فجر العلم الحديث ، الإسلام ـ الصين ـ الغرب
The Rise of Early Modern science - Islam, China and the West
3ـ العلم الحديث نتاج للتفاعل بين الحضارات
من الصعب وغير المألوف أن نجد باحثا أمريكيا متخصصا في تاريخ العلوم أن يكون محايداً ونزيها في حكمه على الدور الذي قام به العلم العربي الإسلامي في تطور العلم الحديث ، ولكن د. توبي هف بقسم تاريخ العلم بجامعة هارفارد كان باحثا أمينا فقد قام بتأليف كتابه The Rise of Early Modern science - Islam, China and the West والذي تم ترجمته تحت عنوان " فجر العلم الحديث ، الإسلام ـ الصين ـ الغرب " بعد أن نشرته جامعة كمبردج عام 1993.أ . د. مسلم شلتوت
يقول د. توبى هف : لعل أكثر ما يثير الدهشة هو أن الحضارة العربية الإسلامية كانت تملك أكثر العلوم تقدماً في العالم قبل القرنين الثالث عشر والرابع عشر. فقد تفوقت منجزاتها في البصريات والفلك والطب والعلمين الرياضيين الهندسة والمثلثات على ما كان عند الغرب أو الصين. ونعرف كذلك أن العلماء في العالم الإسلامي كتبوا رسائل في العلم التجريبي .
يقرر د. توبي هف أن العلم نشاطاً اجتماعياً مستمراً له أبعاد حضارية لا يمكن إنكارها ، فإن الحديث عن البنى والمؤسسات الموجهة التي وجهت الأطر الأخلاقية والدينية والقانونية للمفكرين من الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى أو في الصين أو في الغرب الأوروبي ، لا هو من قبيل العرقية ولا النزعة الاستشراقية . ويشير د. توبي هوف هنا إلى مستوى الخطاب الرمزي والفكري الذي اكتسب الطابع المؤسسي وشارك فيه المثقفون في مناطق متناثرة على امتداد هذه الحضارات كلها بدرجات متباينة وبأشكال متفاوتة. ولذا فإن العلم الحديث ليس نتاجا حضارياً فقط، بل هو نتاج للتفاعل بين الحضارات.
لقد كانت مساهمات الحضارة العربية الإسلامية في تطور العلم الحديث بادئ ذي بدء ـ ويقصد مساهماتها في إغناء مخزون المعرفة ، سواء منها المنطقية أو الرياضية أو المنهجية ـ قبل اضمحلالها بعد القرنين الثالث عشر والرابع عشر كانت هذه المساهمات مساهمات مهمة. حيث يرى أن انتقال المعرفة العلمية والفلسفية التي تراكمت واختزنت في الحضارة العربية الإسلامية إلى الغرب من خلال الجهود العظيمة للترجمة التي قام بها أوربيو العصور الوسطى، كان له أثر عظيم في مسار التطور الفكري الغربي. وهذا يعني أن العلم الحديث هو نتاج صلات ما بين حضارات تضم التفاعل الذي جرى بين الغرب والمسلمين والمسيحيين ولا تنحصر فيهم ، ولكنها تضم أيضا "حوارات أخرى بين الأحياء والأموات " شملت اليونانيين والعرب والأوربيين ".
إن بعض الناس يقولون إن التراث الفكري اليوناني والتزامه بالحوار العقلي واتخاذ القرارات من خلال المنطق وقرع الحجة بالحجة بوجه خاص، هو الذي حدد مسار التطور الفكري في الغرب بعد ذلك. ويقول د. توبي هف أننا لسنا ملزمين بقبول هذا الرأي للاعتراف بأهمية التراث اليوناني للعمل الغربي، فالمساهمة الأهم هي أن العلم الحديث هو حصيلة لصلات متعددة مستمرة بين الحضارات دامت على مدى قرون.
إن العلم الحديث الذي نشأ في الغرب غدا علما عالميا بشكل متزايد من حيث أنه صار متاحا لشعوب العالم كلها. لقد غدا هذا العلم ، بتعبير جوزيف يندام " علما بلا هوية طائفية " . وطبقت بهذه الصفة على الظروف والمعارف المناسبة في جميع أنحاء العالم. واليوم فإن عدداً كبيراً في البلاد العربية والإسلامية يسعون سعياً حثيثاً للحصول على المعرفة والمنافع التي يقدمها العلم الحديث مثلهم مثل غيرهم. ومهما تكن العيوب التي يجلبها العلم الحديث في مسيرته فإن فوائده من حيث مستويات المعيشة الحديثة ، ولا سيما في مجال الصحة (العقلية والجسمية على حد سواء) ما يشيد بها ويطلبها الجميع على أنها من حق جميع الشعوب ، بغض النظر عما إذا كانت قبائلها أو بلادها أو جماعتها قد قدمت شيئا لتلك الثروة من المعرفة التي ليست لها هوية طائفية.