التّــبيان في ذكرى وفاة ملك البيان
بقلم: البشير بوكثير/ الجزائر
إهداء: إلى روح جدي الأكبر- في الأدب لاالنسب- الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى في ذكرى وفاته، أسوق هذه المحطّات.

هو محمد البشير، العالم الكبير ، والجهبذ النّحرير، والأديب اللبيب، والشّاعر الأريب، هو من أشرف القوم أصلا ومحتدا، وصدرا وموردا، ونجما وفرقدا، كان غُصّةً في حُلوق العدى ،أذاقهم السّمّ الزّعاف بل الرّدى، وكان للصّحب غيثا وموردا ، ومنهلا للجُود والنّدى، ماغرّدَ طائرٌ أو شدا ، والحمد لله لم تذهبْ جهوده سُدى .

يعود نسبه إلى الأشراف الأدارسة، ذوي الأطلال الباقية لا الدّارسة ،الضّاحكة لا العابسة ، فأكرمْ ياجزائريّ بالأشراف الأدارسة !

لقد عاش في هذا البيت، على قنديل الزّيت ، لايؤمن بـ"لو" ولا بـ "ليت"...!

علّمه عمّه "محمد المكي" الأصول والمُتون، ولقنه شتىّ ضُروب العلوم والفنون، فأتى بمالم يأتِ به الأوّلون، فقرّتْ به العيون، ونام مِلْءَ الجفون،مثلما نام "أبو الطيّب" في تلك السّنون.

بعدها يمّم شطر تونس الخضراء وتفيّأ ظلالَ "الزيتونة" الميمونة بجامعها العتيق، ودرسِها المُمّحص الدّقيق...

ارتشفَ من منهل" الزيتونة"، تلك الجامعة الميمونة، والدّرّة المصونة ، والجوهرة المكنونة، في أفئدة كل جزائري ساكنةً مدفونة، لكن وا أسفا على الزّيتونة ...!، صيّرها أراذلُ القوم اليوم مَهيضةَ الجناح مغبونة.

ثم غادر إلى مصر المحروسة ،في رحلة قصيرة مدروسة ، طلبا للعلوم النّفيسة المحسوسة ، وهناك التقى بقادة الرأي وأعلام الفكر، وجهابذة العصر،ومصاقعة الدّهر ، من كل قُطْر ومَصر ، فأفاد واستفاد، ونهل من أزهرها الشّريف خير زاد، فصار في الورى الأسّ والعِماد.

بعدها غادر إلى الحجاز ، مهبط الوحي ومصدر الإعجاز،وسكنَ المدينة ، فتحرّكت لواعجُه الدّفينة ، وهناك التقى رفيق دربه، وبُطينَ قلبه" ابن باديس" الإمام، والمصلح الهُمام ، والأسد الضّرغام، في ساحِ مُقارعة اللئام الأشرار، فتدارسا أحوال الجزائر تحت نيـْر الاستدمار.

وبعد ثورة الحسين الشّريف - وماهو بشريف من يتحالف مع العدوّ ويُناصرالزّيف، ويقلبُ ظهرَ المِجنّ للطّاهر العفيف-، يهاجرُ العلاّمة الهُمام ، إلى بلاد الشّام ، فتبتسم له الأيام، وتُرخي له الزّمام.

وهكذا ساقته الأقدار، بعد حنين وادّكار،إلى شآم الأحرار، وهناك حلّق وطار ، وصار أشهرَ من علم فوقه نار ...

أنشدَ للغوطة الغنّاء ،مواويلَ تُقطّع القلوب وتُمزّق الأحشاء ، وشدا لدمشق الفيحاء، و ترنّم لحلب لشهباء ، روائع الدّرّ وغنج الدّلال، بل السّحر الحلال، والماء الزّلال بلا جدال.

لقد خلّف ضراغمةً وأشبالا ، وربّى لُيوثا و رجالا ، صاروا فهودا وأسودا وأبطالا ، رضعوا لبان علمه شهْدا و حليبا، فنبغَ فيهم "جميل صليبا" ...

عرفه الجامع الأموي ، في عصره الذهبيّ، فكان نِعم الأستاذ اللغويّ، والشيخ المربي الأبيّ...

ولمّا نادى المُنادي ، حيّ على الجهاد، لبّى النّداء، وعاد للجزائر الجريحة الولهاء، وأسّس رفقة أخيه " ابن باديس" جمعية العلماء ، لإحياء ماضٍ تليد، وتاريخ مجيد، حاول طمسَه الاستدمار الرّعديد .

ماذا عساني اليوم أقول في شيخ جليل حارب الجهل والحيْف، والبدع والزّيف ، ورسم معالم الحقّ بالحكمة لا بالسّيف. فهو المصلح الفقيه، والزّاهد النّبيه ، والشاعر النّادر، والبحر الهادر ، بل المحيط الزّاخر ، باللآلىء والجواهر .فأكرمْ به من مصلح ثائر !

لقد أخذ بيد النّشء إلى الفلاح والنّجاح، وغرس في قلوبهم محبّة آيِ القرآن والحديث الصّحاح، وأذكى مروءة العرب الأقحاح ، ونشر الخير ونثرَ بُذور الإصلاح، فوق هذه الوهاد والبطاح .

و هو ثاني اثنين في الجمعيّة ، بعزيمة قويـّة ، وهمّة ذكيـّة ، وسريرة نقيّة، ونفس أبيّة.إنـّه الأديب اللّبيب ، واللّغوي الأريب، العلاّمة الأمجد، والدرّاكة الأسعد، والنابغة الأوحد...
هو الفهّامة اللّوذعيّ، والعلاّمة الألمعيّ، والخطيب الأروعيّ، والمُفوّه السّميذعيّ: شيخنا البشير الإبراهيميّ الذي جمع فصاحة اللسان، وقوّة الجنان، ونصاعة البيان، فخجل من سحره سحبان .

لقد فاق "الأصمعيّ" في غريب اللغة والأنساب ، وبـَـزَّ "قُسّ بن ساعدة" في البلاغة وفصلِ الخطاب ، وأغاظ البُلغاء والوُعّاظ في سوق عكاظ ، حتّى قلّده "عبد المالك مرتاض"، فلم يأتِ سوى بالرّذاذ.

أبهر "علي الطنطاوي" في سرعة البديهة، والحافظة العجيبة النّبيهة، فهو كعنترة يوم الوغى والكريهة .

هو من نادى طول المدى : لن يتحرّر جسدٌ يحمل عقلا عبدا ... وأنا أقول صدقت يا شيخي "البشير" فقد كنتَ في نحر "قمير" برقا ورعدا، ومُهنّدا صمصاما صَلدا ، لم يعرف يوما له غمدا، ممتشقا للعلا صُعدا.

كان أسدا هصورا، وهزبرا على الأهوال جَسُورا، ومُصلحا فذّا صبورا، ومجاهدا غيورا،يبغي تجارةً لن تبورا ...

لقد أتى في منفاه بــ"آفلو" بالفرائد، فزيّن الطّروس بالقلائد ، فأكرمْ بها من درر وفوائد ...!

حاز التقدير والوقار، وغرّد في سمائنا مثل الهزّار، فحفظ الأسرار، وبلّغ الرّسالة بكلّ اقتدار ، أكرمْ به من شهم مغوار ، لايشقّ له في ميدان البيان والجهاد غبار ..!

هو من وَشَمَ على جِيدِ الجزائر الحُبّ الصادق، ورسَم على هامتها الوفاءَ الخارق، ووسَم على قامتها الوردَ والزّنابق ، ودبّجَ بالدّمقس والنّمارق ،أحلى الرّقائق، وأقسم في حبّها بـ"السّماء والطّارق "، ولاغرو فهو سليل عقبة وطارق .
هو الرّجل الرّشيد،و العقد الفريد، والبلبل الغرّيد، والفكر السّديد، والمُربّي الفذّ الصّنديد، ومسطّر المجد التليد ، لأُمّة لن تبيد، بعزم يفلّ الحديد، وحزم يقهر الجبان الرّعديد. وهاهي ذكراه ، تتردّد على الشّفاه ، فكيف بربكم نسلو عنه أوننساه؟!

ذكراه دوما تعود، بالخير والبِشر والسُّعود،فترسم على الشّفاه البسمة واليُمنَ والجود، فكيف ننساه وهاهي ذكراه تتجدّد ويتردّد صداها في الوجود، ولابدّ أن تعود لتأخذ بناصية الأجيال وتقود، إلى المجد والسؤدد والصّعود، وتنثر عبقها مثل العنبر والعود، ويتضوّع أرجُها ليُسكِرَ الزّهر والورود، وأيْمُ الله هذا لساني "لي ياكلوا الدّود" عاجز عن التعبير في حضرة أسد الأسود .

ومهما أسهبتُ وأطنبت، ودندنتُ وأطربت ،فلن أزيد في القمر نورا ،أو في نفوس الورى سرورا . لقد كان السّنا والشعاع، والمؤانسة والإمتاع والإقناع ، وروعة الفكر وقمة الإبداع، وحكايته مع فتنة الضّاد صنعت الدهشة والإمتاع ، وترحاله في أرض الله بسطَ له جناح الفهم والإقلاع بلا شراع .

لقد تعرّفتُ على فكره منذ الصّغر ، فطافت بخَلدي أحلى الصّور، معلّما مصلحا يريد الظّفَر، يبني العقول يدكّ الحجر ، فيصنع في سنوات ، شبه معجزات، وتصير الفيافي بساتين خصبٍ ربوع نماء وحياة .

حارب الجهل والجمود، وقطع آلاف الحدود، متحديا كلّ القيود ، كاسرا جدران السّدود، فطلع النهار ، وأزهرت القفار، وتحقّق الانتصار ، على فلول الاستدمار، وانجلى الصّقيع، وأمْرعَ عشبُ الرّبيع، واكتسى بالوشي البديع ، معلنا ميلاد شعبٍ لا يبيع ، حفنةً من ثرى الوطن المنيع .

حديثك العذبُ -شيخي- تذوقناه عذبا، أينع زهرا وحَبّا ، وأورقَ وفاءً وحُبّا ، وسكن فؤادا خاليا واستوطن قلبا ، يهيم بحبّ الضادّ وينجذب إليها جذبا .

كلماتك-شيخي- ضمّدت جروحي، وبلْسَمت قروحي، وسمَتْ بمهجتي وروحي ، وشادت في الورى صروحي، وكانت ملهمتي بل نبضي وبوْحي ...
هل يوجد أشجع ممّن عمل في أشرف ميدان،وذاد عن حرمة التعليم الحرّ والإصلاح بأقوى سلاحٍ وأمضى سِنان ؟ وهو ميدان بناء الإنسان ، وتهذيب القرائح والأذهان ؟
لقد بلّتْ نفحاته وشوارده اللغوية ما في جوانحي من الصّدى ، وأنعشتْ عقلي الكليل انتعاشَ الزّهر بِلَثْمِ قَطْرِ النّدى ، وهزّتني فصاحتُه هزّةَ النّشوان، وسَحرتْني آياتُه الحِسان ، فجعلتني مثل العربيد السّكران -وإنّ من البيان لسحرا - ، هكذا نطق العدنان.
يا أحفاد الإبراهيمي الأمجاد:
لقد رضع جدّكم البشير لبان الضّاد، و تغنّى بها في كلّ ناد ، وحمل رسالة الأجداد، بهمّة أعجزتْ الصّناديد الشِّداد ، وكان لأعدائها دوما بالمرصاد، وهاهو ذا يتركها أمانة بين أيديكم أيها الأحفاد ، فهل تحفظون العهد ، وتذودون عن هذا المجد ؟
اسمعوا دُرر محمّد العيد آل خليفة حين صدح، مثل البلبل حتى بحّ ، وتذوّقوا أبياته السائرة واضربوا النحّ:

له قلم إنْ رامَ دفعَ الأذى بــــه *** فرمحٌ رُدينيّ وسيفٌ مُهنّد

وإنْ رامَ إذكاءَ العقول فمشعل*** وإنْ رامَ إرواءَ القلوب فمورد

وإنْ رامَ وصْفا فهو أجمل ريشة *** لأبرعِ رسّامٍ على الفنّ تُسعد

لقد كان للفصحى أباها وأمّها *** ومرجعها إنْ ندّ أو شذَّ مُغرّد