صديقي ابو عساف،أو،ناسك الجبل ينزل حفرته الأبدية!
د. ماجد توهان الزبيدي

كل مايعرفه عنه الناس الذين يقدرونه من معارفه واصدقائه الكثيرين كنيته ليس إلأ:ابو عساف! إلى درجة أنني جار له في الأرض منذ عقد من الزمان ونيف ولااعرف إسمه الثنائي أو الثلاثي!
هو مقل في الحديث عن نفسه واهله وحياته ،وانا بطبعي لا أحشر انفي في خصوصيات الناس!!لكن الناس من معارفه يرددون أنه كان يعيش في أميركا وترك زوجه وأولاده هناك لأنه لم يطق الحياة وسلوكياتها وهو القادم من قرية صغيرة من قرى رام الله لبلاد العالم الجديد!
ويقول بعضهم :إن الولد عساف ضابط بالجيش الأميركي،لكنني سمعته غير مرة يقول أمامي :"لي بنتان في الهاشمي الشمالي بعمان " وأتذكر أنه قال إسم واحدة منهما"ميسر"! فإقتنعت أن صديقي الطيب وجاري في الأرض ابو عساف متزوج !وصرت أردد ماسمعته من الناس عن عائلته في أميركا!
يعرفه كثيرون من أهل مدينة الحصن وجوارها من القرى والمخيمات ويجمعون على حسن أخلاقه وضيافته لهم ومساعدته لمن يؤم الجبال بحثا عن الدفائن/الأثريات!فهو يسكن دارة متواضعة وسط مزرعة مؤلفة من ستة دونمات ونصف الدونم مزروعة بأشجار الزيتون والتين الشوكي(الصبر)والتين واللوزيات جنوب مدينة الحصن ،إلى الجنوب من قرية الفوارس السياحية ،قرب دارة ومزرعة الشيخ عيسى الرجوب عافاه الله!
كان يعيش وحيدا في دارته التي إشتراها والمزرعة من إحدى عائلات الحصن ،ولم يسكن في جواره أحد لسنوات قليلة خلت إلى أن إشترى مجموعة من الناس من عشيرتي الدعوم والصقور من أهالي الغور الشمالي ومخيم الحصن عدة قطع من الأراضي وبنوا بيوتا مستقلة بالقرب من بيت أبو عساف ومزرعته ووصلت الكهرباء للحي وصارت المنطقة تعج بالحياة وبات صديقي "ناسك الجبل"صديقا للقوم الجد الوافدين يوزع عليهم مجانا محصول مزرعته من "الصبر" وأثمار اللوزيات والحلويات،وكنت أنا آخر المشترين للقطعة المجاورة لصديقي من جهة الشمال والمؤلفة من أربعة دونمات إلأ ربعا، رايتها معروضة للبيع أوائل العام 2006 أثناء قيامي بزيارة عائلية لأبي عساف في مزرعته ، وتولى هو شرائها لي بعد شهرين بسعر لم أحلم به وموفرا على جيبي بضعة آلاف من الدنانير دون أن ينتظر مني كلمة شكرا أو حمدا أو عمولة أو سمسرة كما يفعل مئات من "الأساتذة" وغيرهم من المتقاعدين وغير المتقاعدين ممن يمتهنون عن دراية أو عن غير دراية سمسر الأرض والعقارات ولايؤمنون أن الدال على الخير اجره على الله وحده! فتجد زميلا لك او جارا تحدث أمامك عن قطعة أرض ،وهو ليس له علاقة بالسمسرةأومكاتب العقارات،فإن شتريت إنت من صاحبها مباشرة ،فقدت رد السلام من جارك وأخذ منك موقفا غاضبا ومتبرما وقاطعك لأنك لم تدفع له سمسرة!!بإعتباره صاحب الفكرة أوالدلالة!(كأن المسألة براءة إختراع يجب أن تسجل بإسمه!!)
كان ابو عساف يقضي معظم وقته ويومه يتحدث مع أشجاره يحنو عليها ويسقيها ويغذيها وينظفها ،لايبيع شيئا بل يطعم جل محصوله للناس !فترى البعض من الرجال من
يتشاركون مع النساء في عادة "الوحام" يلتهمون الثمر قبل أن يطيب! ولم يكن الرجل يدخن أو يشرب "الشيشة"او يلعب الورق،غذ كان يأوي لفراشه مبكرا بعد يوم حافل بالتعب وهو الذي تجاوز السبعين من السنين !
كل يوم يهبط بسيارته البيضاء القديمة النظيفة مدينة الحصن في الضحى يشتري الجريدة اليومية وربطة خبز "سوداء" لمكافحة السكري ويعود إلى دارته في سفح الجبل ويعتلي العلية ثم يأخذ بإلتهام الأخبار ،من حوله قهوته ومذياعه!والنسيم القادم من"كوكب حيفا"يدعب وجنتيه!
وأثناء زراعتي لأرضي وزيارتي لها تحدثت مع جاري أبو ساف ساعات طويلة في كل امور العامة فوجدته قد خبر الحياة وناضل في العمل فيها في شق الطرق والخلاطات وقيادة الجرافات من جنوب الأردن إلى شماله منذ ستينيات القرن العشرين ،لكن ماأثار فضولي هو عزة النفس التي يتمتع يها الرجل!!فهو إن أشرف على الهلاك لايطلب من أحد طعاما!وكثيرا ماقال لي عندما ألح عليه بمشاركتي في بيتي غداء يوم الجمعة :"ياصديقي يصدف أنني أزور إبنتي ميسر في عمان وأكون جائعا فلا أتناول شيئا إلى أن أعود لبيتي هنا في هذا الجبل"!!بل كثيرا ماأرجع بعض مواعين الطعام التي تأتيه من محبيه!لكنه يجبرك على حمل مايلتقطه لك من ثمار!
الأمر الآخر الذي أكبرته في "ناسك الجبل"أو صديقي هو درجة وعيه في قضايا أمته ووطنه :فهو مع حركات المقاومة العربية ظالمة أو مظلومة ،مثلا،ولم تنطل عليه كما إنطلت على آلاف من معلمي الصبيان" وموظفي الحكومات ومرددي تفاهات الأجهزة التشكيك في وطنية ومصداقية تلك الحركات الباسلة وقياداتها التي حققت في المواجهة مع أعداء الأمة من أميركيين وصهاينة ماعجزت عن تحقيقه جيوش وانظمة! فهو مع وحدة الأمة بكل مذاهبها وأعراقها وفسيفسائها العرقية، ومع ضرورة تمتين عرى الأخوة والوحدة بين أمة العرب وما جاورها من أمم إسلامية وفي المقدمة :إيران وتركيا!
وكنت أقول له :ياابا عساف إن لبدنك عليك حق!إرتح قليلا من العمل في الأرض،يرد علي:أنا عشت ياصديقي في قرية فلسطينيةيقطن إلى جوارها مستعمرة يهودية زراعية فتأثرت بأصحابها! ويضيف:"من أفضل:العمل أم ممارسة النميمة ونفث الدخان"؟!
اليوم الجمعة الموافق للسابع من أيلول من العام الحالي 2012م ينزل صديقي ناسك الجبل كعادته للحصن فيشتري الصحيفة وربطة خبز ويعود القهقرى لكنه في منتصف المسافة وقبل تقاطع لتم/الحصن تضرب سيارته إحدى إشارات الأشغال العامة فتقف السيارة وتتعطل ويخرج الرجل دائخا وعاضا على لسانه ،ويراه في الحال صديق له قرب المكان فيسعفه لمشفى الأمير راشد العسكري في بلدة إيدون الذي لايبعد سوى أقل من أربعة كيلومترات لكن إرادة المولى أن يصلها صديقي مفارقا الحياة!
صدفة بعد أقل مكن ساعتين على لحادث واثناء توقفي في شارع السوق بالحصن يقول لي شاب من شباك الباص:أركض على المشفى العسكري صديقك ابو عساف مات!!
بسرعة البرق وصلت المشفى فحولني الطبيب لمشفى بديعة غربي مدينة ربد حيث يتم الآن تشريح جثة ناسك الجبل!
هناك وجدت العديد من الناس من محبيه !!صلينا الجمعة على مقربة من لمشرحة ثم خرجت جثة الرجل فقبلته ثلاثا على جبينه وسامحته !لم يكن هناك أية كدمات على جسد الرجل كما أكد الأطباء وكان وجهه يشع نورا!!..إنه جلطة السكري!!ألا لعنة الله على السكري!!
قبل أسبوع تقريبا أتاحت لي الصدفة أن التقي بالرجل في أحد شوارع الحصن ...سلمت عليه وعاتبني لندرة زياراتي له في الجبل وسأل عن كل فرد من أفراد أسرتي صغيرا وكبيرا!
وكان أكثرنا تاثرا أمام الجثة في المشرحة صديقنا المشترك معلم المدرسة ابو محمود الدعوم!الذي كان يسهر معه بين المغرب والعشاء كل يوم تقريبا ،فقد بكى الرجل كثيرا ثم قال:أشهد ياجماعة أن المرحوم ذكر أمامي الموت لأول مرة أول من أمس !وقال لي :ياابا محمود إذا مت انا هل سيضعوني في حفرة نصف متر عرضها؟أنا لاأطيق الضيق!ياحبذا لو يضعون جثتي في الهواء على سفح جبل ويتركوها!!
وأذكر أن المرحوم كان يعشق الحرية والهواء والنسيم والتراب!نعن كان يشم التراب بأنفه!وكان يأكل من تعب يديه،عزيز النفس ،لايتزلف لمسؤول ولايمتدح ذي جاه،معتدلا في لباسه ومأكله ومشربه،ويواصل الأيام بالعمل وقراءة الأخبار والإستماع لأخبار أمته العربية يوساطة المذياع والتلفاز وكان له آراءه الخاصة غير المتأثرة بمراكز القوى في كل شيء يهم أمته :سياسة وإقتصادا،فتميز بذلك عن ملايين الدكاترة والمهندسسين والمعلمين وطلبة الجامعات ممن أخذوا صفات الماء أو تلبستهم!بعد أن تخلوا طواعية عن الميزة الوحيدة التي تميزهم عن بقية مخلوقات الله:العقل ثم الوعي!!ولم يكن الرجل رحمه الله يفرق بين أبناء وبنات أمة العرب ولم يؤمن يوما بالطائفية والمذهبية وكل صنوف النعرات والتقسيمات التي غرسها في أجزاء من أجسادنا الغزاة وعملائهم ممن يتقنون العربية!بل كثيرا ماكان يجود بالسكر على أسراب النمل في أنحاء مزرعته!
أمام جثته عرفنا لأول مرة الحقائق التالية عن "ناسك الجبل":إسمه الكامل:عبد المنعم احمد
خليل طه من قرية رافات من قرى رام الله ،العمر:73 سنة/الحالة اجتماعية:عازب!!!نعم عازب لم يكن قد تزوج بعد! أما "ميسر"فهي إبنة شقيقته حضرت والدموع والعويل والصراخ غطى منها الأرجاء!!
رحم الله جاري ناسك الجبل الذي رمت به المؤامرات ضد فلسطين وأهلها في أعالي الجبال من أرض الشتات ومات وحيدا بعيدا عن ربعه ووطنه!!