله أسمى أمانينا "...تهانينا ...

نزلت بقبيلة "لبيد"، وكأنني طريد أو شريد، وقد"عفت الديار محلّها فمقامها ...بمنى تأبّد غولها فرجامها ...

استقبلني لبيد ،بقول يذيب الحديد :

يا من ضيّعتم حكمة الشيوخ، وعبدتم الجلد المنفوخ، مثلما عُبد هبل ومردوخ ، لكن انتظر، لقد أُكِلتُم يوم أُكل الثور الأبيض المسلوخ ، هل وعيتَ كلامي يا "شخشوخ" ؟

لم أردّ عليه بعدما صار رأسي يدور ويدوخ ، فبلغ الغيظ منّي اليأفوخ ...

وإذْ أنا على هذه الحال جاءتني ابنة "عبد الوارث"، لتُحدّثني عن " الحارث"، قالتْ اسمع ماقال جدّك الحارث:

آذنتنا ببينها أسماء ...رُبّ ثاوٍ يُملّ منه الثّواء ...

قلت لها : حنانيك لاتفكّري ، وأسْمعيني رثاء "ابن حلّزة اليشكري"...

قالت : أعرفُ النداء،" قد أجمعوا أمرهم عشاء، فلمّا أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء ، فهم غثاء، وأعداء ، وعُشّاقُ نساء، ليس لهم مستقبل ولا بقاء "...

غادرتُ المرابع والمراتع، وأنا أحثّ الخُطا وأسارع ،وأسكبُ المدامع، على أمّة وأدتْ السيوف وطلّقت المدافع، وأحيتْ شرعة المزمار والقيان لتشنّف المسامع... تركتِ الأمّة في الجهل ترتع، ولكلّ مستدمر تركع، فلا هي عملتْ بشريعة الإسلام، ولاهي حافظت على شمائل عرب الجاهلية قبل الإسلام ...