*شتاء 91
لمّا حلّ الشّتاء ,أعاد" ميمس البحر " ترتيب قنطرته التي لا يسكنها أبدا وجعل قبالة شبّاك العمارة المجاورة فزّاعة على هيأة طفل يبتسم ثمّ نذر جلّ وقته لتتبّع حركة ذلك الجسم الصّغير داخل البيت المواجه للقنطرة ...كان طفلا يلوي عنقه ويصيح بأعلى صوته آمرا أمّه أن تزغرد ... رنّت كلماته في مسمع "ميمس البحر" ... "تسعون ألفا يا أمي ...انظري إلى الشّاشة ... ها هو يظهر ... ها هو يصلّي ...زغردي ...زغردي ..." ابتسم "ميمس البحر " فسقطت إحدى الأسنان المخلوعة أصلا .همس ميمس في أذنه "لا بأس كانت تقلقك كثيرا " ...وكالعادة نزلت الأمطار في ذلك الشّتاء غزيرة وجرفت كلّ ما رتّبه ميمس داخل قنطرته ولكنّه كالعادة لم يكترث للأمر ...لوى عنقه وأعاد الهمس في أذنه : " لا بأس يمكن تعويضها ..." لقد دأب "ميمس البحر " على الخروج ليلا إلى جدران المدينة ليخطّ عليها رسائل العابرين بلا غاية وكان يوقّع أسفل كلّ رسالة بجملة يزعم أنّه لا يحفظ غيرها بقدر حفظها "العالم يمضي في الخيانة " وما إن ينهي عمله المقدّس حتّى يأوي إلى صورة القنطرة في خياله ... كان يرحل إلى ما تبقّى من العمليّات الحسابيّة التي لم يتمّها فيثاغوراس والخوارزمي والتّي تجاوزها الزّمن بقدر خريف مضى أو أكثر : تسعون ألفا تقابلها مائة وعشرون من المغرّر بهم ومليون ماذا يقابله ؟ أمطار أغسطس تساوي بلل الصّحراء ونصف" قرعة" مبلول ...في ذلك الشّتاء الشّديد على البشر والدّمى انطوت الصّحراء على نفسها تقارع التّاريخ والذّاكرة :نصف تغطّيه الأوحال والنّصف الآخر استبدّ به الحديد ... وجد "ميمس البحر " نفسه مدفوعا إلى الانطواء والعزلة فترك الجدران وترك الرّسائل وهجر الرّغبة والهوى وعاد يؤسّس لفهم مقبول لجملة الصّبيّ التي ما انفكّت تتردّد في مسمعه الأيسر دون الأيمن تلك الجملة التي أحدثت فيه شروخا لا تلتئم ...وهبّت عواصف الشّتاء النّديّة وعاودته الفكرة النّكرة وقرّر في الحين أن يعاود الكرّة ويفعلها ...: إنّ الحوامض تساعد على تنمية مواهب الحساب " فصنع لنفسه حوضا ملأه في الحين بحامض استخرجه من روح الوهم ثمّ نزع سرواله وجلس في السّائل الذي غمره حتى العنق ..." جميل أن ينتصر ميمس على القنطرة والنّدى والأوراق اللّمّاعة ...وفي الصّباح بدأ "ميمس "العدّ والحساب خمسة آلاف وبضع كيلومترات بحساب ساعة الانطلاق إلاّ خمس ....أكياس الحامض في السّوق السّوداء ب.....والهمّة فوق كلّ اعتبار .." العاصفة الثّلجيّة...آه من العاصفة الثّلجيّة ...العاصفة الثّلجيّة جمّدت أطرافه وبعثرت كلّ أولوياته وانتصرت على أجهزة التّبريد الاصطناعيّة التي كان " ميمس البحر " يتحكّم بها في الزّمن صاح .تنكّر سيّد البحر " ميمس البحر " غلام النّواتي :" زغردي يا أمّي تسعون ألفا ...زغردي ...ها هو يصلّي " ثمّ أنزل أصابعه المرتعشة يتحسّس بها جسده اللّدن الغائص في الحامض فطارت بعض النّتف من اللّحم صوب الشّرق ... فأبرق شيخ البحّارة "ميمس" إلى أبي موسى الأشعري يخبره بنزول الثّلج الذي بدت بوادره في القرن الخامس أو السّادس أو السّابع قال في سرّه مخافة أن يسمعه الضّمير المستتر والذي لم يقدّره بعد "الثّلج في صحراء العرب ...وأخيرا "واستلّ قلما من لحيته التي ذهب أكثر شعرها وكتب بلغة لا تفهمها المعاجم وغمس القلم في الحامض وجعل يكتب على كفّه :"أبا موسى ...يا شيخي الموقّر ...انقطعت عن الكتابة وفزعت بنيّتي إلى الحساب بيد أن العاصفة الثّلجيّة التي هبّت على أرض العرب أسكتت كلّ الرّغبات وعطّلت كلّ الأجهزة التي أعددتها للتّكييف ... استبدّت بي الحيرة يا شيخي ...هل أترك الحساب أيضا وأقبل على الكيمياء التي نفقت سوقها ومازالت ؟لا ريب يا شيخي أنّك تعلم أنّ وقفة لقراءة بيان خطّ على الجدار أثمن ألف مرّة من الانطواء في مخبر تسدّ الريح أبوابه ويمتصّ الوقت ... " وحينما أنهى أطلق كفّه للرّيح فرحلت الحروف وجاء الصّدى والرّجع :" أيّها الرّاحل في درب الحامض اترك ما أنت فيه ولا تشغل بالك بالصّحراء والعاصفة والثّلج ما قدّر اللّه يكون ...عد بسرعة للكتابة ... لن تظفر برضاي ما دمت تسأل عن الكيف ... لا تسفّه براهين التّجلّي وانحر عصافير البؤس .." ضاق الحوض فبلغ الحامض أعلى الرّأس وانقطع" ميمس" عن التّبرّز وكبرت كلّ الأشياء في عينيه ...وعادت الأمّ إلى الزّغردة وهي تشقّ صفوف المجاهدين وهي تردّد في صوت كالنّشيج :"تسعون ألفا ...تسعون ألفا والصّحراء ..والحديد "وفي إحدى اللّحظات الشّاردة نزل ركب أبي موسى بالحوض المملوء حامضا وجاء معه بمخطوطات قديمة جدّا وبمعاهدات وقّعتها أنامل مرتعشة ومستساغة إلى أبعد الحدود ...استلّ الشّيخ أبو موسى تلميذه "ميمس " من الحوض وجعل يشير إلى مكان التّوقيع ليكون بيان البيان المشترك نافذا :"نحن شيوخ الإسلام لهذا العهد نعلن ما يلي : لقد انقطعنا عن تكميل معادلات الحساب ونعلن أيضا أنّنا نعود منذ اللّحظة إلى الكتابة على الجدران وعلى كفّ الزّمان ليلا وعند السّحر وسنعمل على تفسير ما نكتب كما نعلن أنّ أهل الحساب مرقوا من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة ذلك لانّ اللّه حرّم على عامة خلقه حساب السّاعة ..."في الوقت نفسه كان الثّلج يسحب غطاءه الأبيض ويغمر به بقيّة الصّحراء ولم يعد يُرى شيء عدا الحديد الجاثم على صدر الخصوبة المخصيّة منذ الزّمان ....وبرز طفل يركب دابة وهميّة يتتبّع آثار أبي موسى ويتشمّم طريقه بنباهة مفرطة وحين وصل غاظه أن رأى "ميمس " يلبس سرواله ويخرج من الحوض ...كان المسافرون الواقفون بالمحطّة في انتظار القطار مدهوشين وهم يتساءلون في حنق :" ما هذه الخيانة؟ لماذا لبس سرواله والأمّة تقاتل ؟ والحساب لمن يتركه ؟ والقنطرة والسّيّدة السّاكنة في العمارة قبالة القنطرة ...والطّفل العائد من الهجرة والدّابة الوهميّة ذات الأجنحة ؟" وصل "ميمس " إلى محطّة القطار في جزء الوعي باللّحظة ... وضع حقائبه جانبا وذهب لاقتطاع تذكرة سفر إلى آخر محطّة يتعب فيها القطار ...
في شتاء ذلك العام نزلت الثّلوج بغزارة فتنكّرت الصّحراء والتحم الفريقان ...كان آخر شتاء يقضيه "ميمس " في القرية تمايل ميمس ...جسده اللّدن يكاد ينفصم وأصابعه الرّخوة لا تقوى على حمل الحقائب وصفّر القطار منطلقا إلى آخر محطّة يتعب فيها ...وعادت الزّغردة...وعاد الحساب في الذّاكرة المتروكة ...
السّعفات في 27نوفمبر1991
توفيق بن حنيش
منقول من :*****
